عبد الله العثمان لـ"المجلة": الفن مساحة أوسع لالتقاط ما يفلت من اللغة

صدر له كتاب عن "اللغة والمدينة" يرصد تحولات الرياض

عبد الله العثمان

عبد الله العثمان لـ"المجلة": الفن مساحة أوسع لالتقاط ما يفلت من اللغة

بدأ الفنان التشكيلي السعودي عبد الله العثمان شاعرا لكنه انتقل إلى الفن من باب الشعر الأوسع برؤية عميقة تقوده لاستكشاف الشعر في أماكن كثيرة من حوله. يؤكد أن "الفن مساحة أوسع لالتقاط تلك اللحظات التي تفلت من اللغة".

شارك العثمان في عدد من المعارض مثل معرض "ديزرت إكس العلا"، وبينالي ليون ومهرجان الفن الإسلامي، وبينالي الدرعية، وشارك أخيرا في معرض ADAL بأبوظبي. هنا حوار معه.

كثيرا ما تستحضر الماضي في أعمالك، فتسرد في منحوتاتك قصصا مستقاة من الذاكرة الجمعية لسكان الرياض مثل منحوتة "روضة" و"كازينو الرياض" و"المدينة واللغة"، ما الذي رصدته من تغير الصورة عبر الزمن؟

بالنسبة إليّ التاريخ ليسا زمنا منقطعا عن الحاضر، بل هو حالة تتجدد باستمرار داخل اللحظة التي نعيشها. الإنسان في جوهره رحلة من تراكمات معرفية ووجدانية، والزمن يشبه الماء في استمراره وتحوله، لذلك لا يمكنني فصل الحاضر عما سبقه.

حين أعود إلى الذاكرة الجمعية في أعمالي مثل "روضة" و"كازينو الرياض" و"المدينة واللغة"، لا أستدعي الماضي بوصفة حنينا جامدا، بل بوصفه مرآة تكشف عن التحولات العميقة في صورة المكان والإنسان. ما أرصده عبر الزمن هو تغير الإيقاع الاجتماعي والثقافي، وكيف تتبدل علاقة الناس بالمكان، وكيف يعاد تعريف الهوية في كل مرحلة.

أستدعي الماضي بوصفه مرآة تكشف التحولات العميقة في صورة المكان والإنسان، لأرصد عبر الزمن تغير الإيقاع الاجتماعي والثقافي

لا أتعامل مع المكان والمساحة بوصفه مادة للعرض، بل بوصفه فراغا مرنا وأفقا للأسئلة، لا أفسر الماضي لأعيد إنتاجه، بل لأختبر ما يفتحه من احتمالات، فالغرض ليس التلقين، بقدر ما هو تحرير الخيال من أسر الزمن الواحد، ودفع المتلقي ليرى أن المستقبل لا يبنى من فراغ، بل من فهم تلك الشذرات التي تركها الزمن فينا. وتستيقظ كلما حاولنا الإنصات إليها. 

irisprojects
عبدالله العثمان – "جغرافيا الأمل"، 2022

من وحي الفراغ

هل تعتبر بعض أعمالك توثيقا تاريخيا للأمكنة؟

إذا نظرنا إلى المكان باعتباره سيرة ذاتية للإنسان، فسندرك أنه ليس معطى ثابتا، إنما كيان دائم التحول، المكان يتغير بقدر ما يتغير الإنسان، وما يبقى ثابتا في الحقيقة هو شعورنا المستمر بأننا نحاول الإمساك بلحظة تتفلت دائما.

لا أتعامل مع المكان بوصفه جغرافيا جامدة، فهو فضاء تتراكم فيه العواطف، ويعاد صوغ الذاكرة فيه باستمرار. ولذلك حين تظهر الأمكنة في بعض أعمالي، فإن ذلك لا يكون من باب التوثيق التاريخي بالمعنى التقليدي، وإنما محاولة لالتقاط ذلك الفراغ النادر بين ما كان وما صار، بين الصورة الأولى وصداها المتحول.

Irisprojects
عبدالله العثمان – "المعلّق – البلد" (2017)

التوثيق جزء من عملية أوسع وليس هدفا في ذاته: جزء من الابتكار، ومن الرحلة التي يحاول فيها الفنان أن يوازن بين الذاكرة والتوقع. أستحضر المكان لأضيء أبعاده الخفية، ولأفتح سؤالا حول كيفية تأثيره في تشكيل وعينا، وفي هذا المعنى لا يعود التوثيق تسجيلا للماضي، بل يغدو أداة تساعد الإنسان في قراءة المستقبل من خلال طبقات المعرفة التي يتركها المكان فينا. وكما يقول الفيلسوف غاستون باشلار: "المكان الذي نسكنه لا يمر بنا فقط، بل نحن الذين نمر فيه مرات ومرات. محملين ذكريات تعيد تشكيله كل مرة". وهذا ما يجعل العلاقة بين الإنسان والمكان علاقة خلق متجدد أكثر منها علاقة حفظ واستعادة.  

