فنانون فلسطينيون يكرمون "الحمار" في غزة

محاولة لفضح زيف المزاعم الإسرائيلية والغربية حول حقوق الإنسان

AFP
AFP
فلسطيني يقود عربة يجرها حمار على السجادة الحمراء خلال مهرجان سينمائي يُعنى بحقوق الإنسان في مدينة غزة، 12 مايو 2017.

فنانون فلسطينيون يكرمون "الحمار" في غزة

غزة: على شاطئ غزة، حيث يختلط صوت الموج بصفير الطائرات، ويمتزج رمل البحر بتراب المقابر الجماعية، مُد بساط أحمر، لا ليخطو عليه رئيس دولة أو نجم سينما، بل ليمشي فوقه حمار، ومن حوله يصفق حشد من الناس.

هكذا، بحركة فنية أشبه بالكوميديا السوداء منها بالاحتفال، أقام فنانون فلسطينيون فعالية تكريم للحمار، ذاك الرفيق الذي شاركهم رحلة النزوح والجوع والموت.

هدف تصوير الفعالية وسط حشد شعبي، ومن الفنانين والمثقفين، استغلالها في صناعة فيلم وثائقي بعنوان "حمار السابع من أكتوبر"، الذي يهتم بتكريم الحمار في غزة خلال حرب الإبادة. هذه الفعالية أتت بالتزامن مع تسليط الإعلام الإسرائيلي الضوء على قيام الجيش بسحب عدد من الحمير من غزة خلال الحرب، ونقلها إلى جمعيات إسرائيلية، بهدف "حماية الحيوان".

تركز السردية على ادعاءات تفيد باهتمام إسرائيل بنقل تلك الحمير بهدف حمايتها من الحرب، ومعالجتها من الأمراض وسوء التغذية والأمراض النفسية التي حلت بها خلال الحرب، وكذلك بسبب مزاعم عن "سوء معاملة" الغزيين لها، وإجهادها بشكل مستمر.

تركز السردية على ادعاءات تفيد باهتمام إسرائيل بنقل تلك الحمير بهدف حمايتها من الحرب، ومعالجتها من الأمراض وسوء التغذية والأمراض النفسية التي حلت بها خلال الحرب

"المجلة" التقت الفنان معتز الهباش، الفنان والناشط الثقافي ومنتج الفيلم الذي وثّق هذه الفعالية، والمخرج مصطفى النبيه، شريكه في العمل. يعيدنا الهباش إلى البدايات: "في عام 2022، قبل الحرب، تابعت تقارير إسرائيلية تزعم أنها منعت دخول خمسين حمارا إلى غزة، مدعية أننا نسيء معاملتها ونستخدم جلودها للتجارة. كانت حججا واهية. ومنذ ذلك الحين بدأ الحمار يشغل مساحة في تفكيري. كيف يصبح حمارٌ رمزا للصراع على الإنسانية؟".

AFP
حمار يجر عربة محمّلة بأغراض نازحين من بيت لاهيا إلى مدينة غزة، 22 مارس 2025، بعد استئناف العمليات العسكرية الإسرائيلية

يضيف: "فكرت حينها بعقد مؤتمر عالمي للحمير على شاطئ غزة، لتزيينها وتقديمها في أفضل صورة، سخرية من رواية الاحتلال، وللمطالبة بإدخال ما مُنع من الحمير، لكن الفكرة نضجت أكثر خلال الإبادة".

بالنسبة إلى الهباش، الحمار ليس مجرد دابة، بل هو جزء من الذاكرة الإنسانية، "الحمار يعيش مع الإنسان، ينقل البضائع، يساعد المزارعين، ينقل الجرحى في ظل منع الوقود عن سيارات الإسعاف. الاحتلال يعرف رمزية هذا الحيوان للكادحين، لذلك يستهدفه ويصادره".

يضيف بابتسامة مرة: "تعمدتُ جعل الحمار يسير على السجادة الحمراء، تلك التي يخطو عليها الساسة والنجوم، لأقول للعالم: هذا الحمار خدم غزة أكثر منكم جميعا".

