الفنانة الألمانية هيلا بيرينت: الأزرق لون الحياة

تستخدم الخطّ العربي في أعمالها

الفنانة الألمانية هيلا بيرينت

الفنانة الألمانية هيلا بيرينت: الأزرق لون الحياة

هيلا بيرينت فنانةٌ من نوع فريد، فهي نحّاتة ورسّامة وبانيةُ نُصُبٍ فنية وخزّافة، يعكس نتاجها الفني موهبة وثقافة تتغلغل جذورهما في تربة الفلسفة والميثولوجيا والشعر، ويتحرك نسغها صاعدا في جذع القوة الفنية المشكّلة لأعمالها المتعددة، التي تشمل المنحوتات واللوحات والنصب الفنية. بتحفيزٍ من هذه الثقافة تفتح بيرينت العمل الفني على المؤثرات الكونية، ليشكل ذروة، أو تجليا للتقاطعات الثقافية الخلاقة القادمة من كل البلدان. المدقق في أعمالها سيجد الروح الألمانية متجاورة مع الروح الهندية والصينية والعربية والفارسية والفرعونية والأميركية، وكل هذه المؤثرات تلعب دورا في خلق انسجام بين ما يتبعثر ويتشظى ويظل عصيا على التشكل. هنا يكمن التحدّي، فالفنان هو خالقُ انسجام في النهاية ومولّد إيحاءات تشير إلى أعماق تظلّ هاربة، وما استخدام بيرينت للشعر المكتوب باللغة العربية بخط يدها على منحوتاتها وأعمالها الخزفية إلا إشارة إلى الروح المتجاوزة للحدود الضيقة التي تحتاج إلى ما هو كوني كي تؤكد نفسها وحضورها، ذلك أن العمل الفني في النهاية هو عمل خزفي أو حجري أو خشبي أو لوني كوني يمكن أن ينظر إليه ابن أية ثقافة ويرى ما يخاطبه فيه، أو يومئ إليه. هذا ما تصبو إليه هيلا بيرينت، التي زرناها في مرسمها في مدينة كولن الألمانية وأمضينا معها وقتا للتعرف الى أعمالها الفنية ونظرتها إلى الفن.

إن أعمال هيلا بيرينت الفنية عصارة رحلة معرفية بدأت في ألمانيا وشملت بلدانا كثيرة، لهذا يمكن القول إن فنها نتاج ذوات فنية عدة، عاش كلّ منها في سياق مختلف. في تكوينها بعدٌ كونيّ، وما نعنيه بهذا، أن ذات المبدعة خرجت من سياق ثقافة لغتها وتجاوزت الحدود نحو عالم أرحب.

درست بيرينت الفنون في جامعة هامبورغ من 1968 حتى 1976، وفي 1977 أسّستْ منزل الفنون في هامبورغ وبعد ذلك غادرت المدينة وانتقلت إلى إيطاليا. في الأستوديو الأول الخاص بها في فلورنسا طوّرت مفهوم الرسم الموسّع، الذي قاد من تجربة حجم الجسد إلى تجربة حجم الفضاء.

بعد وفاة والدها في 1979، شابا، شغلها موضوع الموت والفناء فسافرت إلى مصر كي تبحث في فكرة الموت والخلود. وفي 1981، سافرت إلى نيويورك حيث أمضت عاما كي تنهي تجربتها في الرسم الموسّع في المكان.

ما استخدام بيرينت للشعر المكتوب باللغة العربية بخط يدها على منحوتاتها وأعمالها الخزفية إلا إشارة إلى الروح المتجاوزة للحدود الضيقة التي تحتاج إلى ما هو كوني كي تؤكد نفسها

في نهاية الثمانينات عادت إلى ألمانيا حيث ارتبطت بغاليري "إرهارد كلاين". وفي التسعينات سافرت إلى بومباي ونيودلهي وعاشت بين البوذيين القادمين من التيبت. في الهند قرّرت استخدام مادة الحجر في النُصب التي بنتها، حيث الأحجار المقطوعة بحدّة والمرتبة في أنساق خطية.

