خفة الزرقة غير المحتملة في أحدث أعمال إلياس إيزولي

في معرضه الجديد "من الداخل إلى الخارج"

من أعمال إلياس إيزولي

خفة الزرقة غير المحتملة في أحدث أعمال إلياس إيزولي

بعد انقطاع عن تقديم أعمال فنية لأكثر من أربع سنوات، عاد الفنان التشكيلي السوري إلياس إيزولي إلى المساحة الفنية بمعرض حمل عنوان "من الداخل إلى الخارج" في صالة "أيام" الفنية في دبي. قد يبدو للوهلة الأولى أن ثمة انزياحا عاما عن مجمل ما قدمه الفنان سابقا، غير أن هذا الانطباع لا يلبث أن يتبدد مع أول نظرة معمقة إلى ما تحمله اللوحات من مضامين وتطور في الأسلوب الفني الذي انبثق مباشرة مما قدمه سابقا ويخدم السياق الشعوري في لوحاته الجديدة.

التوازن والغثيان

يتناول إيزولي في معرضه الجديد مفهوم التوازن. وقد ذكر البيان الصحافي المرافق للمعرض أن ما يقدمه هو "مجموعة من اللوحات عن بهلوانيين ولاعبي خفة يقومون بأداء عروض متنوعة في سيرك الحياة حيث تعلو نبرة عدم الثبات في ظل توازن هش. انه التوتر القائم ما بين الفرح وحس النجاة من الموت والألم".

يجيب عن سؤالنا حول التوازن الشيق الذي يعبر عنه في لوحاته: "التوازن بالنسبة إلي ليس خيارا جماليا أو فلسفيا فقط. إنما هو حالة إلزامية لا بد منها لاستمرار الحياة. فالشخص إذا لم يتمكن من صناعة توازن داخلي لن يتمكن من النجاة وسط كل ما يحيط به من فوضى، فهو مجبر على تحقيق توازن ما في كل تفاصيل وجوده حتى عندما يكون على غير يقين بأنه يملك حرية الاختيار".

بعد أول نظرة، سيرى مشاهد اللوحات أن ما يأسر شخوص إيزولي ليس إمكان التوازن المطمئن المتمثل في الثبات والتناغم ما بين العناصر البصرية التي تواكبه، بقدر ما هو الاتزان المقلق الحامل سمات استقرار ملتبس وديناميكي، يتمظهر في تحركات الشخوص، غير المعقولة في أحيان كثيرة، في فضاء بارد لا يقيم أي وزن للاتجاهات الممكنة والمتعاكسة في عالم محيط وبعيد هو على شفير الهاوية.

أبدع الفنان في لوحات سابقة في التعبير عن الأسى حيال الحرب والصراع السوري لا سيما من خلال رسمه أطفالا يعيشون فصول الوحشة والوحدة والقهر. أما اليوم، وفي معرضه الجديد الذي لا ينقطع البتة عما قدمه من قبل، فيرسم شخصيات عاملة في السيرك تلزم ذاتها مهمة ابتكار التوازن، وهي، وحسب ما ذكره الفنان آنفا، "مجبرة على البحث عنه في كل تفاصيل وجودها حتى عندما تكون على غير يقين بأنها تملك حرية الاختيار".

يقول إيزولي: "أسلوبي الفني لم يتغير من حيث الشكل، ولكن خلال الفترة الزمنية التي انقطعت فيها عن الرسم تأثرت بشكل كبير بتسارع الحوادث المأسوية والصراع العنيف من حولي. كما لعبت الوعكة الصحية التي ألمت بي دورا مهما في طريقة نظرتي إلى الأمور".

ما يأسر شخوص إيزولي ليس إمكان التوازن المطمئن المتمثل في الثبات والتناغم ما بين العناصرالبصرية، بقدر ما هو الاتزان المقلق الحامل سمات استقرار ملتبس

 التغيير حاضر في تحول الفنان من الرسم على كانفاس يمتد على مساحته نسيج مؤلف من معالجات رقمية وخطوط تكعيبية تبرز أشكالا هندسية نافرة غير حاضرة إلا بنتوءاتها، إلى رسم الخطوط العريضة في خلفية اللوحات بصرامة شبه طبية توقع البرودة في نفس المتلقي. من ناحية أخرى يمكن تأكيد أن هذا التغيير انبثق مباشرة من الأفكار التي قدمها إيزولي سابقا وكانت حينها مفتوحة على شتى أنواع التحولات.

