شهود عيان يروون قصة "مصائد الموت" في غزة

تحول جذري في فكرة المساعدات وافراغ الإغاثة من مضمونها الإنساني

Lina Jaradat
Lina Jaradat

شهود عيان يروون قصة "مصائد الموت" في غزة

بعد نكبة 1948 وتحديدا في العام 1949 كانت وكالة غوث اللاجئين – الأونروا، هي المؤسسة الرئيسة لتقديم خدمات الإغاثة والصحة والتعليم للاجئين الفلسطينيين في كل مناطق وجودهم في الداخل والشتات. في قطاع غزة تحديدا، ومع بدء الحصار الخانق في العام 2007 على إثر تولي حركة "حماس" حكم قطاع غزة وفرض العقوبات الدولية عليها، نشط دور الأونروا والمنظمات الدولية في تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان القطاع، وذلك على الرغم من تشديد القيود المفروضة من قبل إسرائيل على إدخال البضائع.

لاحقا، في الفترة بين عام 2008 وعام 2022 وفي ظل دورات متكررة من العنف والحصار والانتهاكات الإسرائيلية (عدوان 2008، 2012، 2014، 2021)، لعبت الأونروا ومؤسسات الإغاثة والدعم الإنساني الدولي دورا مهما في إدارة الأزمة وتنظيم عملية توزيع المساعدات وفق خطة تضمن وصولها الى مستحقيها.

شكل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وما تلاه من تصاعد وتيرة الأحداث والعنف والنزوح وغياب الأمن، تحديا كبيرا لعمل المؤسسات الإنسانية وطواقمها داخل قطاع غزة، وهذا ما أدى بدوره إلى تعطل العمل الإغاثي وتقليص أدوار المؤسسات الإنسانية الدولية داخل قطاع غزة، وانتهى الأمر أيضا بوقف عمل الأونروا وفرض حصار شامل منع خلاله الجيش الاسرائيلي شاحنات البضائع والمساعدات من الدخول.

في مطلع العام 2025، أنشئت "مؤسسة غزة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Foundation)، بدعم أميركي إسرائيلي، للإشراف على توزيع المساعدات الإنسانية عبر مراكز محددة، مزودة بنظام مراقبة بيومتري ووجود أمني مسلح. لا تقوم مؤسسة GHF بإنتاج وتجهيز المساعدات من مصادرها الخاصة، بل تعتمد بشكل أساس على تحويلات من عدد من المؤسسات الإغاثية الدولية كالأونروا (UNRWA)، برنامج الأغذية العالمي (WFP)، اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) وهيئات تبرع حكومية أخرى (أميركية وأوروبية وعربية). وعليه فإن جل اهتمامها ينصب حول عملية إدارة توزيع هذه المساعدات.

الجديد هنا أنها لا توزع المساعدات بمنطق المنظمات الإنسانية نفسه، إذ تتبنى نهجا لا إنسانيا تُعيد من خلاله تغليف وإدارة عملية توزيع المساعدات ضمن نظام رقمي وبيومتري صارم يستعين بالسمات الجسدية أو السلوكية للشخص متلقي المساعدات – غالبا من خلال بصمة العين أو صورة الوجه التي تلتقطها كاميرات موزعة في الممر الأمني أو ما يُعرف بالحلابة- من أجل التعرف اليه، تسجيله، أو منحه حق الوصول إلى المساعدة أو موقع معين. وعليه فإن المؤسسة تقوم فعليا بإنشاء قاعدة بيانات رقمية لكل متلق محتمل للمساعدة تشمل اسمه الكامل، وصورته، وعدد مرات حصوله على المساعدة وربما موقعه الجغرافي ورصد تنقلاته وحركة نزوحه.

لا توزع المساعدات بمنطق المنظمات الإنسانية نفسه، إذ تتبنى نهجا لا إنسانيا تُعيد من خلاله تغليف وإدارة عملية توزيع المساعدات ضمن نظام رقمي وبيومتري صارم

يُنظر إلى هذه السياسة الجديدة كنوع آخر من المراقبة وفرض السيطرة الأمنية على سكان قطاع غزة، وهو ما يخالف مبدأ الكرامة والخصوصية الإنسانية ولا سيما في حالات الحرب واللجوء، فضلا عن مخاوف استخدام قاعدة البيانات هذه لأغراض غير إنسانية مثل التصنيف أو العقاب أو حتى التجنيد والابتزاز، خاصة أنها فصلت جزئيا عن إشراف الأمم المتحدة. فعلى عكس الأونروا وWFP، لا تخضع GHF لإشراف مباشر من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA). بل تنسق عبر قنوات أمنية وسياسية مرتبطة بدول داعمة، أبرزها الولايات المتحدة وإسرائيل.

