فهد خليف: الجمال سبيل التحرّر من التعصب والكره والخوف

أعماله معروضة في بعض أبرز المواقع السعودية

الفنان التشكيلي السعودي فهد خليف

فهد خليف: الجمال سبيل التحرّر من التعصب والكره والخوف

يحرص الفنان السعودي فهد خليف على مزج القيم الجمالية والفكرية في أعماله المتشبعة بالتفاصيل، والمنجزة بدقة واحترافية فنان متمكن من أدواته الإبداعية. ويهدف من وراء كل أعماله، على اختلاف مواضيعها، إلى تقديم منجز فني يحمل قيمة إنسانية عالية تساهم في رفع الوعي، وتدعو الناس إلى التأمل في واقعهم، في ظل عالم متسارع يحمل الكثير من التناقضات والمتغيرات.

في رصيده ثمانية عشر معرضا شخصيا، إلى جانب مجموعة من المعارض الثنائية والثلاثية وعدد كبير من المشاركات الجماعية، وخلال هذه المشاركات حصد العديد من الجوائز، منها جائزة أفضل عمل من المجلس الثقافي البريطاني. كما عرضت ثلاثة من أعماله بأهم متاحف روسيا بناء على طلب وزيرة الثقافة الروسية، في وقت تقابل فيه جداريته المعروضة في مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدّة المسافرين، أما الجدارية الأخرى بمدينة الملك عبدالله الرياضية في ملعب "الجوهرة" فمعروضة أمام جمهور الكرة، بجانب مجموعـة كبيرة من الأعمــال في المنشـآت الحكوميــة والمستشفيات والفنادق، ووراء كل هذه الأعمال رسالة تلامس كل من يتأمل بعمق ويرى ما وراء التكوين والألوان.

  • ما طبيعة رسالتك الفنية التي تقف وراء إنجازك كل هذه الأعمال؟

قد أعلو على الواقع وأتجاوزه بعيدا من تدخل العقل والمنطق في ضوء تلك الممارسات الفنية والإبداعية التي اتسمت بالانضباط والاستمرارية اليومية، لصناعة الدهشة في قالب الجمال في عالم متسارع متغير تحكم زواياه الدهشة وعدم الانضباط والاستهلاكية المادية واللا أخلاقية. ثمة أحداث وتجاذبات وتغيرات على المستوى الإنساني عموما، لكن الجمال يظلّ قيمة إنسانية مؤثرة وفاعلة في سلوك الإنسان ليصبح الفن أسمى من الطبيعة فيرتقي بالوعي إلى مناطق الجمال عبر الغوص في فضاءات لونية وتكوينية محكمة الأداء لكي تعيد تربية أجيالنا على الجمال بوصفه طريقا للمعرفة والتحرّر من التعصب والكره والخوف والانطلاق نحو مجتمع معرفي يحكمه الجمال والإبداع.

أسعى إلى تقديم قيم فنية وجمالية وإبداعية متفرّدة لإيصال رسالتي ورؤيتي الخاصة للإنسان كجسد وروح وكيان، ‏وعلاقته بما حوله من أشياء كموروث معماري وثقافي ومجتمعي

  • تستحضر في أعمالك العديد من الرموز مثل الخيول والطيور والأسماك. ما الذي تريد قوله من خلالها؟ 

