"أيام قرطاج المسرحية"... عتمة المشهد العالمي ولمحات من خفة وأمل

قضايا المرأة والهجرة والحرب في ثلاثة أعمال مبتكرة

الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية

"أيام قرطاج المسرحية"... عتمة المشهد العالمي ولمحات من خفة وأمل

انتهت دورة أيام قرطاج المسرحية يوم السبت 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بتتويج المسرحية التونسية "الهاربات" للمخرجة وفاء الطبوبي، كما نالت المسرحية العراقية "الجدار" للمخرج سنان العزاوي الجائزة الثانية (التانيت الفضي) وجائزة أفضل سينوغرافيا لعلي السوداني، وحصلت المسرحية التونسية "جاكارندا" للمخرج نزار السعيدي على الجائزة الثالثة (التانيت البرونزي).

من هذا الأسبوع المسرحي في العاصمة التونسية الذي تميز بعروض تتماهى مع الزمن العسير الذي يمر به العالم بما فيه تونس والعالم العربي، مثل عرض الافتتاح (الـ)"حلم...كوميديا سوداء" للمخرج الفاضل الجعايبي، اخترنا تقديم بعض هذه العروض التي تروي مآسي الإنسانية اليوم، إلى جانب عرض آخر، ناجح في نوعه، يدخل بعض الخفة والمرح على هذا الزمن القاتم.

"الهاربات" في طريق طويل

مع تتويجها بجائزة "التانيت الذهبي"، عن مسرحيتها الجديدة "الهاربات"، إلى جانب جائزة أفضل نص، وجائزة أحسن ممثلة التي كانت من نصيب الممثلة والمطربة التونسية لبنى نعمان، تضيف المخرجة التونسية وفاء الطبوبي إلى اعتراف أيام قرطاج المسرحية بها، سطرا ثالثا، وتبرهن أنها قادرة على الإقناع والإبهار في كل عمل من أعمالها، إذ فاز أول عروضها، "الأرامل"، بجائزة أفضل إخراج سنة 2017، كما حازت مسرحيتها الثانية "آخر مرة" التانيت الذهبي في دورة 2022.

"الهاربات" وهن خمس نساء ورجل واحد لا يجعل الجمع مذكرا – في حركة نسوية جريئة من الطبوبي – هي صرخة التونسيات والتونسيين من الطبقات الضعيفة والكادحة، للشكوى من مختلف المظالم التي يعيشونها كما يساهمون في صنعها بأيديهم. عاملة منزلية متقدمة في السن تعاني بشموخ نكران أبنائها، أستاذة لغة إنكليزية متشبثة بولعها بعملها كطريقة للتخفيف عن وجع انعدام ترسيمها منذ سنوات وتأخر صرف راتبها، سكرتيرة في مكتب محام خريجة حقوق تحلم بدخول مهنة المحاماة، امرأة تسمى باللهجة التونسية "برباشة" تشتغل بالنبش في الفضلات لتدويرها وبيعها، عاملة في مصنع تبحث في هوس عن الزواج لا للهروب من سلطة الرجل فحسب، بل أيضا كإثبات لقيمتها الداخلية، وعامل ليلي بمصنع الأسلاك مطلّق يشكو وحدته وعجزه المادي لسداد النفقة.

يتخلى الممثلون عن فرديتهم لصالح بنية عضوية واحدة، وذلك ما يبدو مفتاح الهاربات لخلاصهن، على طريق طويل مليء بالعثرات


يلتقي هذا الجمع في محطة حافلات للذهاب كل إلى مشاغله، لكن الحافلة تتأخر محاكية الواقع التونسي للمواصلات العمومية. يتذمر البعض، بينما يحاول البعض الآخر التشبث بأمل قدوم الحافلة، إلى أن يتضح أنها لن تأتي، فيقرر الجمع السير وتنطلق الرحلة.

جائزة أفضل نص: المخرجة وفاء الطبوبي عن مسرحية "الهاربات"، تونس

الرحلة رمزية بامتياز، ففي عالم مليء بالتكنولوجيا، تختار الطبوبي أن يتيه الممثلون دون اللجوء إلى هواتفهم الذكية، كي يكون الطريق استكشافا للذات الكادحة التونسية والبشرية عموما، والبحث في سبل هروبها من واقعها المثخن بالآلام، حيث تقترن الضائقة المادية بالمشاكل الاجتماعية، مثل أزمة مؤسسة الزواج وتفكك الأسرة في تونس أو ندرة الفرص الوظيفية من خلال مواصلة التعليم وحده، أو المشاكل النفسية مثل ألم الشعور بالوحدة أو الاتكال على نظرة الغير لاستنتاج القيمة الشخصية أو إثقال كاهل الرجل بالمسؤولية على حساب تطويره لعالمه الداخلي، أو المشاكل البيئية التي تثيرها "البرباشة" بإلقاء الضوء على معضلة مادة البلاستيك التي تغرق البلاد التونسية.