تقوم مؤسسة GHF فعليا بإعادة هندسة توزيع المساعدات، وما تفعله في سياستها بإدارة هذه العملية واستخدام الرقابة الأمنية العالية والترتيبات المذلة وهندسة التجويع، يمثل تحولا في قضية المساعدات لغزة، حيث الجوع جزء من المنظومة العسكرية، وحيث تُفرض معايير جديدة من الأمن والانتقاء المسبق للوصول إلى حق الغذاء، وهو ما يفرغ فكرة الإغاثة من محتواها الإنساني.

صناعة الموت

لم تعد المساعدات الإنسانية وسيلة للنجاة والحفاظ على البقاء بكرامة، بل أصبحت شكلا آخر للموت والإذلال. وسط انهيار النظام الغذائي وتداعيات النزوح وغياب منظومة الحماية والرقابة، يمكن القول إن نقاط توزيع المساعدات القائمة حاليا -التي تديرها مؤسسة غزة الإنسانية- والتي أقيمت على أراض طهرت من سكانها، ودمرت وجرفت بالكامل، لا تعمل كمساحات للإغاثة، بل كمواقع لصناعة الموت.

Eyad BABA / AFP
فلسطينيون يتجمعون عند نقطة توزيع مساعدات أقامتها "مؤسسة غزة الإنسانية" قرب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، 25 يونيو 2025

"مصائد الموت" هو المصطلح الذي بات يُستخدم شعبيا في غزة للإشارة إلى الممرات والمراكز التي يُفترض أن تقدم المعونة للنازحين والجوعى، لكنها في الواقع تحولت إلى مصائد حقيقية تُنصب أمام مرأى العالم، حيث يُقتل الناس تحت وطأة الجوع، والرصاص، والتزاحم، أو الابتزاز. لم تعد هذه المواقع مجرد نقاط لتسلم الغذاء، بل فضاءات مشحونة بالعنف والخوف والاستغلال.

تتجاوز الحاجة إلى هذه المساعدات كونها ظرفا طارئا. فمع تصاعد وتيرة الحرب منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفرض حصار شامل على ادخال شاحنات المساعدات الإنسانية إلى القطاع، انهارت سلاسل الإمداد الغذائية، ودمرت البنية التحتية وآلاف المنشآت الزراعية والصحية، مما جعل السكان في مواجهة جوع ممنهج، لا يمثل نتيجة جانبية للحرب، بل سياسة متعمدة لتفكيك البنية الاجتماعية والإنسانية للمجتمع الغزي. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد أمام الناس سوى القتال من أجل كرتونة مواد تموينية. هكذا تصبح المساعدات طوق نجاة مشروطا بالخضوع لمنطق الإبادة، وتتحول مسارات الوصول إليها إلى "مصائد موت" بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

تدير "مؤسسة غزة الإنسانية" ثلاثة مراكز توزيع منتشرة في القطاع، وهي مركز توزيع محور مراج في مدينة رفح، ومركز توزيع منطقة الشاكوش الواقعة في مدينة خانيونس، والثالث هو مركز توزيع محور نتساريم الواقع على امتداد شارع صلاح الدين، أحد الشرايين الرئيسة في قطاع غزة. تُعد هذه النقطة من أخطر مراكز توزيع المساعدات في القطاع، ليس فقط بسبب وقوعها على محور نتساريم العسكري الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه وقربها الجغرافي من المواقع العسكرية الإسرائيلية المحيطة، بل لأنها تعمل وفق نظام توزيع يبدأ قبل الفجر، من الساعة الثانية حتى السادسة صباحا، في وقت تنعدم فيه الرؤية وتتكاثر فيه الكمائن ويصبح إمكان النجاة أقل.