يقول رائد علم الاجتماع ابن خلدون: "الإنسان ابن بيئته"، فسلوك الإنسان وطباعه وثقافته هي امتداد لعناصر بيئته وطريقته في التواصل والتفاعل معها، فهي التي تصقله وتلونه حسب جغرافيتها ومناخها. وكوننا ننتمي إلى تلك البيئة الخلابة والولادة بالمبدعين الشغوفين بالفنون البصرية والشعبية وفنون الخطابة والفنون الحرفية، وكوننا جزءا من ذلك النسيج الثقافي والمعرفي للمنطقة بما ننتجه من فنون بصرية من خلال تعمقنا بالتفكير في الإنسان والعلاقات التي تربط البشر بعضهم ببعض، ودور التراث المحلي والثقافة عموما في ذلك، فكرت مليا كيف يمكنني أن أجمع تلك العلاقات الانسانية ونظرتي إلى الحياة والإحساس بالجمال عبر قيم فنية راقية، وأن أتواصل مع من حولي وأعبر عن أفكاري وأحاسيسي بصريا، مستندا إلى تراثي الجنوبي وثقافتي العربية السعودية لأوصل من خلالهما رسالتي ورؤيتي الفنية بأسلوب عصري حديث يخاطب العالم أجمع. لذلك أعمالي ليست مجرد خطوط مستقيمة وزوايا متوازية ومتقاطعة ولا مساحات لونية متراكبة فوق بعضها، بل هي منطقة تنقلات زمانية ومكانية تحقق أكثر من زمن واحد بالعمل من أمام المشهد وخلفه وأعلاه وأسفله وجانبيه في مناطقية بيئية محددة. أعتقد أنني قد حققت من خلال التكوين واللون مفهوم الإثراء بالعمل كجنس دلالي وتعبيري ذاتي يحمل دلالات نفسية وحسية وانتماء الى المكان في حد ذاته كمقصد لما يحققه ذلك المكان من الشعور بالارتياح وتفريغ ضغوط الحياة وانشغالاتها. لذلك أسعى جاهدا في جميع أعمالي الخاصة إلى تقديم قيم فنية وجمالية وإبداعية متفردة لإيصال رسالتي ورؤيتي الخاصة للإنسان كجسد وروح وكيان، ‏وعلاقته بما حوله من موروث معماري وثقافي ومجتمعي باستلهام مجموعة من الرموز والمفردات من قوارب وطيور وأثاث وكراس وخيول وأسماك... إلخ، بلغة بصرية تعبيرية من خلال تشكيلات وطاقات ودلالات لونية عميقة وحروف مليئة بالحركة والليونة كمفردات تشكيلية معبرة ومتضمّنة جماليات من خلال علاقة بعضها ببعض.

 

كل الأماكن ‏

  • للأماكن حضور في لوحاتك بفضائها الواسع كالمدن، وبتفاصيلها الصغيرة مثل ركن في مقهى، فكيف تبدو علاقتك بالأماكن وكيف يستوعب الفن هذه العلاقة؟

منذ الطفولة يجذبني كل ما له علاقة بالشكل واللون والضوء والظل، وكل ما له علاقة بالغائر والبارز، فأخذت أتلمّس تلك الأشكال والرمزيات والعناصر والمفردات الموجودة على تلك المسطحات الحجرية والمكملات الخشبية كأساس إنشائي وتكميلي جمالي في العمارة الشعبية التي كنت ولا أزال جسدا وروحا منتميا إليها. أتلمس وأنهل من كل تلك الجماليات شكلا ومضمونا وأتساءل عن سر جاذبيتها وسيادة كل مفردة على المشهد كقيمة جمالية متفردة عندما تصطبغ وتتجمّل في كامل حلتها باللون الصريح النابض بالحياة والحيوية في بهاء متفرّد، وعندما ينتزع منها اللون تستحضر الضوء كقيمة جمالية عالية من خلال الغائر والبارز والملمس. تشبّعت عيني بكم هائل من المفردات والمشاهدات البصرية وامتلكت مخزونا بصريا متعدد المشهدية بين المنتج الإنساني والطبيعة الساحرة المتعدّدة التضاريس، بين الحجر والخشب، بين الموروث الشعبي والانفتاح الحضاري، بين الحكايات والأساطير والأهازيج والرقصات. إنها طوبوغرافية المكان ذات الموروث الشعبي والبنائي والجغرافي المتفرد ممتزجا بتنقلاتي الدراسية والوظيفية بين الباحة ومكة وجدة وتلاقح الحضارات والمشاهد والثقافات والرؤى والأفكار.

