إليوت بين أربعة شعراء عرب

الشاعر الأكثر ترجمة إلى العربية

AFP
AFP
الشاعر الأميركي - الإنكليزي ت. س. إليوت

إليوت بين أربعة شعراء عرب

ليس جديدا تناول مَنْ تأثّر من شعراء الحداثة العربية، ومسرحيّيها وروائيّيها، بالغرب، وبمدارسه ومذاهبه الشتّى، خصوصا تلك التي ظهرت في القرن العشرين بلُغاتها ومضامينها وبُنياتها وحتى أيديولوجيّاتها. ولو راجعنا مختلف تجارب هؤلاء، لوجدنا علامات واضحة في تناصّاتهم، وكذلك انطلاقات جديدة، واجتراحات مهمّة. فالمسألة ليست بالتأثّر بل بعدم التأثّر. ومَنْ لا يعرف أن شعراءنا، لم يكتبوا ما كتبوه بمعجزات "فردية": بل بصيغٍ "جماعية". بمعنى انفتاحهم الخصب على التجارب الوافدة. وهكذا عرفنا تجارب مهمّة منبثقة عن تلك اللقاءات.

فمنهم من تأثّر بالاتجاهات الفرانكوفونية: وآخرون بالأنكلوفونية، على تباعدها، وتعددّية مصادرها.

من هنا، علينا أن نواكب نقدا هذه التجارب، ونحدّد أشكال نجاحها أو فشلها، ومداهما، من دون أن نواجه تلك التجارب بسلبية تصل إلى حدّ اتّهام بعضهم بالسرقة، أو عدم اعتراف البعض بأيّ تأثّر به... وإذا راجعنا مختلف التأثيرات نكتشف أن الشاعر الأميركي - الإنكليزي ت. س. إليوت يتصدّر مَنْ أثّروا بكبار الشعراء بنصوصهم.

فهناك فارق بين أن نتماهى كلّيا بتجاربه عموما وبين أن نواكبه في تجربته الشِّعرية، نستلهم نقاطا محدّدة أو مناخات معيّنة تساعد الشاعر على بلورة تجربته أو إثرائها.

وكم قرأنا من مقالات ودراسات نقديّة تخلط بين التأثير النسبي، وبين انتهاب التجربة الإليوتيّة أو نفيها.

وهنا نختار أربعة شعراء عرب كبار خضعوا لمثل هذه المساءلات وحتى الاتّهامات على غير دقّة وتمحيص، فبَدَوا بنظر بعض القرّاء والنقّاد مجرّد مقلّدين لإليوت أو نَقَلة عنه. هؤلاء الشعراء هم بدر شاكر السيّاب وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي ومحمود درويش. لنتبيّن مدى استفادتهم من تجربة إليوت، وكذلك مدى ابتعادهم عنها، في نقاط محدّدة بدقّة.

عُرف أنّ خليل حاوي متأثّر بإليوت، لكن المعروف أيضا أنّه تأثّر في بداية تجاربه ببدر شاكر السيّاب، وكذلك بإلياس أبو شبكة، وليس بأمين نخلة مثلما زعم البعض، لاسيما في عصب كتاباته المشدود. لكن إلى ذلك نجد ملامح لإليوت عنده، خصوصا باستخدامه الأساطير

خليل حاوي

نحن نعلم أن قصيدة "الأرض الخراب" نالت من الترجمة إلى العربية القسط الأكبر من مُترجمينا (نحو خمس عشرة ترجمة).

خليل حاوي

نبدأ بالشاعر خليل حاوي، الذي عُرف أنّه متأثّر بشاعرنا إليوت، لكن المعروف أيضا أنّه تأثّر في بداية تجاربه ببدر شاكر السيّاب، وكذلك بإلياس أبو شبكة، وليس بأمين نخلة مثلما زعم البعض، لاسيما في عصب كتاباته المشدود. لكن إلى ذلك نجد ملامح لإليوت عنده، خصوصا باستخدامه الأساطير، وعلاقته المشتركة معه في قضيّة الحضارة التي نعاها (كإليوت) لكن أسطورة "تمّوز" التي اشتهر بها السيّاب اتخذت منحى مختلفا عنده. فالأوّل اعتبرها علامة انبثاق وانبعاث والثاني رأى فيها موت الذات العربية، في حين استخدم حاوي أسطورة "العنقاء" باعتبارها أملا يبعث الروح في الشِّعر. وعندما غزت إسرائيل لبنان عام 1982 كان هذا الغزو الضربة القاضية التي حسمت مفهوم القومية العربية وكل أمل في التغيير بالنسبة إلى حاوي فانتحر.