المسرحية التونسية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بالتانيت الذهبي في الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية

الديكور مقتصر على بعض العلامات المرورية، لكن السينوغرافيا مبنية على الظلام الذي تحاوره بقع متفاوتة من الضوء، ومن ذلك أن العرض ينفتح على دائرة ضوئية صغيرة تتحول في خاتمته إلى قرص كبير كرمز للأمل. بهذا الديكور المقتصد، تفتح الطبوبي المجال لأداء الممثلين في هذه الشكوى البروليتارية التونسية، وحسنا فعلت، وهي المخرجة التي تخصص حيزا كبيرا من وقتها لتوجيه الممثلين، إذ كان الأداء رائعا وعاد على المسرحية بجائزة أحسن ممثلة في أيام قرطاج المسرحية، إضافة إلى فوز الممثلة التونسية القديرة فاطمة بن سعيدان، بمثل هذه الجائزة قبل شهر في المسابقة الرسمية للمسرح الوطني التونسي وجمعية عبد الوهاب بن عياد، الذي حصدت المسرحية فيه الجائزة الأولى أيضا.

لكن ذروة السينوغرافيا تكمن في عودة وفاء الطبوبي إلى الجوقة في المسرح، فذلك الجمع من أفراد الطبقة الكادحة يلتئم في جوقة تسير متلاحمة، بين المشهد والآخر، بخطوة سريعة أو مثقلة حسب السياق، أو ترقص بانسجام بقيادة الممثلة والراقصة أميمة البحري، فتصبح جسدا جماعيا، على حد تعبير بيتر بروك، تعبر عن لغة جسدية جماعية وفق مصطلح آرتو، وتشكل كائنا جماعيا بالمعنى الذي يرسمه له غروتوفسكي، حيث يتخلى الممثلون عن فرديتهم لصالح بنية عضوية واحدة، وذلك ما يبدو مفتاح الهاربات لخلاصهن، على طريق طويل مليء بالعثرات حسب العبارة التونسية المستخدمة في العرض، "الثنية طويلة، والحجر ياسر". التكاتف في البحث عن الطريق، والتكاتف في الاحتجاج وفي الهروب. الجوقة هي الحل، المجموعة هي الضوء في العتمة حسب الطبوبي.

"في بطن الحوت"، الهجرة والحدود

تجدد موعد الجمهور التونسي في إطار أيام قرطاج المسرحية مع عرض "في بطن الحوت" للمخرجة التونسية مروة المناعي، وهو ثمرة إنتاج مزدوج بين تونس وكرواتيا، إذ انطلق أول العروض المحلية لهذه المسرحية المقتبسة من أربع قصص قصيرة لكاتبات كرواتيات وتونسيات، في بداية السنة الجارية.

يتأسس العرض على فرضية أن العالم سيكون مستقبلا دون حدود وأن البشرية ستعتبر ما جرى من صد للمهاجرين غير النظاميين وما طبق عليهم من سياسات تجريمية في بداية الألفية الثانية، فترة قاتمة من تاريخ البشرية. إثر مشهد افتتاحي تنسج فيه، فوق ديكور هرمي، خيوط حمراء ستتخلل كامل العرض، تظهر باحثة إيطالية في الأنثروبولوجيا في سنة 2051 لتقدم خلاصة عملها حول ما جرى في مركز إيقاف للمهاجرين بإيطاليا سنة 2015 أمام لجنة خاصة بالتحقيق في تلك الفترة.

في هذا العرض عن عالم بدون حدود يحتفي بالتعددية والاختلاف، تتعدد اللغات والأزمنة والأمكنة. فالممثلون من جنسيات مختلفة، تونسية وإيطالية وكرواتية، واللهجات عربية تونسية وإيطالية وفرنسية وإنكليزية، تجمعها حبكة المسرحية التي تتنقل باستمرار بين الأمكنة والأزمنة، وخاصة بين سنتي 2051 و2015، والأخيرة هي السنة التي يصدر فيها أمر بإغلاق مركز إيواء المهاجرين، فتعمل إدارته على التخلص من نزلائه بجميع السبل.