مصيدة الموت في محور نتساريم أقامها جيش الاحتلال الاسرائيلي على أنقاض مستوطنة إسرائيلية سابقة أنشئت عام 1977، تحمل الاسم نفسه وتقع ما بين مخيم البريج ومخيم النصيرات بالقرب من مسجد الدعوة على بعد 5 كيلومترات من مدينة غزة. للوصول إلى مركز توزيع المساعدات في محور نتساريم، يُجبر الساعون إلى النجاة على سلك واحد من ثلاثة مسارات محفوفة بالخطر، يتفاوت فيها مستوى الانكشاف والموت.

هكذا تصبح المساعدات طوق نجاة مشروطا بالخضوع لمنطق الإبادة، وتتحول مسارات الوصول إليها إلى "مصائد موت" بكل ما تحمله الكلمة من معنى

المسار الأول هو الطريق المباشر على امتداد شارع صلاح الدين، الواصل بين البريج والنصيرات. يتميز هذا المسلك بكونه مكشوفا بالكامل، ويقع تحت رقابة صارمة من الدبابات والطائرات الإسرائيلية، مما يجعله مسرحا دائما للاستهداف المباشر. أما المسار الثاني فيُعرف بـ"طريق المولد"، وهو طريق غير مباشر يمر في محاذاة محطة الكهرباء المركزية. يعتمد العابرون فيه على مسالك جانبية ملتوية موازية لشارع صلاح الدين. وعلى الرغم من أنه أقل انكشافا بصريا، إلا أنه لا يقل خطرا، إذ تنتشر فيه الكمائن ونقاط الاستهداف المباغتة. والمسار الثالث يُعرف بـ"طريق الواد"، ويمتد عبر وادي غزة، وهو من أكثر الطرق قسوة. لا تقتصر خطورته على الاستهداف العسكري فقط، بل تتعداها إلى التهديد البيئي، حيث يمر العابرون بجانب مياه الصرف الصحي المكشوفة وينتظرون هناك ساعات طويلة وسط روائح كريهة وتلوث حاد، في مشهد يجمع بين الخطر الجسدي والانتهاك الصحي والإنساني.

هذه المسارات ليست مجرد طرق وصول، بل مداخل لطقوس عنيفة من التصفية والترهيب، حيث يختلط الهدف الإنساني بالموت المفاجئ، وينقلب طريق النجاة إلى مسرح للدم.

الصدمة المركبة، مرحلية الموت، وإعجاز النجاة

لا ينجو أحد في محور نتساريم مصادفة. والنجاة وإن حدثت فهي هنا مجازية، قد تفلت من الموت لكنك لن تنجو من تراكم الصدمات، من الحرب النفسية التي ستفتك بك مع الوقت، وتترك لديك صدمة مركبة. الصدمة المركبة تشير إلى حالة نفسية تنتج من تعرض الإنسان المتكرر والمزمن لأحداث مؤذية وعنيفة، خاصة عندما تحدث هذه الصدمات في غياب مخرج أو ملاذ آمن وفي بنيات قمعية تتعرض لحرب مستمرة، لاحتلال، وعنف ممنهج. في مقابل الصدمة المفاجئة الناتجة من حادثة واحدة كالفقد أو الخسارة، فإن الصدمة المركبة تُبنى تدريجيا، وتخلف تأثيرات عميقة على الإدراك العقلي والهوية الشخصية والسلوك الاجتماعي. من اضطراب في التفكير، تبلد في التقدير، فقدان الإحساس بالخطر، الشعور بالذنب أو الدونية، فقدان المعنى، إلى التحول نحو العدوانية، أو التطبيع مع العنف.

Eyad BABA / AFP
نازحون فلسطينيون يسلكون طريق صلاح الدين من جنوب القطاع نحو شماله قرب النصيرات، 29 يناير 2025، في ثالث أيام السماح بالمرور بموجب هدنة قائمة

في محور نتساريم، أنت تتعرض لقتل ممنهج وموت مرحلي، فتتجلى الصدمة المركبة فعليا في مرحلية المرت التي تمر عبر خمس حلقات تتنوع فيها أشكال الاستهداف والعنف، وبحسب مصادر وباحثين وشهود عيان من داخل غزة، فضلنا عدم ذكر أسمائهم حفاظا على سلامتهم، فإن هذه الحلقات تتكون على النحو التالي:

أولا، الموت برصاص الاحتلال: مع اقترابك من منطقة التوزيع، تواجه إطلاق نار مباشر من الرشاشات والدبابات والطائرات المسيرة (الكوادكابتر). لا توجد تحذيرات، ولا خطوط آمنة. الرصاصة تأتي فجأة، وغالبا تستهدف الجماعات الكبيرة، أو أولئك الذين يحاولون الاقتراب بسرعة من الشاحنات. يقوم الاحتلال الإسرائيلي بذلك تحت ذريعة فرض النظام والأمن.

