الفن العربي بعيون غربية

دار كريستيز للمزادات تستضيف أكبر معرض للفن العربي

Bryn Haworth
Bryn Haworth
عشرة خيول مرهقة، رسم الفنان العراقي كاظم حيدر.

الفن العربي بعيون غربية

تبدّلت نظرتي على مر السنين إلى دور المزادات الكبيرة في لندن، فبتّ لا أرى فيها سوى مجرد صالات عرض فاخرة. ولعل هذا أمر طبيعي بالنسبة إلى شخص يعلم أنه لا يمتلك القدرة على شراء أي من المعروضات.

إلا أن دار كريستيز قرّرت أخيرا تعليق أعمالها المعتادة وتكريس مقرّها لاستضافة معرض فني حقيقي، تعرض فيه مجموعة أعمال يملكها راعي الفن الإماراتي سلطان سعود القاسمي.

يحلو للقاسمي سرد قصة خطئه في حساب اختلاف التوقيت أثناء سفره ذات مرّة واضطراره بسبب ذلك للانتظار ساعةً، صحبة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، الذي قال له وقتها: "إذا كنت تحب شيئا ما، فعليك أن تشاركه مع الآخرين".

تلخّص هذه الكلمات المغزى من مشاركة القاسمي مجموعته الفنية مع الجمهور. فهو يفضّل ألا ينظر إلى نفسه باعتباره مالكا لتلك القطع الفنية، بل مجرّد "وصي" عليها. المحصلة فرصة رائعة للاستمتاع بأكثر من مئة قطعة فنية ما هي إلا مجرد عينة لما تقتنيه مؤسسته،"برجيل للفنون". تُظهر الأعمال المعروضة في "دار كريستيز" بما لا يدع مجالا للشك ازدهار الفن في العالم العربي، كما أنها تسلّط الضوء في الوقت عينه على الصعوبات التي قد تواجهها العيون الغربية في النظر إلى هذه الأعمال من منظورها الحقيقي.

تُظهر الأعمال المعروضة في دار كريستيز بما لا يدع مجالا للشك ازدهار الفن في العالم العربي، كما أنها تسلط الضوء في الوقت عينه على الصعوبات التي قد تواجهها العيون الغربية في النظر الى هذه الأعمال من منظورها الحقيقي

عندما يدخل المرء "دار كريستيز" من جهة شارع "كينغ ستريت"، أول ما تقع عليه عيناه هو درج مزخرف بإبداع تحيط به تشكيلات من الزهور لم أرَ قطّ نظيرا لها في فخامتها وترفها. وفيها يرى الحضور نبتة "الكوبية"تتألق باللون الأزرق النادر على هذا الدرج.

Bryn Haworth
الإشعاع التكويني

تحمل اللوحة المعروضة بين الدرجات اسم "الإشعاع التكويني"، لسامية عسيران جنبلاط، وتصوّر هذه اللوحة المبهجة والنابضة بالحياة، الشمس ودائرية الطاقة في العالم العضوي. أما حقيقة أن من رسمتها امرأة، وأنها تمثّل شعارا للمعرض، فتلقي الضوء على التزام المؤسسة امتلاك كميات متساوية من اللوحات للفنانين من الجنسين. 

بمجرد صعود الدرج، نُفاجأ في الغرفة المخصّصة عادة للمزادات، بوجود عدد من أروع اللوحات، ولا سيما لوحة قماشية ضخمة لمروان قصاب باشي، وهو فنان سوري عاش في ألمانيا. عندما وقفت أتأمّل هذه الصورة، جاءت شابة تنظر إليها أيضا، فسألتها عن رأيها. قالت إنها تبدو مثل سحب الغبار الكوني التي كشف عنها تلسكوب هابل. لكنها فوجئت تماما عندما أوضحت لها وجود ملامح وجه بين الغيوم النجمية الدوامة. فما كان منها إلا أن قالت "لم أرَ ذلك!"، ثم أضافت "لكنني عالمة".لم يكن العذر ضروريا- فمن الصعب تحديد ملامح الوجه ذي العيون البائسة المرسوم بكم هائل من الألوان.

Bryn Haworth

في جانب آخر من الغرفة، عُرضت لوحة "الأمة والقائد" للفنان سعيد تحسين الذي تعلّم الفن بمجهوده الذاتي. تُظهر هذه القطعة فيضا هائلا من عبادة الأبطال السياسيين، حيث يبدو في وسطها جمال عبد الناصر الواثق من نفسه وهو يخطو قدما أمام بحر من الوجوه العاشقة، يحمل في يده غصن الزيتون، فيما يدوس بقدمه على ثعبان. في الخلفية، فوق الأفق، تركض الخيول الأسطورية البيضاء التي تمثل فرسان السلام، كأنها تطير في الهواء.

Bryn Haworth

لكن على الحائط المقابل، نرى الجانب الآخر من القصة في"أحلام المعتقل"، وهي من أعمال إنجي أفلاطون. يتحد إطار الصورة بطريقة بارعة مع اللوحة التي يحتويها، وكأنه يثبت كل عناصرهافي مكانها الصحيح.

 

Bryn Haworth

وعلى الرغم من تعرّض الفنانة للسجن على يد نظام عبد الناصر، إلا أنها زعمت فيما بعد أنه كان وطنيا مخلصا. ولا يأتي هذا التناقض كمفاجأة كلية.

بالقرب من "أحلام المعتقل" يطفو موضوع السجن مرة أخرى في لوحة "الزيارة" للفنان المصري سمير رافع. هنا لا يمكن للمرء أن يتجاهل التأثير الواضح للرموز الفرعونية.

