عشقنا الماضي حتى صرنا نعيش فيه

حروب الحنين

في كتابه "الريتروتوبيا" الذي نشر عام 2018 بعد وفاته، يحذّر المفكر البولندي زيجمونت باومان من سطوة الماضي معتبرا أننا دخلنا في زمن الحنين وأن الحداثة التي كانت موصومة بالتقدّم صارت ملتصقة بالماضي، وأن الرؤية التي تبرز اليوم لا تركز على المستقبل الذي سيُنشأ ولكن على ماض مهجور وغير ميت يمكن أن نطلق عليه اسم retrotopia.

الحرب التي يخوضها بوتين ضدّ أوكرانيا تشكل أبرز صناعات الحنين المرئية حاليا. عنوانها المعلن والواضح والخطاب الإعلامي والترويجي الممهّد لها لم يخرج قيد أنملة عن مفردات الحنين إلى زمن الاتحاد السوفياتي، بل وأبعد منه الزمن القيصري. التوظيف كان سهلا ومباشرا وفعالا لأنه لم يحتج إلى صناعة بروباغندا إعلامية ضخمة ليست مضمونة النتائج، بل استند إلى عمق الحنين وقوته الذي يلغي ضرورة صياغة خطاب في السياسة والأمن والجدوى الاقتصادية.

استطاع هذا التوظيف خلق سياق يربطه بذلك الحنين العميق إلى الزمن السوفياتي الغابر وما يحمله من تمثّلات متوارثة عند الأجيال، فوجدت حرب بوتين مادتها ووقودها. مقدّمات إنتاج الحنين موحّدة وتتطلّب تفريغا كاملا وشاملا لقدرة الناس على التفكير وإنتاج الأحكام، ويمكن القول إنها تنتج مؤمنين متعصّبين وجنودا وليس كائنات قادرة على النقد والقراءة أو راغبة فيهما. من هنا نفهم شعبية الحرب الكبيرة في أوساط اليمين والمتطرفين.

الرئيس الجمهوري السابق للولايات المتحدة دونالد ترامب حمل شعارا يقول "فلنجعل أميركا عظيمة مجددا". معاداة الحاضر تتجلّى بشكل عنيف ومباشر في مثل هذا الخطاب الذي يربط عظمة أميركا بسياقات ماضوية ترفض الاعتراف بمنجزات الحاضر أو منحه أي قيمة وتطالب بإعادة إنتاج عظمة الماضي والعودة إليها.

ليس من قبيل المصادفة أن يكون أنصار ترامب الرومانسيون الحالمون بإعادة أميركا الى عظمتها معادين للبنى المؤسساتية الراسخة والعميقة ورافضين للتطوّر العلمي والاجتماعي كما تشهد مواقفهم الرافضة للقاح وآراؤهم المناهضة للمرأة والحريات.

في العالم العربي نشهد حنينا عميقا إلى أزمنة الصفاء الغابرة أو حكم شخصيات معينة تساق بغزارة ومن دون حدّ أدنى من القراءة، لكنّ القاسم المشترك بينها أنها تنشئ بنى عنف وحروب.

فالتجربة الرومانسية النوستجالية الأكثر رعبا التي شهدتها منطقتنا والمتمثّلة في ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي الذي كان ينادي بالعودة إلى "صحيح الإسلام"، تقدّم المثل الأوضح على تصادم نزعة العيش في الحاضر ومعناه وبين الرؤى الماضوية. مسلم اليوم هو بالنسبة إلى التنظيم المتطرّف مدان بإسلامه الحيّ والناشئ عن تراكم تجارب طوّرت فهم الدين وممارسته إلى أن وصل الى حالة يتكيّف فيها مع زمنه. مجرّد كونه مسلما في الحاضر واللحظة، يعني أنه مجرم ويستحق القتل. خطاب التنظيم المتطرف هو عين ما يفرزه خطاب الحنين في توظيفاته العامة والمتنوّعة والذي يقول باستحالة الاعتراف بشرعية الحاضر وقدرته على صناعة المعنى.

الحنين لبنانيا

لبنان بلد يحيا عمليا في الحنين ولا يعود إليه. غالبية العناصر الفاعلة في تركيبته سلطويا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وفنيا تنتسب بشكل شبه حصري إلى الماضي. معاداة التحديث تكاد تشكل الإطار الجامع لمعظم القوى المؤثّرة والمتناحرة في الداخل اللبناني، والتي لا تكاد تتفق على عنوان واحد ما خلا ذلك العداء المتأصّل للحاضر والجديد.

