إبراهيم زولي: دون تجريب يحفر الشاعر ضريحه بيديه

يستعد لإصدار ديوانين جديدين

Peter Csuth
Peter Csuth

إبراهيم زولي: دون تجريب يحفر الشاعر ضريحه بيديه

على الرغم من إصداره أكثر من عشر مجموعات شعرية، لا يزال الشاعر السعودي إبراهيم زولي قلقا من السؤال الذي يصفه بالوجودي، وهو "هل أنا أكتب الشعر أم هو يكتبني؟" ويوضح: "القصيدة ليست قطة أليفة تتبع سيدها وقتما يريد، ولا هي محفظة مصنوعة من جلد فاخر يضعها الأثرياء في جيوبهم ويخرجونها ساعة يشاؤون".

فالشعر حالة إبداعية لا يمكن تفسيرها، لكن يمكن رؤية نتائجها في تجربة زولي. أصدر مجموعته الأولى "رويدا باتجاه الأرض" عام 1996 ومن ثم توالت الإصدارات التي تحمل عناوين مختلفة من بينها "حرس شخصي للوحشة" و"شجر هارب من الخرائط" وغير ذلك من عناوين شكلت تجربته، التي تعرف إليها الجمهور العربي من خلال مشاركته في المهرجانات الشعرية التي أقيمت في عدد من الدول العربية، سبقتها إصداراته المنتشرة في تلك الدول.

اخترتَ قصيدة النثر أسلوبا لكتابة الشعر، هل جاء هذا بقرار، وهل جربت أساليب أخرى؟

الشاعر الذي يطمئن إلى معمار واحد، هو شاعر لا يصوّب عينيه نحو الشمس والمستقبل. أجل، لم أكن ممن يحرقون المراحل كيفما اتفق. شرعت منذ البدء في كتابة القصيدة العمودية، حيث القوافي والزحافات والعلل، وما إن لاحظت أن خطابي آخذ في التكرار والتشابه، حتى كتبت النص التفعيلي، ولأنني أؤمن بالتجديد، اجترحتُ أخيرا كتابة قصيدة النثر.

لا أدّعي مجدا في ذلك. كان هاجسي المغامرة من قبل ومن بعد، ومتى انطفأت جذوة المغامرة من روح الشاعر فقد كل شيء، وانتكس، وتقوقع في ركن بائس وفخ شعري يتيم لن يغادره حتى آخر العمر. دون حس التجريب يحفر الشاعر ضريحه بيديه.

كيف تنظر إلى قصيدة النثر؟

وفق توصيف نيتشه أطمح أن أقول في عشر جمل ما يقوله آخرون في كتاب كامل. في تقديري إن القصيدة الجديدة تخلّتْ عن الترف والتبذير المفرط في البلاغة المفسدة للنص، إنها تتجه حثيثا نحو الاقتصاد في اللغة، وتتخلّى تماما عن كل ما يطوف بالشعر بعيدا من شاعريته، وينحرف به عن سبيله الأجمل، وبالتالي سيقول شيئا مغايرا عما يودّ أن يبوح به منتج النص. إن ضبابية الرؤيا التي في مخيلة الكاتب، تفضي بالضرورة إلى إشكالية في التعبير، مما يضلّل المتلقي، ويوقعه في متاهات جمّة، ليس من بينها الإبداع.

حالما أفرغ من كتابة نص، أشعر بآدميتي، وبأنني واحد من عالم الأحياء. أغدو، كمن أنجز مهمة عسكرية، أو كبطل أولمبي حقق رقما قياسيا في سباق العدو. في حالات كثيرة انتهي من كتابة القصيدة، وأجنحة الروح لا تزال ترفرف


كيف تنهي قصيدتك وما الشعور الذي يسيطر عليك حينذاك؟  

عندما يشعر الشاعر أن قصيدته انتهت، عليه أن يكفّ عن الكتابة، ويلقي قلمه جانبا، عليه أن يتعلم المحو، أكثر من الإسهاب. القصيدة لا تعرف الثرثرة، وزمن الملاحم والمطولات انتهى.

عندما أنتهي من كتابة القصيدة يتراءى لي أن منسوب الكآبة والبؤس يتراجع عن وجوه الناس، والرياح تصلي بطمأنينة وسط الحقول، وتغمض الزوابع أعينها في حضرة الصحاري. آنذاك، تخرج النوارس من البحر، وتقف وجها لوجه قبالة الصيادين، والحقائب تغتسل من وعثاء السفر.

حالما أفرغ من كتابة نص، أشعر بآدميتي، وبأنني واحد من عالم الأحياء. أغدو، كمن أنجز مهمة عسكرية، أو كبطل أولمبي حقق رقما قياسيا في سباق العدو. في حالات كثيرة أنتهي من كتابة القصيدة، وأجنحة الروح لا تزال ترفرف.