سافرت إلى إيران ومصر وتركيا وتونس وأقامت معرضا في سوريا وآخر في إيران. في 1998 و2002 و2008 و2014 طوّرت منحوتات في مركز أعمال الخزف الأوروبي في هولندا حيث جرّبتْ إنشاء مرايا خزفية واستكشاف اللون اللازوردي والكوبالتي والفيروزي في قطع الجدران المصنوعة من الطوب المزجّج باللون الأزرق. في الثمانينات استقصت اللون الأسود كمادة وتبع ذلك استقصاء للون الأزرق كمادة في النحت، وقامت بجمع نتائج هذه الاستقصاءات في كتب وصور منذ التسعينات.

ثمة طاقة فكرية وافرة في أعمالها، تتجلّى أشكالا تبدو متشظية وموحية؛ أشكال كالمكعبات ومسارات ضوء وعرة، تتوحّد فيها تجارب الذات والعالم معا لخلق وجهة نظر حسية للواقع تكبر إلى أبعاد كونية.

تقول الناقدة إنغريد راين إن هيلا بيرينت تسعى إلى الوصول إلى السمو وإلى أعماق تاريخية وأسطورية لكن مُشاهد أعمالها يبقى منغمسا في الإحساس بالزمن التاريخي لوقت قصير قبل أن يعلق في أعالي اللازمني والرؤيوي، فما لا يمكن أن يُوحَّد يُفرَض عليه الانسجام في النهاية ويُعاد توحيد كل تلك الشظايا التي تصنع تاريخنا، وتجربتنا الجمعية، وحيواتنا الفردية.

هيلا بيرينت عضو منذ 2010 في جمعية الفنانين الألمان وعُرضت أعمالها في معظم مدن العالم، لمناسبة معرضها القائم حاليا في صالة متحف الآثار في نابولي، كان الحوار الآتي:

  • علاقتكِ مع العالم العربي تعود إلى 1979، العام الذي سافرتِ فيه إلى مصر بعدما حفّزتك أسئلةٌ ميتافيزيقية حول الموت والخلود، كيف أثرتْ بك هذه الزيارة الأولى؟

أولا، أمتلك حدسا عميقا حيال الأمكنة التي أسافر إليها وأمضي فيها وقتا، فقد وُلدتُ في شمال أوروبا ومنذ أن درست الفن في هامبورغ امتلكت رؤية حول ضرورة الانطلاق جنوبا عبر جبال الألب إلى إيطاليا ثم إلى شمال أفريقيا.

توفي أبي فجأة وأنا في سن مبكرة من حياتي. كنت إلى جانبه حين فارق الحياة. سافرت بعد ذلك في الحال إلى مصر، التي كنتُ قد تعرفت سابقا الى أساطيرها وثقافتها وآثارها من طريق قراءة الكتب في شبابي. كان التأثير المصري في فني تجريديا فحسب، أو يمكن أن تصفه بالميتافيزيقي.

  • يبدو اللون الأزرق مهما جدا لك، وقد استخدمتهِ في كثير من أعمالك الفنية. ما الذي سحرك فيه؟

إن اللون الأزرق يمكن أن يُعدّ لون الحياة والفضاء والتجاوز. إنه يجسد بالنسبة إليَّ نوعا من الانطلاق والسفر، أو رحلة إلى العوالم الماورائية.