Bryn Haworth
"أحلام المعتقل"

 

لكن لوحة "جياد متعبة تتحاور مع العدم" (1965) توضح بصورة جلية صعوبة قراءة الفن العربي بالنسبة إلى المُشاهد الغربي، ويتجلى ذلك في هذه اللوحة بشكل أعمق من لوحات ذات موضوعات أخرى مثل عبد الناصر أو ضحايا الحكومات القمعية. ترتبط هذه اللوحة في كثير من الأحيان باسم المؤسسة، ولكن كم من الأشخاص في الغرب يستطيعون فهم عمق دلالاتها؟

رسم هذه اللوحة الفنان العراقي كاظم حيدر، وهي جزء من "ملحمة الشهيد"، التي استندت إلى قصيدته التي كتبها في أعقاب الانقلاب المعروف باسم "ثورة رمضان" في العراق في عام 1963. لكن دلالتها تذهب أبعد من ذلك، فهي تلمح أيضا إلى الحزن على مقتل الحسين، حفيد النبي محمد، خاصة لدى المسلمين الشيعة. وهذه المرة، لا ترتبط الخيول البيضاء الأسطورية بالسلام، بل بالحرب، فقد خاضت لتوها معركة وها هي منهارة من الحزن. إلى يمينها، ينفصل حصان أخضر في عزلة عن المجموعة حيث يُدير وجهه في الاتجاه المعاكس، ثم يُنفى تحت قمر أحمر. هنا يلمّح الرسام إلى معركة كربلاء، التي كانت مسرحا للصراع الذي أدّى إلى الانقسام السني- الشيعي في الإسلام.

وعلى الرغم من أنها لافتة للنظر، إلا أن العديد من اللوحات الأخرى تحمل قدراً مماثلاً من الغموض. ويقرّ سلطان القاسمي بأنه يذوب عشقاً في إحداها.

Bryn Haworth
عيون الليل

رسمت لوحة "عيون الليل" الفنانة العراقية مديحة عمر، وهي تصور دوامات رشيقة من وحي الحروف العربية. ونوّه أحد النقاد العرب البارزين بأن "الحروف الموجودة في اللوحة تفاجئنا، فتقفز أمامنا كأنها تختبر قدرتنا على التعرّف إليها".

يُعرف هذا الأسلوب الذي تُستخدم فيه الحروف بفن الحروفية. ولا يسهل فهمه حتى بالنسبة إلى العرب أنفسهم، فكم بالحري للغربيين، الذين قد لا يُدركون حتى أن ما ينظرون إليه هو في الواقع أحرف عربية. كما قد يمر التلاعب الخفي بالكلمات مرور الكرام، فلا يدرك المشاهد الغربي التطابق بين حرف "العين" وكلمة "العين" التي استلهم منها عنوان اللوحة.

أما أهم لوحة في المعرض، بحسب رئيس المؤسسة، فهي لوحة "الصوت الأخير" للفنان السوداني إبراهيم الصلحي.

تبدو للوهلة الأولى، لوحة غامضة، قاسية إلى حدّ ما، لكن قصة رسمها تُساعدنا في فهم الإعجاب والتقدير الشديدين اللذين تحظى بهما. فالصلحي يعتبر من أبرز المنتمين إلى مدرسة الخرطوم للحداثة الأفريقية وحركة الحروفية الفنية، التي تتميز بإصرارها على الجمع بين الفن المعاصر والخط الإسلامي.

سُجن الصلحي لمدّة ستة أشهر تعرض فيها للتعذيب الشديد، إلا أن تلك التجربة ساهمت على ما يبدو في تشكيل أسلوبه المميز. يقول: "في السجن، إذا ضُبطت معك ورقة وقلم رصاص، فستعاني الأمرين. لذلك، كنت أحتفظ بأوراق صغيرة الحجم وأرسم عليها صورا صغيرة، وأدفنها واحدة تلو الأخرى في الرمال خارج الزنزانة خوفاً من الحبس الانفرادي لمدة 15 يوما. عندما خرجت من السجن، نفذت الفكرة نفسها، عبر تأطير كل قطعة من العمل بشكل منفصل، كأنها جنين لفكرة لا أدري ما هي تماما. شيئا فشيئا، تصبح هذه الأجزاء كلا واحدا".

Bryn Haworth
الصوت الأخير

يمكن رؤية عينة لهذا الأسلوب في لوحة "الصوت الأخير" التي تسعى إلى تجسيد الصوت الذي تصدره الروح وهي تغادر العالم المادّي وتدخل في الحالة الروحية. تحمل اللوحة أهمية شخصية عميقة بالنسبة إلى الصلحي، إذ رسمها بعد وقت قصير من وفاة والده، الذي كان شيخا. وتُضفي نغماتها الصامتة حسّا بالوقار، في حين تتحوّل منحنيات الحروف في أرجاء اللوحة إلى حيوانات مرسومة ببراعة، مثل الطيور التي ترمز إلى الروح، وقد رُسمت على هيئة خدوش باهتة كأنها على وشك الاختفاء. بدا لي أن اللوحة تتفاعل بكل عناصرها العربية الواضحة مع أعمال كاندينسكي وخوان ميرو.

ربما تكون هذه اللوحة هي أفضل مثال على التحدّيات التي تتمخّض عن عرض الرؤية العربية أمام العيون الغربية، وما يحمله ذلك من مكاسب ومزايا أيضا.

  • تستضيف دار كريستيز في لندن معرض الفن العربي المعاصر والحديث حتى 23 أغسطس/آب 2023.
font change

مقالات ذات صلة