أما عن استخدامه رموزا دينيّة وأساطير تاريخيّة فهذا عائد إلى تأثّره بهكسلي لا بإليوت، وهو ورث الحيويّة الحضاريّة من كولردج خصوصا في قصيدته "البحّار والدراويش". وهذا لا يعني ابتعاده عن ظلال إليوت، لكن لغة حاوي الشِّعرية مختلفة، بنية وتركيبا، عنه، وهو في المقابل اعتمد تعبيرَين يتأرجحان بين النمط الكلاسيكي بمتانته، وبين النمط الحداثي باستخدامه البيت الشِّعري الحر. أما العصب الانفعالي الموتور في لغته فقد أخذه من الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة، خصوصا في قصيدته الرائعة "أفاعي الفردوس".

 

السيّاب

 أمّا السيّاب، فمن أكثر الشعراء العرب الذي تلقّى أحكاما مُبرمة بأنّه تماهى بإليوت تماهيا كبيرا.

AFP
بدر شاكر السيّاب

لكن نبدأ بقول السيّاب: أنا متأثّر بالشاعر الإنكليزي كيتس من خلال اعتماد الصورة للتعبير، ومتأثّر بشكسبير من خلال الصورة التراجيديّة، وأنا معجب بإليوت وكذلك بدانتي وبجيمس فريزر. هذا صحيح لكنه لا ينفي التأثّر بإليوت في استخدامه الأغنية الشعبيّة كما في "الأرض الخراب"، وأغنية أطفال، والأغنية العراقية الجنوبية... من دون أن ننسى قصيدته الرائعة "أنشودة المطر". وتماهيا أيضا بإليوت بالَغَ في استخدام الرموز والأساطير والحكايات الدينيّة والحضاريّة والتاريخيّة، لكن إلى ذلك فقد احتفظ السيّاب بغنائيّته، وجافى التكثيف اللغوي وعنف التعبير والصُّور الصادمة ومؤثّراتها في إيقاع القصيدة، بل جافى أيضا المنحى الذهني الخالص عند إليوت، من دون أن يقع في التبسيط.

بالَغَ السياب في استخدام الرموز والأساطير والحكايات الدينيّة والحضاريّة والتاريخيّة، لكنه احتفظ بغنائيّته، وجافى التكثيف اللغوي وعنف التعبير والصُّور الصادمة ومؤثّراتها في إيقاع القصيدة، بل جافى أيضا المنحى الذهني الخالص عند إليوت


صلاح عبد الصبور

وهو أيضا نال نصيبه الوافر نقدا لأنه بالَغَ في التأثّر بإليوت، لكنّه يتميّز عن سواه بممارسة كتابة الشعر والمسرح (أسوة بإليوت)، وبأنّه وسّع من دائرة ثقافته إلى شعراء لا ينتمون إلى الطريقة الإليوتيّة كلوركا وريلكه وكافكا امتدادا إلى ماتشادو وناظم حكمت وويتمان. فإزاء هذه التنويعات بدا تأثره بإليوت ملحوظا على غير حسم: فإذا قرأنا بعض قصائده التي تتنوعّ فيها الغنائيّة الموروثة من الشِّعر العربي (أحمد شوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم..) نحسّ بأنه يغاير روحيّة نصّ إليوت.. وها هو يقول: "إنّ ظلال قراءاته تلاشت عن ذاكرته الجماليّة، ولم يتبقَّ سوى ظلال إليوت الذي جمَعَ بين الطابع الروحي لعالمنا المعاصر وبين الطابع الروحي الإيجابي للعالم القديم". ونظنّ أنّ انحيازه إلى إليوت يعود إلى النزعة السلبيّة عنده. وإذا كان أعجب بجرأة إليوت اللغويّة إلّا أنّه لم يتماثل مع هذه الجرأة وإن بدا أنه خرج على القاموس الشِّعري العربي البلاغي منذ ديوانه الأوّل "الناس في بلادي"، وعلى عمود الشِّعر العربي في قصائده "الحزن". لكن جسارته المحدودة سبقه إليها شعراء عرب كثيرون، على أنّ هذه المواضيع اليوميّة والإشارات تُذكّر بإليوت منها قوله "لا لست الأمير هاملت ولا المضحك الممراح" وهذا وارد عند إليوت: "لا لست الأمير هاملت ولا قصدت أن أكونه".

