جاسم الصحيح: الشعر يبدأ من حيث تنتهي المعرفة

لا وظيفة له غير ذاته

الشاعر السعودي جاسم الصحيح

جاسم الصحيح: الشعر يبدأ من حيث تنتهي المعرفة

"إنه أوكسيجين الروح"، بهذه العبارة يصف الشاعر السعودي جاسم الصحيح علاقته بالشعر. ويوضح: "الشعر هو فعلا أوكسيجين الروح الذي يجعلني أشعر بالحياة، لذلك، عندما أُصاب بالاحتباس الشعري، أحسُّ بالعقم على كل الصعد، وتنتابني الكآبة وانعدام التوازن النفسي. أما كيف أحافظ عليه فهذا هو قلقي الدائم الذي لا يتوقف ولا يهدأ ولا يستقر. إنّ طاقة الموهبة التي تمدّنا بأوكسيجين الشعر محدودة، ولا يمكنها أن تستمر إلا بإمدادها عبر روافد ثقافية إمدادا متواصلا للحفاظ على الشعلة في قمَّة توهُّجها، وهذا ما أجتهد في فعله، سواء على صعيد القراءة أو التورّط في تجارب الحياة كي أبقى على خطّ التماس مع الشعر مهما عقَّتني ظروفي الخاصة".

كلّ تلك العلاقة جعلت الشاعر الصحيح واحدا من أشهر الشعراء في السعودية والعالم العربي، وأهّلته للحصول على أكثر من 15 جائزة من بينها أفضل ديوان شعري في مسابقة البابطين للإبداع الشعري، وجائزة سوق عكاظ الدولية للشعر العربي الفصيح في دورته الـ12، على الرغم من ذلك هو يرى "أن الجوائز لا تعني الوصول إلى القمة، وإنما تعني أننا ما زلنا نجتهد في الصعود. هكذا تتحوّل إلى دافع قوي من أجل مواصلة المغامرة الجميلة في اكتشاف أقاليم جديدة على جغرافيا الشعر والكتابة".

في رصيد الشاعر جاسم الصحيح أربعة عشر ديوانا من بينها "تضاريس الهذيان"، "طيور تحلّق في المصيدة"، "عناق الشموع والدموع"، "حمائم تكنس العتمة"، "أعشاش الملائكة"، و"كي لا يميل الكوكب". يتحدّث عن تقاليده في إصدار أعماله التي نُشر بعضها في أكثر من طبعة فيقول: "علاقتي بطباعة الدواوين منذ بدايتي قائمة على أن يكون الديوان متنوّعا كالحياة في قصائده، ولا أميل إلى طباعة العمل الأدبي أو الديوان الذي يتحدث في كل قصائده عن موضوع واحد. أعتقد أن القارئ عندما يقتني الديوان، يريد أن يتنقل في شوارع الحياة من خلال قصائده، لا أن يبقى يتنزّه في مكان واحد. قد يكون لمثل هذه الأعمال الأدبية عشاقها أيضا، فمثلا ديوان "جدارية" للشاعر الكبير محمود درويش يمثّل عملا أدبيا واحدا، لكنه في الوقت ذاته يمثّل أهم ديوان في تجربة درويش كما يرى بعض النقاد".

هناك حبل سريّ يمتد بين الحياة والقصيدة. وليس في إمكان شاعر أن يقول الحياة كلها، لذلك سيبقى الشاعر يعمل في حقول الشعر، ولن تتوقف القصيدة إلا بعد رحيل الإنسان الأخير

ويرجع الصحيح الذي يحرص في كل قصائده على الرسم بالكلمات، ليخلق صورا شعرية تحرّر خيال القارئ، وجود هذه الصور إلى "أنها ناتج من تعريفي للشعر وهو التعريف الأقرب إلى نفسي، الذي انعكس على تجربتي في الكتابة، وهو أنّ الشعر عبارة عن تجربة إنسانية تقدَّم في لغة موسيقيَّة إيقاعيَّة إِشاريَّة، وتحمل رؤية تحكمُها النزعة التصويرية. إذن، الشعر هو عملية تحويل الفكرة أو الرؤية إلى صورة. ولكن في الوقت ذاته، هناك عمل إيحائي في الصورة، وليس عملا مباشرا، وهذا ما يحرّر خيال القارئ. هذا الفهم الشعري الذي أنتمي إليه هو ما أعمل على تحقيقه في نصوصي، فتأتي هذه النصوص أشبه بـ"الرسم بالكلمات" كما تفضلتِ".