إن نجوت من الرصاص وتجاوزت خطر الاستهداف من قبل الاحتلال الاسرائيلي، فعليك تجاوز خطر التهشم والموت دهسا تحت الأقدام وسط الجموع المتزاحمة. أي عثرة صغيرة قد تكون كافية لتحملك إلى الموت سحقا بالأقدام، حيث لا يملك أحد القدرة على التوقف أو الالتفات، والخوف يجعل الجميع يركضون بجنون. إذا خانتك قدماك أو نجح أحدهم بدفعك وفقدت اتزانك للحظة ووقعت أرضا، فعليك أن تدرك أنه السقوط الأخير.

إذا تجاوزت حلقة الموت الأولى والثانية فعليك اجتياز منطقة "الحلابة"، وهي الممر الأمني الذي يفتح على ساحة مكشوفة تمثل حلبة الصراع التي تُلقى بها المساعدات ويبدأ الناس بالهجوم والصراع في معركة البقاء. بين صراخ وصراع بالأيدي يأخذ الموت ألف صورة وصورة. قد تتعرض للطعن بالأسلحة البيضاء، للضرب وللتشويه. هنا لا يكفي أن تكون محتاجا، بل عليك أن تمتلك جسدا قويا لم يأكله الجوع بعد، وأن تُظهر وحشية أكبر ممن حولك.

هذه المسارات ليست مجرد طرق وصول، بل مداخل لطقوس عنيفة من التصفية والترهيب، حيث يختلط الهدف الإنساني بالموت المفاجئ، وينقلب طريق النجاة إلى مسرح للدم

أما الحلقة الرابعة، فهي الاستهداف من قطاع الطرق. إذا حصلت على حصتك من المساعدات وتمكنت من الخروج من حلبة الصراع سالما، فعليك حينها تجاوز مجموعات مسلحة تُعرف بقطاع الطرق، يترصدون العائدين في طريق العودة لسلبهم مساعداتهم، يبتزون الناس ويهددونهم بالموت والقتل وسلب حياتهم اذا لم يسلموا حصتهم من المساعدة ويتنازلوا عنها مقابل نجاتهم.

اذا نجوت مما سبق جميعا فقد وصلت إلى الحلقة الخامسة والأخيرة التي تنتهي في منطقة تُعرف باسم منطقة "البيوك"، حيث يقف تجار الأزمة في انتظارك، يعرضون شراء ما حصلت عليه بثمن بخس أو بمقايضة مهينة. الرفض هنا يعني الدخول في مساومة قسرية، أو الخضوع لمقايضة على أشياء أخرى لا تخلو من فعل ابتزاز واستغلال مبطن. غالبا ما يلجأ الناس هنا للسير في نطاق جماعي كشكل من أشكال الحماية.

في هذه الحلقات الخمس، يتحول الجوع من شعور إلى آلية عقاب جماعي. يحصل الناجون على كرتونة مساعدات قد لا تكفي يومين، لكنهم يفقدون في المقابل شيئا من جسدهم، كرامتهم، أو أحد أحبائهم. تكشف هذه الحلقات عن تشوه حقيقي في البنية الاجتماعية، حين يشتبك الناس في ما بينهم، ويتحول الجار وابن العم إلى معتد أو سارق أو جلاد، فإن النسيج الاجتماعي يتمزق. تبدأ الجماعة برؤية بعضها كتهديد، وليس كحاضنة، وهذه من أخطر آثار الصدمة المركبة الطويلة الأمد بعدما أصبحت مراكز التوزيع مصائد موت ةتربة خصبة للتعجيل بتبعاتها.

من يذهب إلى المصيدة؟ ولماذا؟

رغم إدراك الجميع أن الوصول إلى محور نتساريم قد يعني مواجهة الموت، فإن آلاف الأشخاص يتوجهون يوميا إلى هناك. ليست هذه حركة عبثية، بل استجابة حادة للحرمان المطلق، تُجبر الناس على خوض مجازفة مشروطة بالموت. لكن دوافع المرتادين تختلف، كما تختلف مواقعهم الاجتماعية وأدوارهم في هذه الحلبة القاسية.