  • يحضر الخط العربي في العديد من أعمالك خاصة في الجداريات التي عرضت في مطار الملك عبد العزيز الدولي، فلماذا الخط العربي؟

يعتبر الخط العربي فنا قائما بذاته يعكس ثراء الثقافة العربية، كما تتميز الكتابة العربية بكونها متصلة ولينة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من خلال المد والرجع والاستدارة والتزوية والتشابك والتداخل والتركيب. فالحرف العربي عبارة عن جسد وروح وصوت وهوية، ومن هنا أعمد دائما إلى استخدام الحرف العربي وليس الخط العربي كشكل وصوت ونغم، ومن الضرورة قمع اللغة حتى لا تسقط عملية المشاهدة، فجميع أعمالي عبارة عن أحرف متناثرة متداخلة متشابكة ذات شفافيات آسرة غير مقروءة ولا تكوّن في مجملها نصا أو جملة مقروءة لأن أي لغة تقرأ ‏تسقط عملية المشاهدة فيصبح الشكل بلا قيمة، ويتحول المشهد البصري إلى نص.

  • لماذا اخترت خط الثلث، وما الذي يميزه عن بقية الخطوط العربية؟

خط الثُلث هو أجمل الخطوط العربية وأصعبها من حيث القواعد والإنشاء ويمتاز بالمرونة ومتانة التركيب وبراعة التكوين وجمال القوام.

 

ألوان متغيرة

  • لديك مجموعتك اللونية الخاصة وأكثر ما يظهر فيها الأزرق، فكيف تبدو علاقتك بالألوان وبالأزرق تحديدا، وهل من الممكن أن تميل في مرحلة ما الى ألوان محدّدة تستغني عنها في ما بعد؟

يقول الفنان التشكيلي العراقي الدكتور محمد الكناني: "اللون يأتي بمعنى النوع، واللون في اللوحة هو نوع تعبيري ونوع جمالي فاللون المسحوب من منطقة الكيمياء والفيزياء لا قيمة تعبيرية له إنما هو عبارة عن خامة وطيف أو موجة، لا تجنيس له فنجمله على سطح اللوحة كمجنس دلالي وتعبيري ذاتي وسيحمل دلالات محملة من الذات المنتجة كدلالات نفسية وحسية تداولية". فاللون له طاقة عالية وأثر بالغ على سلوك الإنسان، ولعلي أكون محملا بدلالات وقيم لونية شخصية لا تشبه أحدا في فرادتها كوني أتنقّل في اشتغالاتي بين المعرفة والخبرة والشعور، فاللون الأزرق بالنسبة إليّ هو حالة ودلالته الحركة والنمو والحيوية والإنجاز، لون تداولي كالبحر في حركته وكالسماء في اتساعها وصفائها، فاللون حالة تتغيّر وتتبدّل بين حين وآخر، قد يسود البياض أحيانا والأرجواني أحيانا أخرى والأصفر والأحمر والأخضر، كل محمل بدلالاته وأثره وتأثيره. يقول بيكاسو: "إن الألوان مثل الملامح تتبع تغيرات المشاعر".

  • لماذا اخترت الأسلوب التعبيري الرمزي؟

من مفردات الحداثة تحويل الحدث من الحالة البصرية الواقعية إلى حالة الشعور التي تؤسس للاغتراب، ولما هو أبعد من الواقع والمتخيل، فالفن الحديث أو ما يسمى بالحداثة في الفنون أفسح المجال لتفكيك وانصهار تلك المدارس التي كانت سلطوية وتبنى على منهجية منظمة منضبطة لا تقبل التغيير أو الخروج عن قواعدها، مما أدّى إلى تداخل الأساليب والاتجاهات بعضها مع بعض في عمل فني واحد. أنتمي إلى المدرسة التعبيرية الرمزية التي لها دور فاعل في الانفكاك والتحرّر من سلطة المدارس التي كانت مهيمنة مثل الواقعية والرومانسية والانطباعية والسوريالية وغيرها. هذا الأسلوب التعبيري الرمزي يمنح الفنان مساحة شاسعة للتعبير عما يريده ويلج في خاطره، ويسمح أيضا بجمع المتناقضات في عمل واحد مما يجعل الخيال خصبا ثريا لاستدعاء تلك المفردات البصرية والفكرية والسمعية الكامنة في العقل الباطن والوجدان، في صور حية تتوالد في أشكال ورمزيات متشبّعة ومنصهرة مع الكم الثقافي والمعرفي للفنان وهي تستدعى بأشكال ومفردات جديدة وبإحساس متفرّد يخص الفنان ذاته، مما يؤدي إلى اتساع الأفق لتوظيفها على سطح العمل في أشكال ومساحات وألوان جديدة تواكب الفعل الزماني والمكاني الحالي.