عاد الصحيح بكل ما امتلكه من مزايا شعرية، إلى التاريخ القديم واستحضر رموز الصوفية أمثال الرومي والحلاج، وحين ذهب أبعد إلى ما قبل الميلاد، استحضر اللحظات الأخيرة للفيلسوف سقراط. وكان لهذا الحضور التاريخي أسبابه: "الرموز التاريخية تمثّل مادة للكتابة فنحن لا نستطيع أن نكتب دون أن يكون لنا تراث يحتوي على رموز وأساطير وحقائق ووقائع. استحضرت الكثير من شخصيات التراث سواء في قصائد حوارية مع الشخصيات ذاتها، مثل قصائدي في عنتر بن شداد أو المتنبي أو المعري، أو حضور بعض الشخصيات حضورا خاطفا في قصائد أخرى مثل الحلاج، مولانا جلال الدين الرومي، طرفة بن العبد وغيرهم".

خلف استحضاره لهذه الرموز من عمق التاريخ، أسباب يكشفها: "بالنسبة إليَّ، أستحضر هذا الرمز أو الشخصية عندما أعيش مأزقا مشابها للمأزق الذي عاشه، وأصبح يرمز إليه. مثلا المعري هو شاعر الميتافيزيقا بامتياز لأنه عاش صراعا مع الغيب وكتب عن هذا الصراع الثقافي. لذلك، في اللحظة التي أشعر فيها بهواجس غيبية، أستحضر أبا العلاء المعري، وأجادله في النص... وهكذا دواليك مع بقية الرموز أو الأحداث التاريخية".

الشاعر السعودي جاسم الصحيح

لم يكتفِ الصحيح بتلك الرموز بل ترجم شعرا إسقاطات رؤيته لبعض الأحداث التاريخية الكبرى مثل قصة قابيل وهابيل، ورحلة جلجامش وبحثه عن الخلود، وطوفان نوح، وغير ذلك الكثير. يقول: "القصص التاريخية والأساطير كلها ذخائر معرفية يحتاج إليها الشاعر للدخول في معترك القصيدة. والاتكاء عليها يشدّ بيانيَّة النصوص التي نكتبها، ويمنحها قيمة جمالية إذا عرفنا كيف نُحسِن توظيف هذه الذخائر المعرفية".

 

قضايا شعرية

تفاعل جاسم الصحيح من خلال شعره مع عدد من القضايا المعاصرة والكوارث التي تحدث في البلدان العربية: "الإبداع يخسر الكثير من قيمته الجمالية عندما يكون مُستَكتَبا في قضية من القضايا الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، لأنه لا يستجيب إلا للحظة الوجدانية التي يعيشها المبدع. ولكن من المهم أن نعلم أن الإبداع أيضا مرتبط بالجذور الإنسانية، فهو ليس مجرد هلوسات أو هذيانات تطرق رؤوسنا ونُثرثرها على الورق". ويضيف: "الشعر شكل من أشكال الإبداع الذي أتحدّث عنه. الشعر ليس ملتزما هدفا اجتماعيا أو منظومة أفكار أيدولوجية، فهو بمقدار ما يخدم قضية ما، يخسر من شعريته إذ لا وظيفة للشعر إلا الشعر ذاته. لكنَّ الشعر - في الوقت ذاته- ليس حياديا في نظرته الى الحياة والعالم من حوله. بناء على كل ما تقدَّم، أكتب عن كلّ قضية أتناولها على أنها قضية شعرية في الأصل، وأطرق بابها بقبضة الإيحاء والهمس، وليس من خلال الصراخ والمباشرة، وأحاول أنسنة القضية كي أنجو بها إلى ساحة الشعر من الفخاخ الأيديولوجية".

يرى الصحيح أن القصيدة لا نهائية "لأنَّ الحياة لا نهائية، فهناك حبلٌ سريّ يمتدّ بين الحياة والقصيدة. وليس في إمكان شاعر أن يقول الحياة كلها، لذلك سيبقى الشاعر يعمل في حقول الشعر إلى آخر لحظة في عمره، ولن تتوقف القصيدة إلا بعد رحيل الإنسان الأخير". ويفسّر قدرة الشاعر على التدفّق المستمر: "لأجل أن يصبح الشعر نهرا لا يجفّ لدى الشاعر فهذا يعتمد على قدرة الشاعر في أنْ يبقى متحزِّما بموهبته، حاملا معولَ ثقافته، عاملا في الحفر والحرث في أرض اللغة البكر التي لا تزال حبلى بالمنابع التي تصبُّ في نهر الشعر".