غالبا، لا تنتهي القصيدة تماما، كما يتبدّى لنا، تظل تتعقبك وحبرها لم يجف بعد. أجل، تنتهي ككتلة واحدة غير أن الإضافات والتعديل يستمرّان عقب ذلك مدة أطول. لهذا تعلمتُ كيف أشذّب نصوصي أكثر من إطالتها دون داع.

 

بعيدا من الشعر

أصدرت أخيرا كتاب "مخرج الطوارئ - نصوص مفتوحة"، فما طبيعته؟   

هناك معان ورؤى وربما أفكار تحتاج إلى أقنية أخرى، وأشكال مختلفة من التعبير غير القصيدة، وهذا ما فعلته في كتابي "مخرج الطوارئ" وأردفت العنوان بـ"نصوص مفتوحة" ربما لأنه مسمّى بابا مشرعا يستوعب كل الأجناس الأدبية من سرد وشعر وفن الشذرة، ويمتاح كثيرا من الفنون البصرية كالسينما والصورة والفن التشكيلي. لعلك تلاحظين أن فرانز كافكا في رسائله إلى ميلينا تنحّى عن لغته وفانتازيته التي طبعت روائعه السردية كـ"المسخ" و"المحاكمة". بيد أن رسائله هذه فيها الكثير من التقشف اللغوي، والبلاغة التي تتمظهر في حدودها الدنيا، مثلما فعل رامبو أيضا في رسائله إلى أخته إيزابيل. وسار على طريقهما سعدي يوسف ودرويش ونزار قباني، الذين كانت لهم تجاربهم النثرية، أيا كان نوع هذا النثر.

 

هل من الممكن أن تكتب الرواية يوما، وما الحالة التي تعتقد أنها ستقودك إليها؟

أنا قارئ نهم للرواية، لا سيما الروايات العالمية، وربما أقرأها أكثر من الشعر، ذلك لأن الأعمال السردية الخالدة تكون حبلى بالشعر والحكي والفلسفة وحتى السينما، ومن يقرأ أعمال دوستويفسكي، وتوني موريسون، وكنزابورو أوي، و ج. م. كوتزي يتهيّب خوض هذه المغامرة.

تخيّلي أنه عندما سئل الكاتب الأرجنتيني بورخيس: لماذا لا تكتب الرواية؟ قال: "لا أستطيع، فأنا كسول والرواية تتطلب مجهودا، ثم إننا نكتب ما نقدر عليه، والمهم في رأيي أن يبقى أربع أو خمس صفحات مما يكتبه كل كاتب".

نعلم أن ج. د. سالينجر استغرق عشر سنوات لكتابة روايته، "الحارس في حقل الشوفان"، وهي المدة نفسها تقريبا التي أمضتها مارغريت ميتشل في إنجاز رائعتها الشهيرة، "ذهب مع الريح"، أما الشاعر والروائي الفرنسي فيكتور هوغو، فأمضى اثني عشر عاما في كتابة عمله الخالد "البؤساء". كثيرون هم الشعراء الذين اختطفهم بريق السرد، ومنهم: إبراهيم نصر الله، علي المقري، عباس بيضون، شربل داغر. ماذا لو عاد للشعر وهجه الغائب، ماذا سيفعل أولئك الذين تخلوا عن القصيدة، هل سيقبل الشعر توبتهم ويحتضنهم، أم سيوبخهم وينصرف عنهم إلى الأبد؟

القصيدة الجديدة تخلّتْ عن الترف والتبذير المفرط في البلاغة المفسدة للنص، إنها تتجه حثيثا نحو الاقتصاد في اللغة، وتتخلّى تماما عن كل ما يطوف بالشعر بعيدا من شاعريته


هل تعتقد أن الجوائز المخصصة للرواية في العالم العربي، ساهمت في تكاثر الروائيين؟

مدونة السرد في الغرب بدأت قبل الميلاد غير أن أحدا من منظّريهم لم يقل بموت الشعر، أما نحن، فلم تظهر الرواية في أدبنا العربي كفن متكامل بشروطه إلا قبل قرن ونصف القرن في أكثر الأقوال تفاؤلا، ومع هذا نسعى محمومين إلى فكرة القتل أو "موت الشعر".

هذه الجوائز أدّت بعدد غير قليل من أنصاف المبدعين إلى كتابة الرواية، بعضهم لم يسبق له النشر، ولم تكن له بدايات في أيّ جنس أدبي، لا يدعوهم إلا نداء السوق، أو ما يسمّى "الجمهور عاوز كده" ما حدا ببعض الروائيين "الكبار" إلى إنجاز عمل روائي كل عام ليدفع به عقب ذلك للناشر الذي بدوره يقدمه لهذه المسابقات للظفر بالجائزة. هذا نمط مخز، وفيه ما فيه من تسليع للإبداع الذي يقدمونه بدم بارد قربانا على مذبح الربح والكسب.