لا يزال مشهد إجهاض ثورة 17 تشرين 2019 ماثلا في الأذهان. قد يكون من الممكن النقاش في مدى صلاحية شعارها الأساسي، "كلن يعني كلن"، والذي يضع جميع السياسيين في مرتبة واحدة في ما يخص الشراكة الفاعلة في الفساد وإنتاجه، ولكن لا يمكن الشك إطلاقا في طبيعة النزعة المحرّكة لتلك الثورة والتي تنحاز بشكل مطلق وحاسم للجديد.

نظر المنتفضون إلى الطبقة السياسية بوصفها كتلة واحدة متسقة ومتجانسة في عكسها للماضوي والغابر، وكانوا شديدي الصلابة في عدم السماح بأي تمايز بين أي من مكوناتها التي بدت، على الرغم من تبايناتها، موحّدة في سعيها لإجهاض ثورتهم وخطابها ومعناها والسياق الذي تتحرّك من خلاله والنزوع الذي تعبر عنه والذي يصبّ في نفي أثر الماضي على صناعة الحاضر.

نجح الماضي في معركته وأعاد إنتاج نفسه وسلطاته التي طبعت الحياة العامة في البلاد، جاعلة أي طموح للتحديث فكرة عابرة وغير قابلة للاستقرار أو الحياة.

تجربة رفيق الحريري تقول ذلك تماما، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يسمّي تياره بـ"المستقبل" بدعوى التمايز عن القوى التي تناسلت من الحرب ومن الماضي، لكنّ تلك القوى أثبتت قدرتها على محو كل نزوع الى التحديث. الجميع يذكر النقاش الذي دار حول إعمار وسط بيروت، فقد كان الخطاب الذي يواجه عملية التحديث ينطلق من ضرورات حفظ الماضي والذاكرة ووجِه بشعار "بيروت مدينة عريقة للمستقبل".

هذا النقاش كان حمّال أوجه وقابلا لتأويلات عديدة لكنه حُسم باغتيال الحريري، ذلك الاغتيال الذي حوّل عملية التحديث التي جاء بها إلى ركام، وأعاد معنى وسط المدينة ونظام المعاني إلى ما كان عليه قبل الإعمار وكأنّ لا شيء حدث. سلطات الماضي في لبنان نجحت مرة تلو الأخرى في محو آثار أي نزوع تحديثي. الماضوية في سياقاتها اللبنانية مطلقة ولا تقبل بالاختراقات.

هل يمكن الحديث عن حنين لبناني ما دام كل شيء ينتمي إلى الماضي؟ بعد اغتيال الحريري على سبيل المثل ارتفع شعار الذاكرة وطغى على المشهد وكانت الرغبة في عدم النسيان وتأكيد المحاسبة وذلك الفيض المتصل من الاستعادات لصوره ومواقفه وأرشيفه وكلماته، تتزامن مع تضاؤل  القدرة على الفعل وإنتاج الواقع في الحاضر في مفارقة لافتة.

طغى الماضي على المشهد اللبناني بقوّة، ولعل ما نشهده حاليا من صراع على موقع الرئاسة يدل على متانته وصلابته. فالبُنى الرمزية التي يمثّلها الاسمان المطروحان تدلّ على أن الصراع محصور بين نسخ مختلفة من الماضي.

يحمل اسم سليمان فرنجية كل تاريخ الممانعة وجرائمها في لبنان، في حين يحيل جهاد أزعور على تاريخ الفشل في إدارة اقتصاد البلاد وحل أزماتها. ولعلّ العالم السائر نحو التقدّم قد شرع في التعامل مع لبنان كمستنقع للماضي لا يمكن أن تجري فيه مياه جديدة لأنه لا يستطيع ولا يرغب في تغيير طبيعته ولا في تجديدها. الاجتماعات التي تعقد حول لبنان لا تحاول الدفع في اتجاه خلق صيغة جديدة تتصل بالحاضر وتساهم في دفعه إليه، بل قد يكون الزج باسم قائد الجيش جوزيف عون كرئيس مقبول للبلاد عنوانا واضحا لمتانة الماضي، إذ أن المعنى الذي يفجّره هذا الخيار يقول إن البلد يحتاج إلى الردع والى شخصية تستحضر رمزيا صورة الأب والقائد وعمليا تناط به وظيفة حفظ الأمن في بلد يتداعى. وفي كل تلك المعاني إحالة على القصور عن إنتاج الحاضر والواقع وتثبيت صورة بلد غارق في الماضي.

لا تقتصر سلطات الماضي على مجال صناعة السلطات والإدارة بل تخترق شتى المجالات. تفتح موقع "فيسبوك" فتهاجمك صور أشياء وألعاب قديمة مع تعليقات تفترض أنك إذا تعرّفت عليها فستكون من الطيبين والمحظوظين الذين عاشوا ما يسمّى بالزمن الجميل. تنال تلك الصور موجات عارمة من الإعجاب والتعليقات.

