فرانز هالز مستعادا بعد أربعة قرون من الجمال

رسم كأنه ينظر إلى المستقبل

فرانز هالز مستعادا بعد أربعة قرون من الجمال

ما الذي تعنيه إقامة معرض شامل لرسام عاش قبل أربعة قرون؟ هذا سؤال ينساه المرء وهو ينظر إلى لوحات فرانز هانز الذي عاش بين سنتي 1580 و1666. بمعنى أنه سبق عبقري الرسم رامبرانت وعاصره. ليس الكمال في لوحاته هو ما يفعل فعله في التأثير ولكن خيال الروح يُرينا شيئا آخر غير ما يمكن أن نراه في الواقع. ترك الرسام شيئا من روحه لا يزال نابضا في وجوه الأشخاص الذين رسمهم. في الوهلة الأولى يفكر المشاهد في أن ذلك المعرض يمكن أن يكون درسا للرسامين في تعلم فن البورتريه، ولكن هذا التفسير التبسيطي سرعان ما يتراجع أمام ذروة المشاعر التي ينطوي عليها كل وجه رسمه ذلك الرسام الذي مهد لعصر الباروك.

ليس من المبالغة القول إن من يشاهد معرض الرسام الذي وُلد في هارلم الهولندية لا بد أن يخرج منه بإحساس واضح عن الرسم. ذلك الإحساس معناه أن الرسام الذي حضرت لوحاته بعد أربعة قرون من رسمها لا يزال قادرا على فرض أثره على مشاهدي لوحاته الذين لا يمكهم إخفاء الدهشة التي تعلو وجوههم. ليس لأنهم يتساءلون كيف استطاع أن يرسم تلك الوجوه بتلك الرهافة والرقة والأناقة التي تتشبه بالغزل فحسب بل أيضا لأنه صنع حياة يمكن أن يعيشها أصحاب تلك الوجوه من خلالنا. لا يمكن أن يذهب المرء إلى بيته بعد رؤية المعرض إلا وهو مسكون بروح واحد على الأقل ممَن رسمهم هالز.

فردوس دانتي

هناك قدر من التلقائية يميّز مظهر البشر الذين رسمهم هالز، لا ينسجم مع رغبة رسّامي البوتريه في أن يتوقف الموديل عن الحركة لكي يتمكنوا من التقاط ملامحه فيكون الوجه المرسوم شبيها بوجهه. يشعر المرء وهو ينظر إلى لوحات هالز أن الرسام كان معنيا بالتقاط الحركة، بحيث أنه ربما ترك الأشخاص الذين رسمهم يتحركون بتلقائية من غير أن يجبرهم على السكون كأنهم نوع من الحياة الصامتة: الفاكهة على سبيل المثل.

يشعر المرء وهو ينظر إلى لوحات فرانز هالز أن الرسام كان معنيا بالتقاط الحركة، بحيث أنه ربما ترك الأشخاص الذين رسمهم يتحركون بتلقائية من غير أن يجبرهم على السكون

يقول فنسنت فان غوغ في رسالة إلى صديقه إميل برنار "رسم فرانز هالز صورا شخصية، لا شيء لا شيء لا شيء سواها. غير أن تلك الرسوم تستحق القيمة التي يحظى بها فردوس دانتي ومايكل أنجلو وحتى الإغريق". ليس المطلوب من رسام مثل فنسنت أن يكون محايدا في المجاهرة بمغالاته حين يُحب، ولكن رسوم هالز يليق بها أن تكون موضع حب، فيه الكثير من الغلو. فهي تبهر بما تنطوي عليه من قوة تعبير، في عصر غلبت فيه الإجادة من خلال إظهار المهارة في رسم التفاصيل الصغيرة حتى قيل إن العاصافير توهمت أن ما تراه في إحدى لوحات ذلك العصر كان عنبا حقيقيا فحاولت التهامه.