Eyad BABA / AFP
أشخاص يحملون صناديق مساعدات من "مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي منظمة خاصة مدعومة أميركيا تجاوزت نظام المساعدات الأممي، أثناء عودة نازحين من مركز توزيع وسط غزة، 29 مايو 2025

ليست كل الأقدام التي تطأ مصيدة نتساريم جائعة. هناك فئة من تجار الأزمات يقصدون المكان بغرض الحصول على المساعدات بهدف بيعها في السوق. بعضهم يشتريها لاحقا من محصليها من الضحايا بأسعار زهيدة، وآخرون يحصلون عليها بالتحايل أو السلب أو حتى بتجنيد شبكات قاصرين ونساء لجلب الحصص ثم الاستحواذ عليها. تعمل هذه الفئة ضمن فكرة اقتصاد الموت، التي تمتد من حصولهم غير المشروع غالبا على كرتونة المساعدات، التي تحتوي على ما لا يزيد على الضروريات (طحين، أرز، زيت، سكر)، إلى طرحها لاحقا في السوق بأسعار خيالية، يتعذر على الأسر النازحة شراؤها. لتتحول بذلك المعونة من طوق نجاة إلى سلعة نادرة خاضعة لمنطق السوق السوداء، وتُعاد صياغة الجوع كمحرك للربح، لا كأزمة إنسانية.

تعتبر فئة الشباب هي الفئة الغالبة التي تتجه نحو محور الموت، وذلك على اعتبار أنهم الأقدر على التحمل البدني. يخوض كل منهم هذه الرحلة بوعي كامل بأن عودته ليست مضمونة، لكنه يرى في هذه المجازفة الخيار الوحيد المتاح لإطعام أسرته أو إخوته. هذه الفئة تخضع في الواقع لتحولات داخلية قاسية، بين شعور بالبطولة المجبرة، وذنب من لم يستطع الإنقاذ، وعنف مكتوم ينفجر في لحظة التزاحم.

النساء هنا لسن استثناء. إذ يرسل الرجال والعائلات النساء غالبا للحصول على الكوبونة، فيُدفعن إلى حلبة الموت باعتقاد عائلي أو اجتماعي بأنهن أقل عرضة للقتل. لكن الواقع مختلف تماما. فمعظم النساء يواجهن مساومات جسدية أو أخلاقية، ابتزازا، تهديدا، أو حتى انتهاكات خفية في طريق الذهاب أو العودة. وقد تستهدف بعضهن عصابات نسائية تعمل على سلب المساعدات منهن، أو اجبارهن على مقايضات مذلة مقابل السلامة أو التمرير.

تبدأ الجماعة برؤية بعضها كتهديد، وليس كحاضنة، وهذه من أخطر آثار الصدمة المركبة الطويلة الأمد بعدما أصبحت مراكز التوزيع مصائد موت وتربة خصبة للتعجيل بتبعاتها

من ناحية أخرى، هناك فئة القاصرين. حيث يُستخدم الأطفال كأدوات صامتة في هذا النظام، فيُرسلون إلى محور نتساريم مقابل أجر مادي أو وعد بجزء من المعونة. في الواقع، لم يعد هناك معنى حقيقي للطفولة وأشكال ممارستها أو ظواهر وجودها. هنا الأطفال نضجوا بحكم التجربة القاسية، وأصبحوا يعيلون عائلة فقدت الأب أو الأم أو كلا الوالدين. أصبح عليهم أن يخوضوا رحلة الموت القاسية كي يسدوا رمقهم، وبالرغم من أجسادهم الهزيلة التي ربما ما زالت الدليل الوحيد على طفولتهم، إلا أنه يمكن ملاحظة كم استشرسوا في سلوكهم، كيف يتدافعون ويهاجمون، كيف يلفظون الشتائم ويجاهرون بالصراخ، كيف يسرقون، كيف يتصارعون حاملين العصي والسكاكين. لقد تحولوا إلى أشقياء فعلا. كثير منهم يُجبر على تقمص شخصية "الفتى المشاغب" كي ينجو. هؤلاء الأطفال لا يتعلمون فقط كيف يُسحق الجسد، بل أيضا كيف تُسحق البراءة كجزء من معادلة النجاة التي لا تأتي إلا بالافتراس.