الحمار مثلنا يُقتل ويُهجر

أما المخرج مصطفى النبيه، شريك الفعالية، ومخرج الفيلم، فيرى في الحمار مرآة لحياة الفلسطينيين: "منذ طفولتي، تعلمت أن كل مخلوق وُجد ليُكمل المخلوقات الأخرى. خلال الحرب، وجدت الحمار في كل زاوية من التوثيق: يشاركنا الجوع والخوف، يتقاسم معنا الخيمة، يتلقى القصف دون أن يشكو".

AFP
صبي يربّت على عنق حمار وسط أنقاض حي اليابانية، شمال غرب خان يونس، بعد قصف إسرائيلي ليلي، 28 يوليو 2025

يروي النبيه حادثة اختزلت كل المعنى: "رأيت حمارا وأتانا يعيشان مع عائلة نازحة. هجروا الحمار معهم وتركوا الأتان في الخيام. قاومت الجوع حتى ماتت، ودفنوها كما يدفنون إنسانا. أما الحمار فحزن عليها حتى مرض. عالجوه بالعلاج الشعبي ودواء بيطري، كما يعالجون طفلا مريضا. هذه الحكاية البسيطة تختصر كل شيء: نحن والحمار، نُساق إلى الموت دون ذنب".

تعمدتُ جعل الحمار يسير على السجادة الحمراء، تلك التي يخطو عليها الساسة والنجوم، لأقول للعالم: هذا الحمار خدم غزة أكثر منكم جميعا

معتز الهباش

أراد الهباش من هذه الفعالية فضح التناقض العالمي: "هناك جمعيات إسرائيلية وأوروبية زعمت إخراج الحمير من غزة لـ'حمايتها'، بينما يقتلون مائة فلسطيني يوميا. هذا العالم الذي يتعاطف مع الحيوان، ويغض الطرف عن إبادة شعب بأكمله، هو عالم فقد كل قيمه".

ويتابع: "كان تكريم الحمار وسيلة لفضح هذا الانهيار الأخلاقي، ووسيلة لإجبار الأوروبيين على مواجهة تناقضاتهم. أردنا أن نقول لهم: إذا كنتم لا ترون الإنسان الفلسطيني، فهل ترون الحمار الذي يخدمه؟".

أما النبيه فيقول: "في المحنة، تتشابه الكائنات. ومثلما فُرضت علينا المعاناة، فرضت على الحمار. ومع ذلك، أثبت صبرا وعطاء لا ينضبان. نحن والحمار سواسية، نُساق قرابين إلى المقصلة ذاتها".

سخرية أم احتفاء؟

لكن هل كانت الفعالية سخرية أم احتفاء حقيقيا؟

يجيب النبيه: "لم يكن الأمر مجرد سخرية. كان مزيجا من الكوميديا السوداء والواقع العاري. حين فرشنا السجادة الحمراء وألبسنا الحمار كسوة نظيفة بينما نحن حفاة، كنا نطرح سؤالا وجوديا: من يستحق الكرامة في هذا العالم؟".

AFP
فلسطينيون ينقلون ممتلكاتهم بواسطة عربة يجرها حمار أثناء فرارهم من بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، 21 مارس 2025. قُتل 504 أشخاص منذ استئناف القصف، بينهم أكثر من 190 طفلا

ويضيف بحزن: "في لحظة التصوير، استشهد أكثر من 70 فلسطينيا بحثا عن الطحين. والفنانة آمنة السالمي، التي رسمت لوحة تكريم الحمار، استشهدت لاحقا. كنا نصنع لحظة حياة وسط مقصلة مفتوحة".

ظروف معقدة

يتحدث معتز الهباش عن صعوبة تنفيذ الفعالية في ظروف حرب الإبادة قائلا: "عملية التصوير كانت أقرب إلى مغامرة محفوفة بالموت. في المحاولة الأولى لم يلتزم أصحاب الحمير بالحضور، لأن الحمير كانت تعمل لنقل البضائع في زمن الشح. في المحاولة الثانية، فقد المصور أحد أقربائه بقصف، ولم نستطع أن نصور. وفي الثالثة، بينما كنا نجهز الموقع، جاءنا تحذير بالإخلاء الفوري لأنه قد يكون هدفا للقصف. كل خطوة كانت معلقة بين الحياة والموت".