تسعى أيضا في جزء من تجربتك لاستكشاف بعض ملامح الوجدان البشري، كيف يمكنك تحويل المشاعر اللامادية إلى عمل تشكيلي مادي؟

الحس بطبيعته حالة غير مرئية، فضاء يتشكل من طبقات خفية من المشاعر والانطباعات التي لا تمس ولا ترى، لكن يمكن الإحساس بتردداتها. كثير من التجارب التي أحاول الاشتغال عليها تنبع من هذه المنطقة تحديدا، منطقة القصة والخيال التي لا حدود لها. واللغة التي لا تنطق بالكلمات بل بالملمس والظل والفراغ. 

الفن ليس محاولة لترجمة الحدس بشكل مباشر، فجوهر عملي، ليس أن أشرح الشعور بل أن أقدم أثره

لا أسعى من خلال الفن إلى ترجمة الحدس ترجمة مباشرة، بقدر ما أسعى إلى خلق شكل يمكنه أن يلمح لما لا يمكن قوله. دائما أعود إلى فكرة "لا تقل لي إن القمر مضيء أرني كيف ينعكس ضوؤه على زجاج مكسور". هذا هو جوهر عملي، ليس شرح الشعور بل تقديم أثره. لذلك أسعى إلى القبض على تلك اللحظة الدقيقة التي تتحول فيها العاطفة إلى آثر مادي. أحاول تحويل المشاعر اللامادية إلى مادة عبر تتبع ظلها عبر توظيف الفراغ. والملمس والخطأ أحيانا وسائل تفتح أبوابا للحس قبل العقل.

هلا حدثتنا عن استخدامك لتقنيات معينة كالتصوير، ومقاطع الفيديو، والفن التركيبي، وإضاءة النيون والفن الأدائي في تنفيذ أعمالك الفنية؟

أرى أن الضوء والصوت والحركة ليسا سوى خامات حديثة يمكن الفنان أن يعيد تشكيلها كما يعيد تشكيل الحجر أو الخشب، التقنية بالنسبة إلي لغة إضافية أستعين بها عندما تتطلب الفكرة نبرة معينة لا تستطيع المادة التقنية وحدها إيصالها.

المعيار الأساس في عملي هو الفكرة البحثية للمشروع، ما الذي تريد أن تقوله، وما الوسيط الأقدر على كشف طبقاتها المخفية. أحيانا تتحول إضاءة النيون إلى صوت داخلي للذاكرة، وأحيانا يتحول الأداء الجسدي إلى وسيلة لإظهار هشاشة الإنسان أو مقاومته.

riyadhart
عبدالله العثمان – "الروضة" (2022)، تركيب نحتي يستلهم ثلاثة نباتات في قلب الرياض

أشتغل دائما على توظيف ما يخدم العمل، لا ما يخدم التقنية ذاتها، وبقدر ما تتغير الفكرة تتغير الأدوات، فالفنان في النهاية لا يبحث عن وسيط واحد يعرفه إنما عن وسيط يكشف فكرته بأوضح وأعمق صورة ممكنة.  

تحولات متشابكة

لماذا تترافق الأفكار مع الأعمال الفنية الحديثة، بحيث نرى في غالبية الأعمال شرحا مفصلا يوضح ما الذي يهدف إليه الفنان، وإلا سيكون من الصعب أن يفهمها المشاهد؟ 

عندما أفكر بهذا السؤال، أعود إلى فكرة أساسية مفادها أن ما يحدث في الحياة ينعكس بالضرورة على ما يحدث في الفن، أسلوب العيش والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتحولات العالم، كلها عناصر تتسرب إلى طريقة الفنان في التعبير وإلى حاجته للشرح أو للاختزال.

هناك مراحل تاريخية كان فيها الإنسان يميل إلى الاختزال، لأن الواقع نفسه كان أوضح، والبنية الرمزية أقرب إلى المتلقي. أما اليوم فنحن نعيش في عالم شديد التعقيد، سريع الإيقاع، مليء بالتراكمات والسياقات المتشابكة.

المدينة ليست أبنية فقط، إنما طبقات من الرغبات والانتقالات والخيالات الجماعية، واستغرقت 5 سنوات في كتابة "اللغة والمدينة"

هذه الكثافة تجبر الفنان أحيانا على أن يكتب ويشرح، لا لأن العمل عاجز بل لأن الفكرة نفسها مشبعة بمعان يصعب تمريرها عبر المادة البصرية وحدها. فالفنان يتحرك بين حاجتين متناقضتين: الرغبة في الاختصار من جهة والحاجة إلى كشف السياق من جهة أخرى، وفي ظل تعدد القراءات وتنوع الخلفيات الثقافية، أصبح الشرح أداة تساعد المتلقي في الدخول إلى العمل من الباب الصحيح دون أن يفقد حرية اكتشافه الخاصة.

