لياندرو إيرليتش... ما وراء العتبة

فنان أرجنتيني مفاهيمي يؤثر التفاعل على العرض

من معرض الفنان الأرجنتيني الشهير لياندرو إيرليتش

لياندرو إيرليتش... ما وراء العتبة

ميلانو: "من الغريب أننا كثيرا ما نحاول فهم أشياء معينة من خلال أضدادها. نعتمد على الليل لفهم النهار، ونتخيل فراغا عديم اللون لتقدير الألوان. لقد اخترت عاداتنا الحسية الراسخة وسيلة للتفكير في مغزى وجودنا، ليس من خلال مقارنة مفهوم الحياة بمفهوم الموت، بل بالشروع في تغيير رمزي ومادي لأنماط إدراكنا المعتادة". هكذا يلخّص لياندرو إيرليتش رؤيته للفن ولأعماله التي تعرض للمرة الأولى في أوروبا، في القصر الملكي في ميلانو، في الفترة من 22 أبريل/نيسان إلى 4 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحت عنوان "لياندرو إيرليتش، ما وراء العتبة".

خدع بصرية

يبتكر الفنان الأرجنتيني المعاصر المشهور عالميا، أعمالا تستخدم الخدع البصرية والمؤثرات الصوتية لتهز مفاهيمنا المبنية على الفطرة السليمة. إذ في حين أن ما يراه الجمهور قد يبدو له في البداية مألوفا، من التركيبات الكبيرة إلى مقاطع الفيديو، لكنه ما إن يدخل في التفاصيل الدقيقة حتى يكتشف عوالم مذهلة لا يمكن مقارنتها بالأشياء المعتادة، كما في القوارب التي تطفو في غياب الماء، أو الأشخاص المعلّقين على واجهة مبنى في أوضاع مختلفة، وهم على وشك السقوط بين هنيهة وأخرى.

سجلت معارضه في السنوات الأخيرة أرقاما قياسية بعدد الزوار، بغض النظر عن جغرافية المكان، من متحف موري للفنون في طوكيو، 2017، الذي جذب أكثر من 600000 زائر، إلى متحف هوو آرت في شنغهاي، 2018، وكذلك في المعرض الأنطولوجي الكبير في مالبا، بوينس آيريس، الذي زاره أكثر من 300000 شخص. بينما في معرض "حدود الفراغ العظيم" في الأكاديمية المركزية للفنون الجميلة في بكين، أصبح إيرليتش أول فنان غير صيني يشغل مساحة العرض كلّها، وحدث الشيء نفسه مع المعرض الاستعادي المتجوّل في البرازيل حاليا تحت عنوان "آفاق"، في ريو دي جانيرو وسان باولو.

بدأ لياندرو إيرليتش، المولود في عام 1973، حياته المهنية في سن الثامنة عشرة بمعرض شخصي في العاصمة بوينس آيريس، وبعد حصوله على العديد من المنح الدراسية، واصل دراسته عام 1998عبر برنامج كور Core، وهو مكان إقامة للفنانين في هيوستن، مدرسة غلاسّيل للفنون، حيث طوّر اثنين من أعماله المشهورة، "حوض السباحة" و"غرفة المعيشة". في عام 2001 مثّل الأرجنتين في بينالي البندقية التاسع والأربعين مع "حوض السباحة"، وهو عمل رمزي يمثل جزءا من المجموعة الدائمة لمتحف القرن الحادي والعشرين للفنون في كانازاوا في اليابان، وفي متحف فورليندن في هولندا.

حصل لياندرو إيرليتش على العديد من جوائز النقاد الدوليين، بما في ذلك جائزة معرض روي نيوبرغر في نيويورك، 2017، وجائزة اليونسكو في إسطنبول، 2001، وجائزة ليوناردو، المتحف الوطني للفنون الجميلة، بوينس آيريس 2000.