لوحة لإلياس إيزولي

يبرع الفنان اليوم، كما سابقا، في توظيف الألوان بدراية كبيرة وحس مرهف في خدمة مواضيعه. من الزرقة المعدنية التي اجتاحت شخوصه في بعض اللوحات إلى معظم لوحاته السابقة التي قدمها في معرض عنونه بـ"تواصل" وجاء تكريما للفنان السوري الراحل لؤي كيالي. اتسمت تلك اللوحات من معرض "تواصل" ببصمة كيالي الخاصة المرتكزة على استخدام الألوان الترابية أو تلك التي يطلق عليها الألوان الصماء.

في معرض "من الداخل والخارج"، يواصل إيزولي اختياره المبدع للألوان، إذ يعتمد على اللونين البرتقالي والأزرق. ومن المعروف أن هذين اللونين متقابلان وضدان في عجلة الألوان، مما يمكنهما من انتاج تباين قوي يحدث جوا لافتا ومنفرا في الآن ذاته. كما يعمد الفنان في مواضع محددة من لوحاته إلى الدمج الجزئي بينهما فيولد اللون البني الذي نود أن نسميه بلون "الفخار المحروق" الذي يسقط الظلال في اللوحات طولا وعرضا بعيدا من أدنى رقة أو غموض، فيحصل التنافر اللوني ليعكس مزاج شخوص اللوحات الغاصة بأحوال القلق وأهوال السأم واللا مبالاة تجاه ذاتهم وتجاه الآخرين.

من لوحات معرض إلياس إيزولي

ومن الجدير ذكره أننا كمشاهدين نعتبر أيضا من هؤلاء "الآخرين" الذين لا تكترث شخوصه المرسومة بنظراتهم الفضولية أو التفقدية. وفي هذا السياق تحضر إلى الذهن لوحة يقف فيها بهلواني خلف ستارة السيرك ليرمقنا بنظرة نحار إن كانت لا مبالية أو محض عدوانية. الغريب في الأمر أنه بالرغم من كون نظرات الشخوص المقلقة تبدو مشمئزة من حضورنا، فهي نظرات يفلح الفنان في جعلنا نتعاطف مع أصحابها.

مسار الزرقة

يضم المعرض لوحة مهمة يظهر فيها رجل بدين بملامح طفولية ممتعضة يريد (أو لا يريد) أن يسرج حصانا أصغر منه بكثير ويقف إلى جانبه كاللعبة في فضاء أزرق ضاغط. إلى جانب هذا الرجل/الصبي المأزوم، تتعدد الشخصيات التي تحمل معظمها ملامح طفولية، وتقوم بأعمالها البهلوانية في سيرك الحياة، لكن دون أن تعثر على أدنى إحساس بالرضا. وإن كان الفنان رسم سابقا أطفالا تعتري وجوههم كآبة تمنعهم من الاستمتاع بألعابهم كالخيول الخشبية أو الكرات، فشخوص لوحاته الجديدة تحتفظ بهذه العلاقة السقيمة مع الأشياء أو الممارسات البهلوانية كالسير على كرة ضخمة في فضاء برتقالي اللون لا يقل برودة عن الفراغ الأزرق غير المشبع بالأوكسيجين، الذي لا يذكر مطلقا بأي سماء مفتوحة. ويحدث كثيرا للأزرق في لوحاته أن "يصاب بكدمات"، إذا صح التعبير، ليصبح مائلا إلى البنفسجي المقيت الذي بدوره لا يأخذنا إلى أية زهرة عطرة في الطبيعة.

بالرغم من كون نظرات الشخوص المقلقة تبدو مشمئزة من حضورنا، فهي نظرات يفلح الفنان في جعلنا نتعاطف مع أصحابها

هنا يبرز سؤال أساس: كيف يمكن اللوحات المشحونة بهذا الكم من المشاعر المتضاربة أن تظهر بهذه البرودة، بهذه الزرقة المميتة؟ سر يسكن اللوحات كما يسكن روح الفنان.