تُظهر هذه الفئات جميعها كيف تتحول مصيدة المساعدات إلى مرآة طبقية وأخلاقية، بين من يذهب ليأكل ومن يذهب ليربح، بين من يُجبر على التحول إلى جلاد، ومن يُرمى في موقف الضحية أو المعتدي، بين أجساد هشة تُدفع إلى الموت، وأخرى تستثمر في شراستها أو عنفها.

خفايا مصائد الموت: المساعدات أداة للاستغلال

في بيئات الإبادة، لا تكون المساعدات مجرد وسيلة إنقاذ، بل تتحول إلى أداة حرب ناعمة، تُدار بعقلية السيطرة أكثر مما تُوزع بروح التعاطف. وفي مركز توزيع محور نتساريم، تتجلى هذه المعادلة بوضوح، حيث لا تُمنح المساعدة كحق، بل تُشترط وتُراقب وتُنتزع تحت شروط غير إنسانية. هنا لم تعد المساعدات تمثل فضاء للرحمة، بل باتت منصة للتجنيد والابتزاز، والإخضاع الجسدي والمعنوي، ضمن آليات متداخلة من العنف والإذلال.

Eyad BABA / AFP
دخان يتصاعد جراء غارة إسرائيلية بينما يمرّ فلسطينيون على عربة يجرّها حصان في طريق صلاح الدين قرب مخيم النصيرات، في اتجاه نقطة توزيع مساعدات تابعة لـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، 25 يونيو 2025

تتحكم سلطات الاحتلال الإسرائيلية، بشكل مباشر أو غير مباشر، بكمية المساعدات المسموح بدخولها، وبتوقيت توزيعها، وبمسار وصولها، عبر التنسيق مع المؤسسات المانحة ومؤسسة GHF. هذا التحكم يجعل من المساعدة أداة لهندسة سلوك الناس وممارسة العقاب الجماعي عبر التجويع المقصود، والتقنين المتعمد، والتمييز في التوزيع. تتحول المساعدات فعليا إلى سلاح إداري أمني يخلق طبقات اجتماعية بالعنف ويعيد ترسيم السلطة على جغرافيا الجوع.

لكن الأمر يتجاوز كونه سلاحا سياسيا إداريا، لتصبح المساعدات أدوات للتجنيد والمراقبة. تشير شهادات متكررة إلى أن بعض الأشخاص يحصلون على مساعداتهم عبر ترتيبات ومسارات وخرائط تتبع وأوقات محددة مسبقا، يدخلون مركز التوزيع قبل الآخرين، ويخرجون دون التعرض للعنف أو التفتيش. يتم تداول روايات عن استخدام المساعدات كمكافأة مخصصة لبعض العملاء والجواسيس ومن جندوا بين صفوف المواطنين لخدمة الاحتلال الإسرائيلي، حيث يتلقون الكوبونة غطاء لنشاطهم الأمني أو التجسسي. هذه الروايات رغم صعوبة التحقق منها بدقة، إلا أنها تتكرر على ألسنة من شهدوا التوزيع وشاركوا فيه مرارا. كما أشار شهود عيان ممن خاضوا التجربة، أنهم لاحظوا نقصا في صناديق المساعدات بعد استلامها، إذ من الواضح أنها فتحت وأخذت منها بعض المواد التموينية. وهو ما يعني أن هناك أشخاصا بالفعل يصلون باكرا الى مراكز التوزيع ولديهم تصريح بفتح هذه المساعدات وأخذ ما يحتاجون منها مكافأة لقاء خدمات أخرى على حد تعبير الشهود.

من المهم التعجيل بالعمل على تشكيل لجنة مستقلة لتوثيق انتهاكات مراكز التوزيع، ومحاسبة الجهات المتورطة في الانتهاكات الجسدية والجندرية

هذا الاستهداف لا يقتصر على فئة دون الأخرى. فهناك استهداف حقيقي للنساء أيضا، حيث تستخدم المساعدات أداة للاستغلال الجنسي والعنف الجندري. النساء اللواتي يشاركن في جلب المساعدات يتعرضن غالبا لمحاولات ابتزاز، سواء بالتصريح أو التلميح، خاصة في المسارات البعيدة أو عند الحواجز غير الرسمية. أضف إلى أنه أحيانا، يُسهل عبور النساء مقابل مقايضات جسدية أو صيغ مبطنة من الاستغلال، تحت تهديد مباشر أو ضغط الحاجة. هذا بالإضافة لما يتعرضن له من انتهاكات في طريق العودة على يد عصابات نسائية أخرى، إذ يُجبرن على التفاوض مقابل النجاة أو التخلي عن الحصة مقابل المرور. يتضاعف هذا العنف في ظل غياب الحماية، ورفض المؤسسات الإنسانية والمجتمع المحلي الاعتراف العلني بوقوع هذه الانتهاكات، خشية المساءلة أو الفضيحة.

