روبرت مذرويل وحكاية الفن الأميركي الجديد

أحد رموز "التعبيرية التجريدية"

رسمة من غاليري "برنارد جاكبسون"

روبرت مذرويل وحكاية الفن الأميركي الجديد

كان الرسام الأميركي روبرت مذرويل الذي تقيم غاليري "برنارد جاكبسون" بلندن معرضا جديدا لأعماله هو من أطلق على التعبيرية التجريدية اسما أكثر دقة، مدرسة نيويورك، لاعتقاده أن التعبيرية التجريدية ليست مصطلحا واسعا بدرجة كافية. لقد قرّر تكريس نفسه للفن في سن السادسة والعشرين، بعد تعليم مكثف في الفلسفة وتاريخ الفن في جامعات ستانفورد وهارفارد وكولومبيا. أصبح مذرويل رمز الحركة التعبيرية التجريدية وتأثّر بشكل كبير، مثل العديد من معاصريه، بالسورياليين. أدّى ذلك إلى ظهور "الرسم الآلي" لدى مذرويل، وهي ممارسة تسعى جاهدة إلى الإبداع دون تفكير واع، تشبها بالكتابة الآلية التي دعا إليها أبو السوريالية أندره بريتون في باريس.

وقال مذرويل في تفسير ذلك الأسلوب إن عمله كان بمثابة تجربة لتصوير مشاعره وهو هنا يشير إلى ممارسته التلقائية التي أطلق عليها تسمية "الخربشة". استغلّ مذرويل أعمق أفكاره من أجل إنتاج خيال تصويري، مما جعله بعيدا عن معاصريه الذين غالبا ما تميّزت أعمالهم بتقنيات فنية محدّدة.

كان السبب الأهمّ وراء فرادة مذرويل يكمن في إيمانه بعظمة مدرسة باريس التي أراد الآخرون الانفصال عنها. فقد عاش في باريس وعرض أعماله هناك عام 1938. وكان يعتبر أن أهم إنجاز قد يحقّقه أن يكون فنه استمرارا لمدرسة باريس. فواصل القصة بكل بساطة. بقدر ما تعلّم، في شبابه، من صديقه مارك روثكو، فقد تعلّم أيضا من أعمال جورج براك، عندما أولع بابتداعات هذا الأخير في التكعيبية التركيبية وخصوصل تقنيتها في الكولاج (اللصق)، الى درجة أنه جلب تقنية الكولاج الجديدة نسبيا إلى أميركا وأنتج من خلالها على مرّ العقود أكثر من 800 عمل وذلك من عام 1943 حتى نهاية حياته، وغالبا ما كان ذلك يحدث على نطاق أوسع بكثير. أيضا، عندما ننظر إلى إحدى لوحات الطيور الكبيرة الشهيرة التي رسمها براك بدءا من عام 1957، لا بد أن ننتبه إلى أنها تشكّل مصدرا موثوقا به لسلسلة من اللوحات التي انتجها مذرويل. ذلك النوع من العلاقات التي أقامها بالفن الفرنسي تكشف عن مسعاه لكي يكون فنه جزءا من قصة الفن العالمي مستبعدا الصفة التي لاحقته كونه متمردا أميركيا.

استغلّ مذرويل أعمق أفكاره من أجل إنتاج خيال تصويري، مما جعله بعيدا عن معاصريه الذين غالبا ما تميزت أعمالهم بتقنيات فنية محدّدة

كان لأسلوب الروائي الإيرلندي جيمس جويس في الكتابة، ولا سيما استخدامه التقنية المعروفة باسم "تيار الوعي"، تأثير عميق على مذرويل، الذي آمن بأن الفن يجب أن يكون تعبيرا عن أعمق أفكار الفنان ومشاعره. كتب مؤرّخ الفن دوري أشتون "ليس من قبيل المبالغة القول إن اكتشاف مذرويل لجويس كان بأهمية دراسته لبيكاسو وماتيس، لأن جويس كشف له الإمكانات اللانهائية للتداعي الحر". عام 1947 رسم مذرويل لوحة بعنوان "عوليس" مستلهما أجواء رواية جويس الشهيرة.

من أعمال الرسام الأميركي روبرت مذرويل

الأمر الآخر الذي يميز مذرويل هو البرنامج الضخم الذي كان يعمل عليه. لم يقتصر الأمر على تطويره لأسلوبه وإعادة اختراعه لأشكاله باستمرار، بدءا من الكولاجات الأولى وحتى اللحظة العظيمة لسلسلة مرثيات الجمهورية الإسبانية، واللوحات المفتوحة، إلى السلاسل الأصغر حجما وإن لم تكن أقل أهمية مثل "بجانب البحر". بالإضافة إلى 500 عمل من النقش والمطبوعات الحجرية ومطبوعات الشاشة الحريرية. الجانب الآخر في شخصية مذرويل يكمن في أنه كان مثقفا حقيقيا. كتب مقالات وتعليقات لا حصر لها، وحرر كتبا وترجم نصوصا واسعة النطاق عن السوريالية، والكتابة الآلية، ودوشان . لذلك نظر إليه البعض باعتباره أكاديميا قام أيضا برسم اللوحات.  

 

قصة نجاح أميركية

ولد روبرت مذرويل في أبردين (واشنطن) عام 1915 وتوفي عام 1991. في سن مبكرة انتمى إلى رهط فناني نيويورك الطالعين بفن غزوا به المؤسسات الثقافية الرسمية في ما بعد تحت شعار مضلل هو "الفن الأميركي الجديد". فبعد تجاربه في الطباعة الحجرية التي بدأت عام 1940 جهّز أول مجموعة له في مشغل صديقه جاكسون بولوك عام 1943. يومها انتبه إليه جامعا الأعمال الفنية الزوجان غوغنهايم وضمّاه إلى معرض الربيع الذي أقيم بعنوان "فن هذا القرن".

من أعمال الرسام الأميركي روبرت مذرويل

كانت هناك مجموعة صغيرة من الفنانين، روبرت مذرويل، جاكسون بولوك، مارك روثكو، فرانز كلاين، أدولف غوتليب، بارنيت نيومان، وليام دي كونينغ، كليفورد ستيل، لديهم رغبة عميقة في صنع فن أميركي يمكن أن يأخذ مكانته، مقارنة بالفن الأوروبي الحديث. صحيح أن الرسامين الذين ورد ذكرهم وقعوا تحت تأثيرات مباشرة من فناني أوروبا وفي الأخص بول سيزان وبابلو بيكاسو وهنري ماتيس وجورج براك وأندره ماسون، غير أن تحرّرهم من تلك التأثيرات حدث سريعا وبطريقة أوحت بأن هناك أسلوبا جديدا في الرسم ظهر معه وصار يلقي بظلاله على المشهد الفني العالمي.

ما حلم به مذرويل حقّقه مع الآخرين. ومن اللافت أن كل واحد منهم نجح في خلق منطقته الجمالية التي تميّزه عن سواه.

font change


مقالات ذات صلة