دوناتيلو المسافر بمنحوتاته بين العصور

معرض شامل في "متحف فكتوريا وألبرت" بلندن

PA
PA
نقش لصعود المسيح الذي يحمل مفاتيح القديس بطرس.

دوناتيلو المسافر بمنحوتاته بين العصور

حتى الحادي عشر من يونيو/ حزيران يستمر معرض دوناتيلو (1386-1466) في "متحف فكتوريا وألبرت" بلندن وجاء في بيان المتحف "يُعدّ الفنان الإيطالي أعظم نحّات في كل العصور، بفضل إبداعه الملهم للتأثيرات التاريخية، بما في ذلك العصور القديمة الكلاسيكية، وفن العصور الوسطى الأنيق. وقد ساهمت هذه الأفكار في رؤية جديدة وفريدة تماماً، عبّر عنها دوناتيلو من خلال مجموعة رائعة من الأعمال في الرخام والخشب والبرونز والتراكوتا (الطين المحروق) والجص.

لا أحد من النحاتين ينافس دوناتيلو على مكانته في تاريخ النحت العالمي سوى ميكيل أنجلو. غير أن السبق التاريخي هو الذي يهب دوناتيلو الأفضلية. فهو ظهر فنيا ما بين عامي 1409 و1466 في عصر النهضة الأول فيما ظهر ميكيل أنجلو بين عامي 1494 و 1555 في عصر النهضة الذهبي. كان الثاني وريثا للأول بما حمله فنه من تأثيرات كثيرة غير أنه كان أكثر شهرة منه. وذلك أمر لا يتعلق بالقيمة الفنية دائما. ما يجمع عليه النقاد أن دوناتيلو كان بمثابة الملهم لميكيل أنجلو.

يسلط المعرض الضوء على مختلف مراحل دوناتيلو من خلال نتاجه المتنوّع من بداياته التي شهدت تدريبه صائغا حاذقا للذهب وصولا إلى المرحلة التي تألق فيها حين حظي برعاية عائلة ميديشي في بداية بزوغ سلطتها

 

حكاية دينية تتشبه بالغزل

يسلط المعرض الحالي الضوء على مختلف المراحل التي مر بها دوناتيلو من خلال نتاجه المتنوّع من بداياته التي شهدت تدريبه صائغا حاذقا للذهب وصولا إلى المرحلة التي تألق فيها حين حظي برعاية عائلة ميديشي في بداية بزوغ سلطتها في فلورنسا. في تلك المرحلة المبكرة من عصر النهضة برز فنانون مثل غيبرتي وبرونليسكي وميكيلوزي، إضافة إلى طائفة من النحاتين والحرفيين الذين عملوا في المحترفات الفنية. كان دوناتيلو  الأكثر حظوة بينهم على مستوى تنفيذ الأعمال الفنية التي أهّلته على المستويين الفني والتاريخي لئلا يقلّ قيمة عن ليوناردو دافنشي (1452 ــ 1519)  وساندرا بوتشيلي (1445 ــ 1510) اللذين ظهرا بعده في مرحلة تطورت فيه الرؤية الفنية وتحررت الرؤية الفنية من قبضة الكنيسة أكثر. 

إحدى منحوتات دوناتيلو حوالي عام 1428 - 1430، فلورنسا، إيطاليا. "متحف فكتوريا وألبرت" في لندن.

يضم المعرض 130 عملا نحتيا. هناك الكثير من الحيوية النحتية مع دوناتيلو. جعل سيد منحوتات عصر النهضة المبكرة فنه يتمحور حول ديفيد (النبي داود) الذي يلوح تمثاله في أفق المعرض لينقضّ على كل ما حوله وكأنه يرقص وحيدا. إنه هناك. تراه بمجرد دخولك إلى صالة العرض وهو يقف فوق رأس جالوت المقطوع. الحكاية الدينية نفسها إنما بعذوبة أسلوبية كأنها مشروع غزل متدفق. رقبة ديفيد طويلة ملتوية وملامحها دقيقة، لكنه ممتد للغاية، سلكي للغاية، متعجرف للغاية لدرجة أنك فجأة تشعر بأنك صغير إلى جانبه، أصبحتَ مجرد جالوت آخر يجب قتله.