عمل لإلياس إيزولي

يدخلنا الفنان من حيث يدري أو لا يدري في حلقة من التداعيات والإحالات التشكيلية. فمن ناحية يخذنا إلى كآبة شخوص المرحلة الزرقاء الشهيرة التي عرف بها الفنان الرائد بابلو بيكاسو، وهي بدورها تعيدنا إلى الفنان لؤي كيالي وشخوصه المرهفة التي تعيدنا إلى عالم إلياس إيزولي حيث تصبح الزرقة ضغطا جويا مبرحا، وتصبح فيه شخوص كيالي الخفيفة/الهزيلة ممتلئة حد البدانة المفرطة. بدانة مفرطة وألعاب خفة غير مممتعة وجو يستدرج المتلقي إلى التمعن بماهية الخفة ومعنى الثقل.

خفة الكائن

تتغير الشخوص في لوحات الفنان السابقة والجديدة، لكن التكرار يبرز تماما في التنوع وفي محاولة خلق التوازن بين ما تراه الشخصيات وما تتخيله، وبين ما تحبه والخيبة في الحصول على ما تريده، بين القلق والرغبة في التجاهل المفرط. حول هذا القلق الوجودي الذي يعتري الشخوص دون استثناء، يقول الفنان: "القلق هو حالة وجودية يعيشها الإنسان كجزء من وعيه بالحياة والموت. القلق ليس من السقوط بل من القدرة على التوازن، أي هو رهبة المسؤولية عن الذات. القلق هو ثمن الحرية والدافع للفعل، لذلك لا ذريعة للهروب مما نواجهه".

من لوحات إلياس إيزولي

تدرك شخوص الفنان تماما انه لا مجال للهروب إلا إلى الأمام. وهذا يتمظهر بسلسلة من الممارسات التي تندفع إليها شخصيات الفنان بتعب ذهني وملل يكاد أن يرشح عرقا باردا على سطوح اللوحات. وبالرغم من ذلك العبث المتزن، اذا صح التعبير، يمارس البهلوانيون ألعابهم البهلوانية بأجسادهم الضخمة المحملة شتى أنواع الخيبات. هذه الخفة المشبعة بثقل المشاعر، هي حتما خفة مشبوهة. خفة تجعلهم يتحركون ولا يتقدمون. يرون ولا يبصرون، فراغ هو في حقيقته ثقل محمول كما في اللوحة التي يبدو فيها أحد الشخوص يحمل على ظهره حقيبة وهو يحاول السير على حبل رفيع.

القلق هو حالة وجودية يعيشها الإنسان كجزء من وعيه بالحياة والموت. القلق ليس من السقوط بل من القدرة على التوازن، أي هو رهبة المسؤولية عن الذات


من الواضح أن الفنان لم يرسم هذه الأجسام البدينة شبه العارية أمام الحياة قبل أي شيء آخر مثلما رسمها فنان آخر من قناة التحبب، كما فعل الفنان فرناندو بوتيرو، على سبيل المثل وليس الحصر، مع نسائه الممتلئات، بل يرسمها إلياس إيزولي ليظهر التوتر الوجودي القائم بين الخفة والثقل. وهو في لوحاته هذه يحيلنا على صاحب مؤلف "خفة الكائن التي لا تحتمل" ميلان كانديرا الذي كتب: "من كان هدفه شيئا أسمى، عليه أن يتوقع في يوم من الأيام أن يصاب بالدوار. ما هو الدوار؟ هل هو الخوف من السقوط؟ لا، الدوار شيء آخر غير الخوف من السقوط. إنه صوت الفراغ الذي يقع تحتنا والذي يغرينا ويستدرجنا، إنه الرغبة في السقوط، التي ندافع عن أنفسنا ضدها ونحن مرعوبون".

لوحة لإلياس إيزولي

 يذكر أن الياس إيزولي فنان عصامي ولد عام 1976. يعيش ويعمل في بلده. تعلم الفن بنفسه منذ صغره وبرع في تصوير أدق المشاعر الانسانية بأسلوبه الخاص. أول معرض فردي له كان في سن السابعة عشرة في المركز الثقافي الروسي بدمشق. ثم ما لبث أن شارك في معارض جماعية داخل سوريا وخارجها. من أبرز معارضه السابقة، التي أسست حتما لما يقدمه حاليا، نذكر "سبع سنوات" عرض فيه مجموعة لافتة من اللوحات يظهر فيها الأطفال السوريون المكسورون. ومعرض "تواصل" الذي حاول من خلاله تسجيل أثر التكنولوحيا الحديثة على تفاصيل حياتنا اليومية، لا سيما حياة الأطفال والمراهقين. 

font change

مقالات ذات صلة