لكن هذا الهوس خفت إلى حد بعيد في السنوات الأخيرة، إذ لاحظ المهتمون بالشأن الثقافي تراجع الإصدارات الروائية، مما يعني أن الأمر كان أشبه بحالة عابرة، حالة استجابت لمتطلبات السوق، ولرغبة بعض الناشرين العرب، كأيّ سلعة استهلاكية، وكيفما اتفق، دون اعتبار لقيم الفن العليا.

 

ما أهمية المهرجانات والأمسية الشعرية بالنسبة إليك؟  

كلّ شاعر مهما علا نجمه، يتطلع لأن يلقي قصائده أمام الناس، ذلك لأن مزاج المتلقي مهم لاختبار القصيدة، ليس فقط للشعراء ذوي الجماهيرية الواسعة، بل حتى شعراء قصيدة النثر، وهي التي (أعني قصيدة النثر) يفضل أن تقرأ، أكثر مما تسمع ويهتف بها قائلوها، بسبب أنها تستفيد من ممكنات الكتابة على الورقة والفراغات والبياض، وليس جوهرها الإنشاد والصوت العالي، إنها فن كتابي بامتياز، وليس شفاهيا. أقول حتى هؤلاء الشعراء، وهم يكتبون قصائد نثر، لم ينعزلوا عن الجماهير، والأمسيات الشعرية.

 

عام الشعر

كنتَ عضوا في لجنة منتدى الشعر في نادي جازان الأدبي، ما الذي حرصت عليه من خلال عضويتك في منتدى الشعر؟

ظلّت الأندية الأدبية في المملكة، ولمدة تقارب الخمسين عاما، تقوم بدورها الثقافي تجاه الأدب والأدباء، وقدّمت أسماء إبداعية في كل أجناس الكتابة. استضافت شعراء ومفكرين وكتاب سرد وأصدرت كتبا، وأقامت ندوات ومهرجانات، ونادي جازان أحد هذه الأندية. من خلال عضويتي آنذاك في منتدى الشعر، أقمنا، زملائي وأنا، مهرجانات شعرية وقراءات نقدية، دعيت إليها أهم النخب الثقافية في المملكة والخليج، وكُرّم الشاعر الكبير محمد العلي، غير أن هذه المؤسسات باتت مهددة بالزوال، ومعها قريناتها من جمعيات الثقافة والفنون، بسبب أن المرحلة تستدعي تغييرات مفصلية، كإنشاء مراكز ثقافية وحضارية تمثل المرحلة الراهنة التي تشهد نموا متسارعا في مختلف الاتجاهات والصعد.

المملكة العربية السعودية تسير حثيثا صوب التحول لبناء الإنسان، وتعقد حلفا تاريخيا مع المستقبل

ما خصوصية الساحة الشعرية السعودية وكيف أثرت التحولات التي جرت في السعودية على الفضاء الإبداعي عموما والشعري خصوصا؟

الشعر السعودي هو جزء من الشعر العربي الذي يعبر عن هوية وضمير الأمة، وهو مكون مهم وجوهري من هذا التاريخ الذي يضرب بجذوره عميقا في التراث الإنساني، وغني عن القول إن التحولات التي شهدتها السعودية أثرت بشكل كبير على الساحة الإبداعية عموما والشعرية خصوصا. فقد عاشت المملكة تطورات اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية هائلة، أدّت إلى تغير في أنماط الحياة والقيم والمفاهيم لدى المواطنين، ومن ثم في الحراك الثقافي، بيد أن الشعر كما هو معروف عنه لا يستوعب التغيرات الهائلة سريعا، ولا ينفعل الشعراء بها إلا بعد وقت ليس بالقصير، أتحدّث عن الشعر الحقيقي، لا قصائد المناسبات الآنية. ويمكن القول إن الساحة الشعرية السعودية شهدت تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة، فأصبحت أكثر تنوعا وتفاعلا مع الواقع، كما ساهمت التحولات العميقة التي جرت في المملكة في إثراء المشهد الثقافي وتجديد دمائه، وليس أدل على ذلك من الإعلان الرسمي بتسمية هذا العام "عام الشعر العربي"، وأحسب أن قرارا كهذا يعتبر استثنائيا، وغير مسبوق، ويؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، أن المملكة العربية السعودية تسير حثيثا صوب التحول لبناء الإنسان، وتعقد حلفا تاريخيا مع المستقبل.

 

ما جديدك للفترة المقبلة؟

عندي عملان شعريان، أعمل على مراجعتهما النهائية، آمل أن يريا النور قريبا، أحدهما عنوانه "سماء لا تمدح الأسلاف" والآخر بعنوان "مطر يفضح السقف".

 

font change

مقالات ذات صلة