تكشف منحوتات دوناتيلو عن لحظة امتزاج بالألم هي أشبه بمرثية صامتة لا يُسمع لها صراخ. مشاعر تتدفق بخفة وحيوية كأنّ الحدث لم ينته بعد

 

كائنات خيالية تنبض بالحياة

هذا ما فعله دوناتيلو في حياته المليئة بالمنجزات. لعب بتقنيات صياغة الذهب وصب البرونز والنحت على الحجر وابتكر معها أشكاله. استعمل الرخام والخزف والخشب وأعاد ابتكارها ودفع بها في اتجاهات جديدة. لقد نحت النقوش السطحية حتى لتبدو مصنوعة من الضباب، كائنات خيالية ورقيقة للغاية لدرجة أنك تنصاع لحبها، وتماثيل نصفية حقيقية لدرجة أنها قد تنبض بالحياة.

من منحوتات  دوناتيلو، حوالي عام 1455 - 1460، إيطاليا، "متحف فكتوريا وألبرت" في لندن.

ولد دوناتيلو في فلورنسا عام 1386 وصنع لنفسه اسم النحات الأول في عصره. ملأ الكنائس والمنازل الثرية في إيطاليا بأعماله، وأقام محترفا ضخما، عمل فيه جميع الفنانين والمهندسين المعماريين المهمين في عصره مساعدين له. صحيح أنه كان أهم نحات على الإطلاق غير أنه صار مع الزمن صعبا التفريق بين أعماله وأعمال أولئك المساعدين التي يُشك أنها صارت جزءا من تاريخه حين يُقام معرض كالذي نحن في صدده.

تمثال "ديفيد" الذي نحته دوناتيلو في بدايات عصر النهضة.

ولكن هناك اشكالية أخرى تتعلق بإقامة معارض للفنون القديمة التي لا تقدّر بثمن والتي صُنعت للكنائس في بلدان أخرى مثل هذا المعرض. فإما أن تكون الأعمال هشة للغاية بحيث لا يمكن نقلها، أو أنه من المعقد السماح لها بالمغادرة إلى بلد آخر. لكن الخلط بين أعماله وأعمال الآخرين يحيط إنجاز معرض كبير كهذا المعرض بالشبهات. هناك بعض أعمال دوناتيلو المذهلة المعروضة (على الرغم من أن الكثير منها موجود أصلا في مجموعة متحف فكتوريا وألبرت)، لكن معظم الشبهات تتعلّق بدائرة تأثيره ومساعديه والنحاتين الذين قلدوه. ذلك كان قدر النحاتين الكبار ممَن اكتسبوا صفة المعلم الذي يدور في محيطه عدد من الفنانين الذين لا يُستهان بمواهبهم الكبيرة. إلا أن أحداً لا يجرؤ على اختراق دائرة دوناتيلو أو الحديث عن نسخة منه. لقد استقر تاريخ الفن على تبعية تلك الأعمال لدوناتيلو إلى أن يظهر ما يؤكد غير ذلك.

لكن الأعمال المنسوبة إليه مباشرة التي لا يُشك فيها تكشف عن لحظة امتزاج بالألم هي أشبه بمرثية صامتة لا يُسمع لها صراخ. مشاعر تتدفق بخفة وحيوية كأنّ الحدث لم ينته بعد. على سبيل المثال فإن مشهد الصلب الذي نُفذ بنقوش ضحلة لم ينته بعد. لا يمكن تصديق ذلك الخيال المستقبلي الذي لا يزال يبتكر واقعه.

منظر لفلورنسا من الجنوب الغربي، رسم فرانشيسكو روسيلي، عام 1495، فلورنسا، إيطاليا. "متحف فكتوريا وألبرت" في لندن.

كان الكلّ يقلده وبقي تأثيره مخيما على النحت العالمي حتى القرن التاسع عشر. لذلك فإن معرضا لأعماله وهو لا يمكن أن يكون استعادة شاملة لابد أن يكون في الوقت نفسه معرضا عنه. مناسبة لاستعراض تاثيره على كبار نحاتي عصره والعصور التالية.

دوناتيلو هو أشهر نحات في التاريخ. كلّ كيوبيد نُحت أو رُسم في عصر النهضة والعصور اللاحقة كان كيوبيده.

font change

مقالات ذات صلة