جوليان ستانزاك: الفنّ للنسيان

معرض استعادي له في لندن

Mayor gallery
Mayor gallery

جوليان ستانزاك: الفنّ للنسيان

"لم أكن أريد أن أتعرض لقصف يومي من الماضي"، "لقد بحثت عن عدم الكشف عن هوية للأفعال من خلال الفن التجريدي غير المرجعي"، مقولتان للرسام الأميركي من أصول بولندية جوليان ستانزاك الذي تقيم "قاعة ميرور" بلندن معرضا استعاديا له، تضيئان مواقع خفية في حياته وفي فنه وتختصران المسافة الفاصلة بين حياته وفنه. تستحق حكاية ستانزاك أن تُروى. بعد ذلك لا يعنيك كثيرا أن تبحث في فنه عن الحكايات وستكون في غنى عن الفهم فيما تغتني حواسك بالفتنة وسط ارتعاشة لا تنتهي تؤديها عناصر الرسم كأنها ترقص.

في عام 1940، أجبر ستانزاك الذي ولد عام 1928 وعائلته على العيش في معسكر للعمل في سيبيريا، هناك فقد القدرة على استخدام ذراعه اليمنى بشكل دائم. في عام 1942، هرب وانضم إلى الجيش البولندي في المنفى في إيران. بعد فراره من الجيش، أمضى سنوات مراهقته في مخيم للاجئين البولنديين في أوغندا. تعلم الكتابة والرسم بيده اليسرى في أفريقيا وقد تأثر بشدّة بالضوء الأفريقي وغروب الشمس الشديد الألوان، وهذا ما سماه "الطاقة البصرية الهائلة" للحيوانات والنباتات والمنسوجات الأوغندية الملونة المنقوشة التي ترتديها النساء المحليات.

في عام 1950 انتقلت عائلته إلى كليفلاند بالولايات المتحدة الأميركية عبر لندن. درس في معهد كليفلاند للفنون وتدرب لاحقا تحت إشراف الفنان جوزف ألبرز (1988 ــ 1976) في جامعة ييل حيث حصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة في عام 1956 وأصبح مواطنا أميركيا في عام 1957. كان لقاؤه بألبرز حدثا مفصليا في حياته، فمن خلاله تعمقت ثقته بمؤلفاته التجريدية المليئة بالألوان والمهتزّة كأنها ترمي إلى تأكيد الأوهام البصرية التي تصنعها باعتبارها حقائق حسية. كانت أشكاله الهندسية تنبض فيما تتوهج الألوان وتتراقص الخطوط الرأسية عبر لوحاته الشديدة النشاط.

على الرغم من أن أحدا لا يمكنه أن يزعم ملكيته للون معين، فإن ستانزاك أحدث تحولا كبيرا في ذلك المفهوم حين أزاحه من حيّزه الراسخ ليتخذ منه وسيلة للتعبير عن تجربته الشخصية

بعد أول عرض رئيسي له أقيم في "صالة مارثا جاكسون" بنيويورك في عام 1964 وكان بعنوان  Optical Paintings صاغ أحد نقاد مجلة "تايم" مصطلح Op Art الذي صار في ما بعد مصطلحا لمدرسة فنية كان المجري الفرنسي فيكتور فازريلي واحدا من أهم أعلامها. كانت لوحاته مليئة بالألوان والتفاؤل ولم تعطِ فكرة عن طفولته المؤلمة. جعل ستانزاك فنه سبيلا للنسيان.

 

الألوان وقد صارت ملكا شخصيا

يقول ستانزاك: "اهتمامي الأساسي هو اللون، طاقة الأطوال الموجيّة المختلفة للضوء وتجاورها. الدافع الأساسي للألوان هو توليد الضوء. لكن الضوء دائما يتغير، إنه مراوغ. أستخدم طاقة هذا التدفق لأنه يوفر لي مرونة كبيرة في العمل على القماش. التقاط التحولات - التغيير المستمر للشكل والظروف - هو التحدّي الأبدي، وعند تحقيقه، يوفّر إحساسا بالشمولية والنظام والراحة. اللون مجرّد وعالمي، مع ذلك هو تجربة شخصية وخاصة".

Mayor gallery

مَن سبقت له رؤية لوحات ستانزاك أو سواه من فناني الـ"أوب آرت" التي هي عبارة عن احتفال سعيد وهادئ غير أنه غير مستقر بالألوان، لا بد من أن يفتح كلام الرسام أمامه طريقا لا لفهم لوحة بعينها بل لفهم العالم الذي تنبعث منه اللوحة وفي الوقت نفسه تساهم في بناء كتلته الشفافة. ذلك العالم سبقها باعتباره ضوءا ولحق بها باعتباره لونا. من المؤثر أن يتخذ التعامل مع اللون في حدّ ذاته ولذاته طابعا يمكنه أن يحقق للفنان ما يصبو إليه على المستوى الأسلوبي. فعلى الرغم من أن أحدا لا يمكنه أن يزعم ملكيته للون معين، فالألوان محايدة ومجرّدة من المشاعر وهي أصلا لا تنتج إلا أعمالا تجريدية إن لم تخضع للموضوعات، فإن ستانزاك أحدث تحولا كبيرا في ذلك المفهوم حين أزاحه من حيّزه الراسخ ليتخذ منه وسيلة للتعبير عن تجربته الشخصية المنطوية على الكثير من العاطفة التي لا تعيد الرسام إلى مواطن ضعفه المتمثّلة في ذكريات طفولته المؤلمة. عاش الرسام طويلا (توفى في أوهايو بالولايات المتحدة عام 2017) ولم يلتفت مرّة إلى الوراء.

 

تلاشي المرئيّات

من طريق الخطأ تكوّنت فكرة لدى البعض مفادها أن الفن التجريدي منفصل عن التجربة البصرية. ذلك الإشكال يعيدنا إلى شجرة بيت موندريان (1872 ــ 1944). حين وصل الرسام الهولندي بالشجرة إلى مستوى التجريد، كان قد رسم مئات الرسوم الورقية لها وكان هدفه أن لا يخون أي تفصيل رآه. لم يكن التحدي الذي واجهه موندريان يكمن في استلهام المرئي بل المضي به إلى مرحلة تلاشيه. كيف يبدو الشيء حين يتشظّى ويذوب إلى أن يتلاشى. وعلى الرغم من هندسية أعماله، كان هناك شيء من العاطفة يتخللها، وهذا ما طوره ستانزاك بتأثير مباشر من معلمه ألبرز. يقول ستانزاك: "إذا استغرقت وقتا للنظر حقا في ما أراه، فليس هناك حدّ للأسرار التي يُكشف النقاب عنها. أتطلع إلى الطبيعة للتوضيح والبلورة، للأشياء التي يمكنني استعمالها في لوحاتي. أعيش في لحظة الاكتشاف. في البحث عن القوة من خلال الوضوح التجريدي، أختار الأشكال التي لديها أقصى إمكان للعمل المتحول. نحن لا نرى إلا ما نفهمه".

Mayor gallery

ما يقوله ستانزاك عن عالمه ربما لا نفهم الجزء الأكبر منه بسبب شخصانيته، غير أن كل سعادة تسببها رؤية أعماله هي سعادة معدية، ذلك لأنها تحرّرنا من كسلنا الجمالي.

font change

مقالات ذات صلة