هذا الحفل ليس مجرد مهرجان، بل صرخة عن الكرامة، عن الحياة التي لا تزال تنبض رغم الموت. لقد أعاد الينا بعض إنسانيتنا وسط هذا الخراب

مصطفى النبيه

ويضيف: "لكننا أصررنا على إتمامها، لأن الحمار هنا ليس مجرد موضوع فني، بل رمز لسردية نريد إيصالها: نحن شعب يُباد ومع ذلك لا يتوقف عن تحويل الموت إلى فن، وعن استعادة صوته حتى عبر أبسط المخلوقات".

فيما يرى مصطفى النبيه أن الفعالية تجاوزت كونها مجرد تكريم: "لقد أجبرنا العالم على النظر إلينا من زاوية لم يتوقعها. تكريم الحمار كشف عبثية التعاطف الانتقائي مع الحيوان مقابل تجاهل الإنسان. كانت رسالتنا: لسنا أرقاما في نشرات الأخبار، نحن نحيا ونحزن ونكرم رفقاءنا حتى في موتنا".

AFP
أطفال يجلسون مع أكياس داخل عربة يجرها حمار أثناء نزوحهم من خان يونس نحو منطقة المواصي، 3 يونيو 2025، بعد صدور أمر إخلاء من الجيش الإسرائيلي

ولكن، كيف استقبل الناس الفكرة؟

"بحفاوة كبيرة"، يجيب النبيه، "تعاملوا مع الحمار كأنه فنان أو شخصية وطنية بارزة. شعروا أنهم يردون له الجميل. لم نسمع انتقادا واحدا، فقط الامتنان العميق".

يضيف الهباش: "رأيت في ضحكات الناس وتفاعلهم تفريغا للغضب، نوعا من الانتقام الرمزي ممن أهمل غزة وترَكها للذبح".

الفن المفاهيمي كسلاح أخير

بالنسبة إلى الهباش، تكريم الحمار ليس حدثا عابرا: "إنه فن مفاهيمي ومقاومة رمزية. نحن نستخدم الفن لفرض سرديتنا الفلسطينية في وجه السردية الإسرائيلية. حتى الحمار يصبح أداة لمحاججة العالم، ولإجباره على النظر إلينا".

ويكمل النبيه: "هذا الحفل ليس مجرد مهرجان، بل صرخة عن الكرامة، عن الحياة التي لا تزال تنبض رغم الموت. لقد أعاد الينا بعض إنسانيتنا وسط هذا الخراب".

يختم النبيه: "أعيش فوضى مشاعر لا تُحتمل. لكن عندما كرمت الحمار، شعرت أنني أنتصِر لرؤيتي الإنسانية. انهمرت دموعي وأنا أراه يمشي على السجادة الحمراء. تساءلت: لماذا لا نُعامل نحن كما يُعامل هو؟ أإلى هذا الحد صارت حياتنا بلا قيمة؟".

أما معتز الهباش فيقول: "حزين كوني كان علي أن أتحايل على العالم لأجعله ينظر إلينا. اخترت السخرية لأنها اللغة التي يفهمها الأوروبيون حين يتعاطفون مع الحيوان أكثر من الإنسان. مؤلم أن نضطر إلى تزيين حمار وإلباسه كسوة نظيفة فوق بساط أحمر كي نثبت أننا أحياء نستحق الحياة. لكن ربما هذه الحيلة هي آخر ما تبقى لنا لمخاطبة ضمير فقد إنسانيته. كفنان، مهمتي أن أرى ما لا يراه الآخرون، أن أحول الغضب إلى فعل رمزي، حتى لو بدا عبثيا. كان تكريم الحمار طريقة لتفريغ غضبنا وفضح العالم الذي تركنا نُباد في صمت".

font change