هكذا بقي الصحيح وفيّا للشعر: "حاولت في الرواية والمسرح، ولكن لم يكن لديَّ شغفٌ يكفي لنجاح المحاولات، وربما يكون ذلك لعدم امتلاكي أدوات العمل في هذين الحقلين، فلم أستطع الاستمرار".

على الشاعر أن يكون لديه ميزان من الحساسية الشعرية كي لا تطغى جرعة حضور الثقافة في القصيدة على شعريتها، فتتحوّل القصيدة إلى مجرَّد معرفة ثقافية

في كل مراحل تجربته بقي الصحيح محافظا على عادة القراءة: "القراءة هي الرافد الأكبر الذي يصبُّ في بئر الموهبة كي تستمر في الفيضان. ولكن في الوقت ذاته، قد تكون القراءة حجابا معرفيا في وجه الشعر، لذلك يجب على الشاعر أن يكون لديه ميزان من الحساسية الشعرية كي لا تطغى جرعة حضور الثقافة في القصيدة على شعريتها، فتتحول القصيدة إلى مجرَّد معرفة ثقافية، بينما الشعر يبدأ من حيث تنتهي المعرفة".

 

 الثقافة الجديدة

كان لجاسم الصحيح تجربة في تقديم برنامج تلفزيوني بعنوان "أنتمُ الناس"، وهو عبارة عن مقابلات مع شعراء سعوديين من جميع الأجيال: "أما برنامجي الجديد فهو عبارة عن إعداد وتقديم حلقات تلفزيونية عن نخبة من الشعراء العرب منذ ما قبل الإسلام إلى العصر الحديث، وذلك على القناة الثقافية الجديدة التي سوف تنطلق خلال شهر سبتمبر/أيلول من السعودية، وتنضمّ إلى باقة قنوات MBC".

عن تناغم هذه القناة مع التغييرات في المشهد الثقافي السعودي يقول: "لقد تحوّلت المملكة العربية السعودية إلى خليَّة ثقافية عاملة تعكس حجم التغيرات الثقافية الهائلة التي تشهدها المملكة في هذه الفترة الزمنية، وهي تترجم في الوقت ذاته، الاستراتيجيا الثقافية الجديدة التي اعتمدتها وزارة الثقافة بناء على رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله ورعاه". ويضيف: "قامت الوزارة بعمل جمعيات لكل قطاع ثقافي حتى بلغ عدد هذه الجمعيات التي أعلنتها تقريبا ست عشرة جمعية مهنية في عدد كبير من القطاعات الثقافية غير الربحية، من ضمنها جمعية الأدب التي تمثّل مظلة للأدب والأدباء في السعودية، مثل اتحادات الأدباء في بعض الدول العربية. كما فتحت الوزارة المجال للحصول على تصاريح لإطلاق جمعيات ثقافية على الصعيد الاجتماعي". ويبيّن: "لقد تغيّرت نظرة الوزارة إلى الثقافة عن النظرة التقليدية التي تختزل الأنشطة الثقافية في أمسية شعرية أو قصصية أو روائية، أو مجرد ندوة نقدية مقصورة على النخبة المثقفة. وإنما ذهبت إلى شعبنة الثقافة (نسبة إلى الشعبي)، والانفتاح على كل المنجزات الحضارية المعاصرة على صعيد الثقافة، واشتغلتْ على الوعي الثقافي العالمي، وحاولت أن تعبُرَ بالمجتمع السعودي إلى العالم عبر كل الأشكال الجمالية في كل الفنون، كالأزياء والمطبخ السعودي في أكلاته الشعبية، والموسيقى والغناء الشعبي وغير ذلك من فنون، دون أن ينسلخ المجتمع عن هويته التراثية الأصيلة".

أخيرا يكشف الصحيح عن جديده وهو انطلاق العمل في جمعية الأدب السعودية التي سيدير بعض أنشطتها، بالإضافة إلى برنامجه التلفزيوني.

font change

مقالات ذات صلة