صلاح عبد الصبور

لكن نظنّ أن تأثّره البالغ نجده في "مأساة الحلاّج" (1974)، كونه ترجم مسرحية إليوت "جريمة في الكاتدرائيّة" (1935) فتأثّر بها وبمسرحيّات أخرى "ليلى والمجنون" و"أحلام الفارس القديم". لكن إلى ذلك من الصعب اعتبار أنّ عبد الصبور، استلهم جوهر التجربة الإليوتيّة وعمقها الفلسفي ورهانها الحضاري: وهذا ما أوقع مسرحيّاته في المباشرة وضعف التكوين الدرامي.

 

محمود درويش

نحن نعرف موقف محمود درويش النضالية في خدمة قضيّته الفلسطينيّة، عبّر عنها بقوّة في مرحلته الأولى التي كان يكتب فيها للجمهور الذي حفظ قصائده الناس كأناشيد طويلة من الصمود والمقاومة، وليس لذاته.

لكن سنحاول معالجة المرحلة الثانية من تجاربه الشِّعرية، المختلفة تماما عن الأُولى، بما يوازيها من لغة شِعريّة جديدة مركّبة كثيفة، وموحية ورمزيّة أي طليعيّة. وقد افتتح هذه المرحلة الثانية برائعته "الجداريّة".

Getty Images
محمود درويش

كأنّما زمن جديد يخترقه درويش في قصيدة طويلة، يستنكه فيها الأعماق، والحلم والهذيان، والتأمل، والحب، والموت، كسمفونيّة تضجّ بِلُغات وعوالم متنوّعة، طالعة من كل حياته وتجاربه، وهواجسه، وذاتيّته. إنه يجترح لغته ومرحلته الجديدة بهذه القصيدة التي لقيت أصداء كبيرة احتلّ فيها مكانته كشاعر كبير ذي رؤية جديدة للقصيدة العربية.

هذه القصيدة المُدوِّية وجدت من يربطها بالمناخ الإليوتي ربطا مطلقا، ويرى فيها استدلالا لتجربة أخرى.

كتب الناقد محمد شاهين أن درويش على عكس عبد الصَّبور والسيّاب؛ فقد تمكّن من استيعاب التجربة الإليوتيّة وتمثّل غايته ويضيف: "يُجسّد محمود درويش إليوت الباحث الأعمق والأساسي في هذا التأثير... تقرأ محمود درويش كأنّك تقرأ إليوت ويشكل واحدهما صدى للآخر. فقراءة جذريّة لجداريّته ولقصيدة إليوت "أغنية حبّ جيه ألفرد بروفروك" تعين على استيعاب إليوت، مثلما تساعد على فَهْم درويش. وتقرأ درويش كأنّك تقرأ إليوت وتقرأ إليوت كأنّك تقرأ درويش!

نحن ممن قرأوا "الجداريّة" مرّات عدّة، ولم نجد أنّ هذه الملحمة الغنيّة بالأصوات، والهذيان، والحب، والموت، والذاكرة، والتاريخ... لها علاقة بإليوت، وقد ناقشنا هذه القصيدة مع شعراء، ونقّاد مميّزين، ولم نستشفّ علاقة بين جداريّة محمود درويش وإليوت.

لكن هنا نحيل الناقد محمد شاهين إلى مجمل الكتب التي نشرها درويش بعد "الجداريّة"، ليكتشف أنّها تمثّل تجارب الشاعر التي احتلّ بها مكانته الطليعيّة في الشِّعر العربي بل كرّس مكانته كشاعر كبير في الحداثة وفي اللغة الجديدة المتنوّعة التي رسم بها مرحلته الجديدة.

font change

مقالات ذات صلة