بدأت شاعرا وأصدرت مجموعة شعرية لكنك أكملت مسيرتك كفنان، فما الذي جذبك إلى الفن على حساب الشعر؟

في الحقيقة لم أتخل عن الشعر كما قد يبدو، ما زلت شاعرا، لكن علاقتي بالشعر تغيرت واتسع تعريفه بالنسبة إليّ إلى حد لم يعد محصورا في النص المكتوب. اكتشفت أن الجملة الشعرية ليست ما يكتب على الورق إنما ما يمكن أن يرى ويلمس ويسمع.

بدأت أرى الشعر في أشياء لم تكن تقرأ باعتبارها شعرا. هدف ماردونا الشهير بيده هو جملة شعرية. سباق مائة متر هو جملة شعرية. طبق مزهر بالألوان في مطعم هو جملة شعرية.

الفنان عبد الله العثمان

مع الوقت بدأت أتعامل مع الشعر كطاقة لا كمجال محدود. صرت أكتب الشعر بالضوء وبالصوت وبالحركة وبالفيزياء أحيانا، أو بالركض أو بالفراغ الذي يتركه الجسد في الفضاء. هكذا تحول الفن التشكيلي من كونه بديلا من الشعر إلى امتداد له. لغة أخرى تقول ما لا يقوله النص. 

ما أهم الأفكار التي تستعرضها في كتابك الذي تتناول فيه سيرة المدينة؟  

كتاب "اللغة والمدينة" هو محاولة لقراءة الرياض من خلال لغتها، ومحاولة لفهم اللغة من خلال عمارتها.

في هذا الكتاب أسعى إلى تتبع العلاقة العميقة بين اللغة بوصفها نظاما دلاليا، والمدينة بوصفها كيانا اجتماعيا ومعماريا. أدرس كيف تتغير المفردات بتغير الشوارع وكيف تصبح اللوحات الإرشادية، وخرائط الطرق والعمران شاهدا على تحولات الوعي والاقتصاد والإنسان.

riyadhart
عبدالله العثمان – "اللغة والمدينة (2023)، تركيب متعدد الوسائط يتتبع تطور اللغة والعمارة في الرياض

أعود في هذا المشروع إلى مراحل زمنية متتابعة: الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات وما بعد الألفين، في محاولة لرصد ما حدث للرياض خلال هذه العقود من تحولات اجتماعية وإنسانية ومعرفية ومعمارية. فالمدينة ليست أبنية فقط، إنما طبقات من الرغبات والانتقالات والخيالات الجماعية.

والكتاب حصيلة عمل استمر خمس سنوات، كنت خلالها أتنقل بين أرشيفات الرياض وذاكرتها الشفاهية وملامح التغير في شوارعها، وقد صدر الكتاب عام 2025 في رعاية متحف مركز الملك عبد العزيز العالمي، "إثراء"، مما أتاح لهذه التجربة أن تجد فضاء مؤسسيا يوازي عمق الفكرة التي بنيت عليها.

شهدت الحركة التشكيلية السعودية خلال السنوات الأخيرة تحولا جوهريا، بالانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة النضج

هذا الكتاب ليس بحثا في العمارة وجدها ولا في اللغة وحدها، بل هو محاولة لفهم الإنسان من خلال العلاقة الدقيقة بين ما يقوله وما يبنيه.

كيف تنظر إلى الحركة التشكيلية في السعودية وهل استطاعت من خلال الفعاليات المتنوعة أن تبرز المواهب الشابة؟

شهدت الحركة التشكيلية السعودية خلال السنوات الأخيرة تحولا جوهريا، يمكن وصفه بأنه انتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة النضج. هذا التحول لم يأت مصادفة بل نتيجة دعم مؤسسي واسع تقوده الجهات الحكومية والمبادرات الثقافية التي وفرت للفنانين بيئة حاضنة ومساحات للتجريب والبحث والتطوير.

العثمان بجانب أحد الأعمال

هذا المناخ أتاح للفنان السعودي أن يصل إلى مستويات عالية من الاحترافية. سواء في آليات العرض أو في بناء المشروع الفني أو في المشاركة الإقليمية والدولية. ما نراه اليوم من حضور سعودي لافت هو انعكاس مباشر لتجربة ثقافية ومعرفية، عميقة متجذرة في التراث، ولكن منفتحة على الأسئلة المعاصرة.

font change

مقالات ذات صلة