من أعمال الفنان الأرجنتيني المعاصر المشهور عالميا

تتوزّع أعماله على العديد من المجموعات الخاصة والعامة، بما في ذلك متحف الفن الحديث، بوينس آيريس؛ متحف الفنون الجميلة، هيوستن؛ تيت مودرن، لندن؛ المتحف الوطني للفنون الحديثة، مركز جورج بومبيدو، باريس؛ متحف القرن الحادي والعشرين للفنون كانازاوا، اليابان؛ ماكرو روما؛ متحف فورليندن، هولندا؛ موساك، إسبانيا.

الهندسة المعمارية اليومية موضوع متكرر في فن لياندرو إيرليتش، الذي يهدف إلى خلق حوار بين ما نعتقده وما نراه، بالإضافة إلى محاولة سدّ الفجوة بين مساحة المتحف والتجربة اليومية.


تجديد مطلق

أعمال إيرليتش فريدة من نوعها وتمثل تجديدا مطلقا في عالم الفن وتجمع بين الإبداع والرؤية والشغف والمتعة، حيث المباني التي يمكنك تسلقها فعليا، والمنازل التي اقتُلعت وعُلّقت في الهواء، والمصاعد التي لا تقود إلى أي مكان، والسلالم المتحركة المتشابكة كأنها كرة خيوط، ومنحوتات مربكة وسوريالية، ومقاطع فيديو تنافي مألوف الحياة اليومية.كلها عناصر تضعنا أمام أشياء عادية، إنما في سياق استثنائي، حيث يختلف كل شيء عما يبدو عليه، ويضيع الإحساس بالواقع.

في هذا المعرض، ينقلنا إيرليتش إلى عالم ما وراء السحر، حيث يصبح الممكن مستحيلا، لكنه، مع ذلك، يذهل ويثير الإعجاب بفضل الحس الجمالي العظيم والشاعرية المتأصلة بقوة.والنتيجة، أعمال تستكشف الأسس الإدراكية للواقع وقدرتنا على استجواب هذه الأسس ذاتها من خلال إطار مرئي. الهندسة المعمارية اليومية موضوع متكرّر في فن لياندرو إيرليتش، الذي يهدف إلى خلق حوار بين ما نعتقده وما نراه، بالإضافة إلى محاولة سدّ الفجوة بين مساحة المتحف والتجربة اليومية.

 

مفاهيمية

يصف إيرليتش نفسه على هذا النحو: "أحب أن أقدّم نفسي كفنان مفاهيمي يعمل في عالم الواقع والإدراك. موضوعي هو الواقع والرموز وإمكان المغزى العظيم. أنا ملتزم إنشاء مجموعة من الأعمال - خاصة في المجال العام - تنفتح على الخيال، وتهدم المتوارث في الحياة اليومية، وتعيد التفكير في التمثيل وتقترح الإجراءات التي تبني وتفكك الأوضاع لخلخلة الواقع". انطلاقا من هذا التعريف، يجب قراءة كل عمل له بوصفه نافذة تطل على العالم الحساس للنظرة، والتي بدلا من التضليل، تكشف عن المشهد الذي يحتفظ به الجميع داخل أنفسهم.

كردّ فعل أولي، تثير أعمال إيرليتش إحساسا بالألفة مع الحياة اليومية، ثم لا تلبث أن تزرع في النفوس نوعا من الشك المريب. فمن خلال مراقبة أعماله بعناية، تبدأ نظرة المشاهد في التشكك بما يدركه عندما يواجه ظاهرة لا يمكن تفسيرها. إن إثارة التساؤلات والشكوك والعواطف في الجمهور الذي يتفاعل مع أعماله هي الفكرة الأساسية للياندرو إيرليتش، ومشاركة المتفرج على وجه التحديد هي التي تجعل العمل مكتملا، وتشرع نافذة على العالم المستوعب، ولكن بدلا من خداع العين، يكشف عن الخداع البصري الذي يمكن أن يتعرض له العقل، مما يفسح المجال لاستكشاف آفاق جديدة وطرح المزيد من الأسئلة.