تنتشر أيضا صور لنوع من عصير شهير كان شعبيا في السبعينات وهو هرم "بون جوس" مع تذكير بأيام السعادة والهناء حين كانت العائلة تجتمع ويشرب الجميع هذا العصير الرائع. هذا ما يقوله خطاب الحنين. لكن الحقيقة كما هي الحال دائما في مكان آخر، فذلك العصير كان شهيرا بسبب ثمنه الزهيد. ومن ناحية أخرى لا يمكن للمرء أن يفهم ارتباط السعادة باستهلاكه الذي يصوَّر وكأنه يجري في لحظة مستقلة عن أحداث تلك المرحلة التي كانت حافلة بالحرب والدمار والخراب. صورة هرم "بون جوس" مرتبطة بالملاجئ والتهجير، لكن الاستحضار إذا ما استعملنا عبارة كونديرا الشهيرةيضفي على كل شيء ألق الحنين، حتى المقصلة.

تُستحضر كذلك الألعاب المؤذية وغير الصحية التي كانت سائدة، والتي كانت في معظمها تقلد الحرب الجارية من قبيل مسدسات يوضع فيها نوع من المفرقعات البلاستيكية المحشوة بخليط من البارود ومواد حارقة وكانت تصدر صوتا مزعجا ورائحة كريهة، وكذلك أنواع من المفرقعات وغيرها من الأدوات مثل "الووكمان" وشرائط الكاسيت وأنواع قصّات شعر وغيرها، كما يحتلّ اسم "الجدود" بتنويعاته واجهات الكثير من المطاعم اللبنانية إضافة إلى أسماء أبطال المسلسلات القديمة والرسوم المتحرّكة وغيرها. العداء للتقدّم يستشري ويتفاقم، وكل من يرغب في محايثة الحاضر أو يحمل نزوعا متماشيا مع الزمن ومناهضا للماضي ليس عليه سوى الفرار.

المجال الفني يحفل بالاستعادات التي لا يريد أصحابها التعبير عن رغبة في التواصل مع حقبة فنية غابرة وقراءتها وتذكّرها بقدر ما تحمل كل استعادة من هذا القبيل صيغة شتم الحاضر وحسب. في آخر تجليات هذا المنطق أقيمت حفلة استعادة للنتاج الفني اللبناني القديم في حفلة عرضت على شاشة "المؤسسة اللبنانية للإرسال" بعنوان قائم مسبقا وهو "الزمن الجميل". تناوبت مجموعة من فناني السبعينات والثمانينات والتسعينات الذين لا يزالون على قيد الحياة، على تلقي التكريم وإعادة تقديم أعمالهم، كما أحيت ذكرى مجموعة من الراحلين، لكن التصريحات في معظمها صبّت في اتجاه تسفيه الحاضر. العنوان لم يكن التذكر الذي يمكن بشكل من الأشكال أن يكون مفيدا وحميدا إذا ما حدث في سياق الوصل بالحاضر، لكنه كان عن سابق تصور وتصميم توكيدا للقطيعة ودفعا في اتجاهها.

وإذا ما حاولنا تصنيف التعامل اللبناني مع الحنين، يمكن القول إن اللبنانيين عموما يحيون في الحنين، وحتى من شاركوا في ثورة 17 تشرين وقعوا في الثقب الأسود للحنين لأن فشل الثورة حوّلها إلى يوتوبيا. خصوصية منطق الحنين اللبناني أنه يخلق إطارا ماضويا عاما وسائدا وينتج  سرديات عامة تجتهد كل جماعة في توكيدها وإعادة إنتاجها، ويفجّر كذلك وبشكل متسلسل ودائم مع انقطاعات لا تكاد تذكر، موجات من التركيز على لحظات معينة تُدفع إلى الواجهة لتوظيفها في توليد النزاعات والصراعات.

لا شيء ينجو من الماضوية في لبنان، لا الفن ولا الثقافة ولا السياسة.

في صورة منتشرة تعود الى العام 1971 الذي شهد فوز جورجينا رزق بلقب ملكة جمال الكون، نراها تتشمّس في فندق فينيسيا. تظهر ممتلكة للسياق كله وكأنها تتشمّس على امتداد مساحة البلد، وكأن لا شيء آخر يمكن أن يحدث خارج حالة الاسترخاء التي حوّلها اللقب المرموق إلى نموذج باهر للعيش اللبناني. حمام سباحة الفندق يبدو بلدا مستقلا عن لبنان السبعينات ويستعاد بوصفه حاملا لتاريخه، وكذلك الأمر في صور بيروت التي تنتمي إلى تلك الفترة والتي لا تخدم استعادتها فكرة التوثيق بل تستخدم على الدوام في سياق إدانة الحاضر.