تروي مروة المناعي هذه التنقلات الزمكانية ببراعة، مستخدمة سينوغرافيا رفيعة تعتمد على حواجز شفافة تتحول تارة إلى أبواب، وطورا إلى جدران، وأحيانا إلى حاملات للإسقاط الضوئي المستخدم بوفرة في العرض، وأحيانا أخرى إلى رمز للفاصل الزمني بين سنتي 2015 و2051، حيث نرى الباحثة الإيطالية، الدكتورة فيسكونتي، في غرفة مكونة من الحواجز الشفافة، منكبة على الاستماع إلى تسجيلات التحقيقات مع المهاجرين، وفي غرفة شفافة أخرى نرى في الآن نفسه التحقيق كما جرى عام 2015، وتتمتع المخرجة كما تمتع الحضور، بأن تجعل مشهد التحقيق يتكرر نحو الأمام والخلف، كلما قررت الباحثة إعادة الاستماع إلى مقطع معين من التسجيل.

العرض ينتهي على لمحة أمل، يسوقها أحد المشاهد الشعرية العديدة والمتعددة اللغات التي تدور حول الخيوط الحمراء كرمز للحدود وللرابط بين أفراد البشرية

المهاجرون ثلاثة: علي التونسي الذي وصل إلى إيطاليا من طريق تركيا محاولا الاختباء وراء هوية سورية قبل أن تكشف أمره المحققة التونسية، ليلى، التي تعمل تحت إمرة مشرف ألماني لا يسعى إلا إلى تحقيق أهداف أرقام الهجرة التي وضعتها إدارته، مريم التونسية التي تحاول إخفاء هويتها وراء صمم وهمي، لكن حملها خارج الزواج سيكون مفتاحها للحصول على اللجوء، وفودونوشا الذي لا يعرف معنى الحدود والقادم من بلد يتكلم جميع اللغات والذي وجد نفسه في بطن الحوت قبل أن يقذفه الأخير على الساحل الإيطالي.

أسدل الستار على الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية بحفل اختتام توج العديد من الأسماء البارزة في المسرح التونسي

لا تفوت المشاهد الرمزية الدينية المشتركة بين طرفي الإنتاج للعرض – تونس وكرواتيا – من خلال شخصية مريم وشخصية فودونوشا، في إحالة على قصة النبي يونس الذي يدل في الإسلام كما في المسيحية على سعة رحمة الله، وكأن العرض يسعى إلى التذكير بأن المحبة الإلهية تتجاوز الحدود القومية والطائفية، ويدعو المهاجرين وسكان الجنوب إلى عدم اليأس حتى ولو كانوا في ظلمات ثلاث. هو بريق أمل يحتاجه المشاهد لمأساة الهجرة غير النظامية، خاصة وقد سمع في بداية العرض كلمات المهاجر علي ذات الوقع الشديد: "أعتذر أني عربي. أعتذر أني على الجانب الخطأ من البحر الأبيض المتوسط، ومن التاريخ. أعتذر أني موجود".

على الرغم من أن هذه المسرحية التراجيدية، تذكر في خاتمتها بالأرقام المفزعة لعدد المهاجرين الذين قضوا غرقا في البحر الأبيض المتوسط بين 2014 و2024، وهم نحو 30 ألفا، فإن العرض ينتهي على لمحة أمل، يسوقها أحد المشاهد الشعرية العديدة والمتعددة اللغات التي تدور حول الخيوط الحمراء كرمز للحدود وللرابط بين أفراد البشرية، في الآن نفسه. يقول المشهد الشعري الأخير، وكأنه وعد ببشرية جديدة متكاتفة: "يمكن للخيط أن ينقطع، ويمكن الإمساك به، جميعنا مربوطون بالخيط".

"باراديسكو": مرح في البرزخ

تدور أحداث عرض "باراديسكو" Paradisco اللبناني، الذي كتب نصه وأخرجه سامر حنا، في فضاء البرزخ أو المطهر حسب المعتقد الديني المسيحي، حيث تطهر الأرواح في انتظار تحولها إلى الجنة أو الجحيم. لكن في عرض "باراديسكو"، تبقى الأرواح بين الحياة والموت في انتظار إما عودتها إلى الحياة على الأرض، أو وفاتها بدون رجعة، وتحولها إلى العالم الآخر نهائيا. وكلما تذكرت الأرواح كيف غادرت الأرض، زادت حظوظها في العودة إليها، فلا يعدو أن يكون مرورها بفضاء البرزخ سوى مرحلة وقتية. هكذا يحيل عرض "باراديسكو" منذ بداياته على الارتباط بين الإنسان والنسيان – على الرغم من غياب أي ارتباط لغوي بين المفردتين – وعلى أن الإنسان لا يعيش حياته الحقيقية حتى يتذكر كما الناي، حسب جلال الدين الرومي، من أي شجرة اقتطع قصبه.