يستخدم الخدع البصرية والمؤثرات الصوتية لتهز مفاهيمنا المبنية على الفطرة السليمة

"لياندرو إيرليتش - كما يقول دومينيكو بيراينا، مديرالقصر الملكي - يستخرج أشياء مثل مصعد أو باب أو مبنى أو درج أو سلسلة من غرف تبديل الملابس أو فصل دراسي في مدرسة أو صالون تجميل أو نافذة طائرة، من سياقها الأصلي، ومن خلال استخدام الخدع البصرية والمرايا والقيعان الزائفة، فإنه يصوغ رؤية غير عادية ومقلقة ومشوهة، مما ينتج منه تأثير المفاجأة لأنه يعرض واقعا مختلفا تماما عن الواقع الذي نعيشه كل يوم".

وتضيف يولِهْ سيينا، رئيسة مجموعة أرثيميثيا، مُنَظِّمَة المعرض: "بإحساس وفخر كبيرين، نقدم إلى الجمهور عمل فنان متألق وخارج السياقات المعروفة، الذي استحدث نوعا فنيا جديدا تماما، متجاوزا عتبة الفن المعاصر ليتدفق في عالم لا يزال من الصعب تحديده، على حافة الوهم والذهول والتعجب، ثمرة أفكار معقدة، مترابطة ظاهريا، بلغة خفيفة وسوريالية، إذ لا شيء يبدو في أعمال لياندرو إيرليتش كما اعتدنا عليه. من خلال مجموعة متنوعة من الوسائط، بما في ذلك التركيبات والمنحوتات والتصوير الفوتوغرافي والفيديو، يستكشف لياندرو إيرليتش موضوعات مثل الهوية والذاكرة والتواصل وقوة الإدراك. أعماله تدعو المشاهد إلى المشاركة بنشاط والتفاعل مع البيئة المحيطة وطرح الأسئلة على نفسه. هل أنا هنا أم هناك؟ هل أنني أنا، أم أنني شخص آخر؟ هذه هي الأسئلة التي يطرحها الزائرون على أنفسهم وهم يبتسمون بتشتت".

كمدخل للمعرض، هناك تركيب ضخم خاص بالموقع بعنوان"مبنى Bâtiment"، أقيم في ساحة فناء القصر الملكي، وهو عبارة عن واجهة مبنى مسطّحة تحت مرآة معلقة بزاوية 45 درجة، مما يجعل الأشخاص المستلقين على الأرض في أوضاع مختلفة، يظهرون كأنهم يتسلقون المبنى بالفعل، بل ثمة حاجة لإنقاذهم من خطر السقوط!

تستمر الأعمال في قاعات الطابق الأرضي، حيث نجد المصعد، 2011، الذي يستحضر نوعا من السيناريوهات المخيفة التي قد يواجهها بطل قصة قصيرة من قصص خورخي لويس بورخيس. أو مرة أخرى"انعكاس النافذة الحبيسة"، 2013، الذي يمثل الروتين والجو الساكن داخل ورشة عمل، متشابكا مع مناظر من النباتات الخارجية.

في حين يشير "الرحلة الليلية"، 2015، و"الطائرة"، 2011، إلى الشعور بالركود والارتباك المرتبط بالاستيقاظ بعد رحلة ليلية عبر مناطق زمنية متعددة. تثير هذه المحاكاة داخل المتحف الشعور بالدهشة والملل الذي يصاحب الرحلات الطويلة لتوليد شك موقت حول ما إذا كنا نرى البانوراما الحقيقية من أميال فوق سطح الأرض أم من المكان الذي نقف فيه!