في محور نتساريم، لا تقدم هذا المراكز خدمة توزيع الطعام، بل تمارس عملية توزيع العنف بأشكال جديدة، فيُقتل البعض، ويُبتز البعض، ويُذل آخرون. الحديث عن المساعدة هنا، هو في جوهره حديث عن علاقة القوة، من يمتلك الحياة ومن يتحكم بالموت، ومن يُمنح الفتات ومن يُحرم من الهواء.

من المسؤول؟

أمام هذا المشهد الكارثي الذي يتكرر يوميا عند مركز محور نتساريم والطرق المؤدية إليه، لا يمكن الاكتفاء بإدانة الظروف أو تراكمات الحرب. ما يحدث في مصائد الموت، هو نتاج ترتيبات سياسية واضحة، ومسؤوليات موزعة بين أطراف تتفاوت في قوتها، لكنها تتقاطع جميعها في التواطؤ أو الصمت أو الفشل.

Eyad BABA / AFP
رجل فلسطيني يحمل طرداً وسط دخان غارة إسرائيلية على طريق صلاح الدين قرب مخيم النصيرات، المؤدي إلى نقطة توزيع مساعدات أقامتها "مؤسسة غزة الإنسانية"، 25 يونيو 2025

في القانون الدولي، يُفترض أن تكون المساعدات الإنسانية حقا مكفولا وغير مشروط في زمن الحرب. لكن في غزة، تُنتهك هذه المبادئ بشكل صارخ، دون تدخل فعال من المؤسسات الأممية أو المحاكم الجنائية وأشكال الحماية الدولية. أضف إلى أنه في ظل عدم وجود خطوط آمنة، أو ممرات إنسانية تُراقب بشكل محايد، فإن ذلك يجعل النجاة نفسها مشروطة بالقوة والحيلة، أو الخضوع.

زاد من تفاقم الأمر، أنه منذ بداية الأزمة، تراجعت الأونروا ومنظمات مثل WFP  وICRC  عن إدارة مراكز التوزيع المباشرة، مما ترك المجال لمؤسسةGHF  للانفراد بعملية تنظيم المساعدات وفق آلية جديدة لا إنسانية وخاضعة لنهج أمني سياسي صارم، حيث لم يعد التركيز على الوصول إلى الجميع، بل السيطرة على من يصل.

ومع ذلك، علينا أن ندرك أن الاحتلال هو المسؤول الأول والأخير عن هذا الوضع برمته، فهو الطرف الأكثر تحكما، إذ يتحكم في كمية المساعدات التي تدخل، وتوقيت إدخالها، ومسار شاحناتها، ويسمح بخلق مراكز توزيع يعلم تماما أنها ستؤدي إلى الفوضى، ثم يُبرر القتل بـ"الفوضى" الناتجة. إن هذا الاحتلال يدفع بشكل تراكمي في اتجاه انهيار النظام الأخلاقي للمجتمع، ويستثمر في ذلك بتحويل الناس إلى خصوم بعضهم لبعض، فيستبدل مقاومة المحتل بصراع داخلي على الخبز.

كل محاولة لفهم هذا المشهد المعقد تنفتح على مزيد من الأسئلة، بقدر ما أن كل محاولة للبقاء على قيد الحياة كانت ولا تزال تقود إلى موت آخر. ومع ذلك، من المهم التعجيل بالعمل على تشكيل لجنة مستقلة لتوثيق انتهاكات مراكز التوزيع، ومحاسبة الجهات المتورطة في الانتهاكات الجسدية والجندرية. كما أن على الجهات المسؤولة الدفع نحو إعادة تفعيل دور المنظمات الدولية في الإشراف المباشر على إيصال المساعدات وتوزيعها، دون المرور بمنظومات أمنية. إن هذا الأمر هو مطلب ملح لوقف الإبادة التي تمارس فعليا اليوم تحت شعار الإغاثة وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع.

font change