في "بارادسيكو"، تستكشف الشخصيات معنى الحياة من خلال فضاء ما بين الحياة والموت، كما تستكشف ذواتها كي تفوز ربما بفرصة ثانية في الحياة لن تشبه بالتأكيد، إثر مثل هذه التجربة العميقة، الحياة الأولى السابقة.

أسدل الستار على الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية بحفل اختتام توج العديد من الأسماء البارزة في المسرح التونسي

لكن لفضاء ما بين الحياة والموت في عرض "باراديسكو" ميزة خاصة، فهو يتمحور حول السنوات 1980 وأغاني هذه السنوات. يبدأ العرض بوصول وافدين جديدين إلى البرزخ، أمير وفؤاد، حيث يكتشفان أن بقية الحاضرين ينتظرون منذ السنوات 1980: أندرو، وزياد الدون جوان، وصديقته كارلا أستاذة الأيروبيك، وياسمين الجميلة الحزينة، والجنرال الذي صعد إلى البرزخ إثر سقوط قذيفة، وتشرف على هذه المجموعة، الملاك الحارس أنجيل. تتخلل الحبكة التي تشمل قصة كل واحدة من هذه الشخصيات، لوحات راقصة بأداء محترف على أنغام الأغاني الشعبية الغربية الناجحة في ثمانينات القرن الماضي، إلى جانب أغان لفيروز وأخرى لداليدا. النقطة الأبرز في هذا الاختيار الفني هي أن كلمات جميع الأغاني الغربية والعربية اقتبست وأعيدت كتابتها في سياق متماش وموضوع العرض، مع الحفاظ دوما على روح الأغنية، وحتى بعض كلمات الكورس أحيانا.

أسدل الستار على الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية بحفل اختتام توج العديد من الأسماء البارزة في المسرح التونسي

خلال هذه الفترة من تاريخ لبنان، عاشت البلاد ذروة الحرب الأهلية التي يستحضرها العرض خاصة من خلال قصة الجنرال. فلماذا مثل هذه الإحالة على الغناء الشعبي ومرحه؟ ربما هي فسحة للهروب من واقع كان قاتما آنذاك، لأن الحياة كما تقول إحدى الشخصيات لا يمكن أن تكون انتظارا مقيتا، إذ أن الحياة "فيها حب وألوان"، وقد يكون ذلك هو الخيط الرابط بين الوافدين الجديدين من لبنان اليوم الذي يمر بزمن صعب، بالنزلاء الذين وفدوا منذ الثمانينات. كلاهما قادم من زمن تزداد فيه الحاجة إلى الهروب من العتمة.

في "بارادسيكو"، تستكشف الشخصيات معنى الحياة من خلال فضاء ما بين الحياة والموت، كما تستكشف ذواتها كي تفوز ربما بفرصة ثانية في الحياة

على أنغام أغنية Footloose للمغني الأميركي كيني لوجينز التي تمثل صرخة حرية، تنطلق هذه الكوميديا الموسيقية، تليها أغاني سيندي لوبر وويتني هويستون ومايكل جاكسون وجورج مايكل وبوني تايلر، وصولا إلى أغنية It's the final countdown ("هذا هو العد التنازلي الأخير") للمجموعة الغنائية السويدية "يورب" بينما ينتظر الممثلون القرار الأخير في خصوص نزولهم إلى الأرض أو صعودهم إلى السماء. النتيجة ناجحة والمرح الذي يرسيه العرض معد ويفلح في أخذ الحضور إلى فاصل زمني مبهج وحماسي.

أسدل الستار على الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية بحفل اختتام توج العديد من الأسماء البارزة في المسرح التونسي

 المنتظرون في "الباراديسكو" على موعد مع مفاجآت عديدة من تاريخ حياتهم ومن مستقبلها، ينبشون عنها بشتى الطرق المباشرة والملتوية، وحتى بإخضاع الملاك الحارس أنجيل لاستجواب شديد. أما جمهور أيام قرطاج المسرحية، فقد كان على موعد مع إنجاز بارع في تعريب موسيقى "البوب" الغربية، في ما يشبه عدة عروض كوميديا غنائية على الساحة الدولية في نسخ مختلفة باللغات المحلية، مثل الكوميديا الغنائية Mamma Mia ! عن المسار الفني للمجموعة الغنائية السويدية Abba، أو الكوميديا الغنائية The Lion King، وهما عرضان لقيا نجاحا واسعا في فرنسا وألمانيا وإسبانيا واليابان وهولاندا والمكسيك والبرازيل وغيرها. "باراديسكو" أثبت أن ذلك ممكن أيضا باللغة العربية.

font change