أعمال إيرليتش فريدة من نوعها وتمثل تجديدا مطلقا في عالم الفن وتجمع بين الإبداع والرؤية والشغف والمتعة، حيث المباني التي يمكنك تسلقها فعليا، والمنازل التي اقتُلعت وعُلّقت في الهواء، والمصاعد التي لا تقود إلى أي مكان

عوالم خفية

أحد الموضوعات المتكررة للياندرو إيرليتش هو استمرار وجود عوالم خفية خلف الواجهة المشتركة وأحيانا في الحياة اليومية الاعتيادية. لا يقدم "المشهد"، 1997-2005، للوهلة الأولى شيئا غير عادي أكثر من زوج من النوافذ المجاورة للمطبخ، مع مصاريع نصف مفتوحة، تظهر من خلالها صورة للجدار الخلفي للمبنى السكني المجاور. بالاقتراب والتحديق من خلال شقوق المصاريع، في وقت ما من المساء، نجد أكثر من عشرة جيران يمارسون طقوسهم المختلفة: ارتداء الملابس، والغسيل، والطهي، وتناول الطعام أو مشاهدة التلفزيون. استراق النظر، أو بالأحرى "التلصص"، واضح جدا لخلق وهم المراقبة المستمرة. مع ذلك، فإن الوهم لا يُقاوم إلى درجة أنه يشعل تجربة المتعة المحرّمة في مراقبة ما يفعله الجيران دون خوف من الوقوع في ذنب الفعل.

أما العمل التركيبي "الدرج 2005" (Staircase 2005)، فيبدو سلّما حلزونيا بالحجم الطبيعي، بما في ذلك بئر السلّم، التي تدور بزاوية تسعين درجة. وعلى الرغم من أن المشاهد ينظر إلى عمل فني ذي مسقط عمودي من الأرض، لكن يعتريه الوهم البصري كأنه يحدق في درج متجه نحو الأسفل. يمكن رؤية الأشخاص الآخرين على الدرج بالنظر جانبيا، وليس نحو الأعلى، مما يعزز تجربة ذات سمات غريبة. من خلال هذا العمل، الذي يلغي دور السلّم وسيلة للصعود والهبوط، يزيل لياندرو إيرليتش الهيكل المعماري من وظيفته الأصلية، ويحوله من خلال تحوير مدركه الحسي، إلى عمل فني مستقل.

سجلت معارضه في السنوات الأخيرة أرقاما قياسية بعدد الزوار، بغض النظر عن جغرافية المكان

في العقد الأخير، قرر إيرليتش تكريس نفسه بشكل مكثف للفن العام، وتوسيع نطاق ممارسته إلى ما بعد المحاكاة في المتاحف، لغاية التدخل مباشرة في الواقع وفي الحياة اليومية. سواء كان الموضوع عرض منزل معلّق في شوارع كارلسروه في ألمانيا، أو إزالة الجزء العلوي من المسلّة في بوينس آيريس أو التسبب في ازدحام مروري في ميامي بيتش، فقد أصبح فنه طقسا متعارفا عليه لخلق نوع من التلاحم بين الجمهور ووجهة نظر نقدية بعيدة عن الأطر السائدة. يقول الفنان في هذا الشأن:

"أهوى تطوير المشاريع التي تدفع الجمهور إلى ما وراء العتبة المفاهيمية، وأهوى العمل مع مجموعة متنوعة من الوسائط وأنماط التعبير. يتضمن عملي التركيبات والأشياء والمنحوتات والفيديو وحتى الرسم. أقوم بإنشاء الهياكل التي تطلق الصور والأفكار التي تشير بدورها إلى حقائق جديدة. ويسرني أن أعتبر هذه القطع كأدوات علائقية تلهم التفاعل واللعب بين المشاهدين. أعني الفن كوسيلة لتنمية مقاربات جديدة لفهم العالم المادي والعقلي والسياسي والرمزي". مقاربات ربما نحتاج إلى بعض الوقت لكي نستوعبها جيدا، غير أنه يمكننا القول، إن المرء، بعد أن يشاهد أعمال لياندرو إيرليتش، يبدأ في رؤية الأشياء التي تحيط به بنظرة مختلفة، وكأنه يكتشفها للمرة الأولى.

font change

مقالات ذات صلة