تشهد المملكة العربية السعودية حراكا فنيا فاعلا ومتميزا على الصعيدين المحلي والدولي من خلال خطط وبرامج مدروسة ومنظمة، تهدف إلى خلق جيل جديد يعي معنى الإبداع والثقافة والمعرفة

حراك ثقافي                                      

  • أعمالك معروضة بشكل دائم في أماكن عامة في المدينة، فما أهمية هذا بالنسبة إلى تجربتك؟

لقد أصبحنا جزءا من الحراك الثقافي المتجدّد الذي يعكس مدى الاهتمام بجودة الحياة في كون الفن أصبح ضرورة. أفتخر دوما بالثقة الغالية لاختيار أعمالي للمواقع الرسمية والمهمة لتكون واجهة ثقافية وهوية معاصرة تخاطب العالم أجمع بلغة بصرية راقية تحلّق بين الشكل واللون، مفرداتها النسيج المجتمعي والأخلاقي والمعرفي ومساحتها التنوع الجغرافي والمناطقي كهوية وطنية متأصّلة. لذلك أحاول جاهدا أن أتجاوز وأبتكر قيما فنية متجدّدة أوازن بينها وبين علاقاتي الخاصة بالتراث المحلي والمعاصرة وأن ارتبط بالعناصر الثابتة والمتجدّدة في ضوء التحولات الزمانية والمكانية لتكون شاهدا على تلك النهضة المعرفية والثقافية.

  • لماذا لا تميل إلى تسمية أعمالك وتقتصر التسميات على عناوين المعارض؟

الجمال ‏ ضرب من ضروب اللغة الرمزية أو السيميائية أو العلاماتية وهو شكل من أشكال التداولية، لذلك له هدف وهو دعوة الآخرين الى المشاركة بالإحساس (أي محاولة جعل الإحساس لدى الفنان والمتلقي واحدا). فتوجيه المتلقي في مجموعة من العناوين والأسماء لكل عمل، يؤطر فكره ويحبس إحساسه ويقولبه في إطار ضيق لا يستطيع تجاوزه أو الانفكاك من سلطته، لهذا نعمد إلى وضع عنوان عريض للمعرض للتحليق بفكر المتلقي ونقل إحساسه إلى آفاق ومساحات لا حدود لها.

  • لك علاقة خاصة مع مرسمك الذي وصف بأنه منظم، أي بعكس ما يحدث في أغلب مراسم الفنانين، فكيف تبدو هذه العلاقة؟  

سلوك الإنسان وطباعه وثقافته هي امتداد لعناصر بيئته وطريقته في التواصل والتفاعل معها، وكي لا أعيش حالة الاغتراب داخل مرسمي أعمد إلى تهيئة المكان للممارسة الجادة المنتظمة الخالية من الفوضى والعبثية إلى بيئة صحية جمالية جاذبة محفّزة، فالقيمة الجمالية بين مكان الإنتاج والمنتج الفني، تتساوى لتعزّز الوجدان جماليا وسيكولوجيا بالنسبة إليّ.

  • كيف انعكس الحراك السعودي الثقافي الأخير على الحركة التشكيلية؟

تشهد المملكة العربية السعودية حراكا فنيا فاعلا ومتميزا على الصعيدين المحلي والدولي من خلال خطط وبرامج مدروسة ومنظمة، تهدف إلى خلق جيل جديد يعي معنى الإبداع والثقافة والمعرفة، وتلعب وزارة الثقافة دورا مهما ورياديا في الحراك الثقافي الفني من خلال مجموعة من البرامج والأنشطة الثقافية المهمة من مسابقات وإقامات فنية محلية ودولية ودعوات الى المعارض والأنشطة الفنية ومساندة للدور الفاعل الذي تقوم به مؤسسة مسك الخيرية في الدعم اللا محدود للفن والفنانين.

  

font change

مقالات ذات صلة