ما فعله هالز أنه لجأ إلى قوة الرسم في التعبير ولم يهدر وقته في العناية بالتفاصيل الصغيرة مثل ثنيات الدانتيل وطبقات الياقات وحواف الثياب. لقد رسم ذلك كله على عجل كما يفعل رسام حديث، غير أنه لم يُخطئ الطريق إلى الكمال الذي يتحقق من خلال النظر إلى اللوحة باعتبارها وحدة عضوية، لا مسافة تفصل بين الأسلوب الذي رُسمت من خلاله والمحتوى العاطفي الذي تزخر به.

تصالح مع النفس

يجمع مؤرخو الفن ونقاده على أن فرانز هالز لم يكن عالما نفسيا مثل رامبرانت، ولا فيلسوفا مثل فيرمير، وهما معاصراه، لكن فهمه لكيفية إبراز الشخصية ممتزجة بموقفها في تعبير أو حركة عابرة كان غير مسبوق ومبهجا. رسم هالز أناسا عاديين، بعضهم كانوا تجارا والبعض الآخر حراسا، وأكثر ما كان يسليه أن يرسم عازفين في الحانات. كانوا بشرا سيطويهم النسيان لولا أن هالز وهبهم بطاقات الدخول إلى نادي الخالدين. صاروا معروفين بأسمائهم وتحتل صورهم الشخصية أماكن متميزة في المتاحف العالمية يقوم حراس بحمايتها بعدما زُودت أجهزة إنذار غاية في الدقة. إن أعظم لوحاته هي تلك التي تقع خارج التكليف الرسمي. فقد رسمها بأسلوب سريع وحر ومن غير تكلف ولم يكن مضطرا إلى إظهار مهاراته في الحرفة. تلك المهارات التي يضطرب أمامها خيال كل رسام.

كان على فرانز هالز أن ينتظر حتى القرن التاسع عشر ليعيد الانطباعيون الفرنسيون اكتشافه. يومها ارتفعت أسعار لوحاته. لكن الانطباعيين وجدوا فيه سلفا لهم، عبقريا انحرف بعبقريته عن شروط الرسم في عصر الباروك

حين رسم هالز أولئك المجهولين وكأنهم أمراء أو نبلاء، فإنه كان يعرف أن أحدا منهم لن يطارده للحصول على لوحته التي لم يدفع ثمن رسمها. لوحات رسمها من أجل أن يتصالح مع نفسه. ومن خلالها أكد ولعه المجنون بالحياة السريعة وهو الذي عاش إلى ما بعد التسعين. كان أولئك المواطنون أصحاب المشاريع الذين حولوا الجمهورية الهولندية الفتية في القرن السابع عشر إلى قوة عالمية ذخيرتها الإنسانية التي وجد من خلالها فرصة التعبير عن أدائه الفني الذي تميز بالعفوية الجريئة.

الإنطباعيون على حق

كان على فرانز هالز أن ينتظر حتى القرن التاسع عشر ليعيد الانطباعيون الفرنسيون اكتشافه. يومها ارتفعت أسعار لوحاته. لكن الانطباعيين وجدوا فيه سلفا لهم، عبقريا انحرف بعبقريته عن شروط الرسم في عصر الباروك ولم يكن يعنيه سوى أن يخلص لحريته في استعمال الألوان التي يراها مناسبة لمزاجه. وهو مزاج وجد فيه الإنطباعيون ما يطمئنهم إلى أنهم لم يكونوا على خطأ حين اتبعوا نبوءة زعيمهم كلود مونيه في لوحته "انطباع شروق الشمس". لقد اعتبروا هالز انطباعيا مبكرا وهو الرسام الذي سبقهم بطريقة حرة توحي بالكثير من السعادة. تلك فكرة تشيعها النزهة بين لوحاته التي ضمها معرض شامل يُقام في "ناشيونال غاليري" بلندن. لا أقصد هنا المتعة التي يشعر بها المرء وهو ينظر إلى لوحات يبدو أنها رُسمت الآن بل أقصد ذلك الشعور بالحرية والراحة الذي تشيعه في النفس لوحات رُسمت قبل أربعة قرون بأسلوب غادر عصره ليكون محتملا في كل عصر.

لا يمكن لأي مشاهد سوى أن ينشدّ إلى العيون المتألقة التي رسمها هالز كأنها تنظر إلى المستقبل.

          

font change

مقالات ذات صلة