(أفكار إيروتيكية)

  • متى بدأْتِ بإدخال الخط العربي أو بالأحرى شعرك المترجم والمكتوب بالعربية إلى أعمالك الفنية، وما الذي دفعك للقيام بذلك؟ كيف يضيف هذا إلى عملك الفني؟

تلقيتُ دعوة في التسعينات إلى مركز الفنون الخزفية في هولندا وكانوا يبحثون آنذاك عن فنانين غير مختصّين بالخزف. في ذلك المكان شرعت في إدخال الكتابة العربية إلى أعمالي الفنية ولقد حدث هذا على نحو مفاجئ. بدأت الاشتغال على عمل مفاهيمي وهو بناء كتل كبيرة بألوان زرقاء وتوركوازية. واكتشفت بالمصادفة أنني أستطيع أن أبدع بسهولة أية أشكال من الطين، وبما أنني كنت أتعلم في ذلك الوقت الخط العربي المحبب جدا إلى قلبي، قررتُ أن أعلّم هذه الأعمال بأن أكتب عليها شعري المترجم إلى العربية، وهكذا بدأت حكايتي مع إدخال الكتابة بالعربية إلى أعمالي الفنية.

إن التحرك عبر طبقات التاريخ هو من تجاربي الشخصية التي كوّنْتُها من خلال فضولي وحبي للحياة، والحياة بالنسبة إليّ تعني الوجود، ويشكل فيها التاريخ لاعبا جانبيا

  • تخترقين الحدود في فنك وتعيدين اكتشاف نفسك في سياقات أوسع، كيف يغني اختراق الحدود الثقافية هوية الفنان؟

 هذا يندرج في إطار التجربة الشخصية التي تصوغ هوية الفنان. ومن الجوهري أن يعرف الفنان مصادر إلهامه.

  • درست اللونين الأزرق والأسود، كأنك تبحثين عن عروق الإلهام الذهبية، أي لون منهما تحدّث معك أكثر، ومن الأغنى بينهما بالنسبة إليك؟

من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. ثمة تاريخ شخصي يعكس الحياة ورحلة البحث، فأنت تبحث عن الفضاء كي تكتشفه وتصل إلى ما يغني وعيك أثناء رحلتك في الحياة. لقد حرّرني الدخول في الفضاء الأسود من أسر الشكل وقيوده. وفي أعقاب ذلك انصبّ اهتمامي على اللون الأزرق فاستكشفته واحتفيت به وكان ذلك يعني إغناء أعمالي بسلسلة كاملة من تنوعات الأزرق والتوركوازي، مما شكل دخولا في عالم الفكر والمادة، والاختلافات في الوجود.

  • ثمة علاقة بين الجسد والتراب في بعض أعمالك. يشعر الناظر بالحضور الميثولوجي يتجلى وأنك تحاولين إنقاذ الجسد بجعله يعبر حدود التاريخي والميثولوجي ويحلق في عالم رؤيوي يعتقه، هل تسعين إلى إنقاذ الجسد فنيا؟

إن الجسد الذي أتعامل معه في الفن حر، وإلا لن يكون فنا.

  • قالت ناقدة كتبتْ عن أعمالك إنك تحاولين الغوص في الأبعاد الأسطورية والتاريخية لكنك تهربين منها نحو شيء آخر، لماذا تفعلين هذا؟

إن التحرك عبر طبقات التاريخ هو من تجاربي الشخصية التي كوّنْتُها من خلال فضولي وحبي للحياة، والحياة بالنسبة إليَّ تعني الوجود، ويشكل فيها التاريخ لاعبا جانبيا في ما يحصل من تغيرات. إن الاستقلالية الفريدة للتاريخ يمكن أن تراها في جيولوجيا الصخور، أو جيولوجيا الطين.

  • ما الذي تعملين عليه الآن؟

- أنا مشغولة الآن بمعرضي الحالي في إيطاليا الذي يقدم قطعا نحتية جديدة وافتُتح في متحف نابولي الوطني للآثار، في مدينة نابولي الإيطالية، وكان هذا حلما بالنسبة إليَّ وقد تحقّق الآن.

  • كيف تعرّفين نفسكِ بعد كلّ هذه الأعوام من الإبداع؟

  الفنانة التي تُلْهمُ السعادة.

font change

مقالات ذات صلة