مقتل رئيس الأركان الليبي في تركيا... سيناريو أم صدفة؟

عشية ذكرى استقلال ليبيا الرابع والسبعين، فوجئت البلاد بمقتل الفريق أول محمد الحداد في أنقرة

أ.ب
أ.ب
رئيس أركان الجيش الليبي، الفريق محمد الحداد، في صورة تذكارية في طرابلس، ليبيا، 3 أكتوبر 2022

مقتل رئيس الأركان الليبي في تركيا... سيناريو أم صدفة؟

عشية ذكرى استقلال ليبيا الرابع والسبعين، فجعت البلاد بخبر مقتل رئيس الأركان العامة بحكومة الوحدة الليبية المعترف بها دوليا الفريق أول محمد الحداد الذي كان في زيارة عمل رسمية إلى العاصمة التركية أنقرة، حيث لقي حتفه إثر تحطم الطائرة التي تقله عقب إقلاعها من مطار أنقرة.

الحداد، قبل مقتله، عقد عدة لقاءات مع وزير الدفاع ورئيس الأركان التركيين، بعد أيام من موافقة البرلمان التركي على تمديد وجود القوات التركية في ليبيا إلى عام 2028.

هذه الحادثة، زادت من التساؤلات حول مستقبل توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، التي تعيش انقساما طويلا، غذّاه الانقسام السياسي في البلاد وحالة عدم الاستقرار، بالإضافة إلى وجود قوات أجنبية ومرتزقة في عدة مناطق من البلاد.

ورغم محاولة المسؤولين السياسيين والعسكريين من شرق ليبيا وغربها إبداء التضامن مع ضحايا هذا الحادث، ونعي الضحايا، فإن هذه المشاعر وإن كانت نبيلة، لا تخفي عمق الانقسام الحاصل الذي تعيشه ليبيا، في ظل تحركات من كل الأطراف لتعزيز قدراتها العسكرية. حيث قامت قوات الجيش الوطني الليبي في شرق ليبيا بالتوقيع على اتفاقات تعاون مع باكستان تتضمن صفقات تسليح، تتضمن طائرات حربية ودبابات بقيمة تصل إلى أكثر من 4 مليارات دولار، وفقا لما نقلته وكالة "رويترز"، وهو الأمر الذي عبرت حكومة الوحدة الليبية عن رفضه.

وقامت قوات موالية للحكومة المعترف بها دوليا، بإجراء عدة مناورات عسكرية واسعة خلال شهر ديسمبر/كانون الأول في غرب ليبيا، بالتعاون مع القوات التركية، التي تتمركز في ليبيا وفق اتفاقية تعاون وتدريب مع الحكومة الليبية.

مقتل الحداد، يأتي في سياق إقليمي متغير، بعد أن أصبحت تركيا أقرب من أي وقت، لبعض دول الإقليم، مثل التقارب التركي-المصري، الذي تُوج بمناورات عسكرية مشتركة، بالإضافة إلى التقارب التركي مع قوات الجيش الوطني في شرق ليبيا، بعد زيارات مسؤولين أتراك لمدينة بنغازي في شرق ليبيا، وزيارة نائب القائد العام للجيش الليبي في شرق ليبيا الفريق صدام حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، لتركيا في عدة مناسبات.

جاء مقتل الحداد، إثر إعلان رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة عزمه إجراء تعديل وزاري في حكومته، بعد شغور عدة مناصب وزارية

وتمثل ليبيا مركزا مهماً في الصراع الدائر شرق البحر الأبيض المتوسط، بين تركيا من جهة واليونان والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، حيث ترفض اليونان مذكرة ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، وتتمسك ليبيا (حكومة الوحدة) وتركيا بهذه الاتفاقية الموقعة في عام 2019. 

وبالإضافة إلى وجود القوات التركية في ليبيا، فإن قوات من مرتزقة شركة "فاغنر" الروسية، تتمركز في عدة مناطق من شرق وجنوب ليبيا، ضمن جهود التعاون مع قوات شرق ليبيا، الأمر الذي يزيد من تعقيد المشهد، حيث تتمسك كل القوات الأجنبية بضرورة وضع جدول زمني موحد ومتزامن للخروج من ليبيا، وهذا ما لم يتحقق منذ أكثر من خمس سنوات.

أ.ف.ب
موقع تحطم طائرة كانت تقل الحداد، على بعد كيلومترين جنوب قرية كيسيكافاك في قضاء هيمانا بأنقرة، في ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥

غياب الفريق أول محمد الحداد، يعد ضربة قاسية، للجهود المبذولة لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية، من قبل أبناء هذه المؤسسة، حيث أعلن الحداد في غير مناسبة، رفضه القاطع لأي دعوات للحرب بين الليبيين، بعد أن تم تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار بين الأطراف الليبية، رغم مشاركته في صد الهجوم الذي شنته قوات شرق ليبيا في أبريل/نيسان 2019 ضد العاصمة طرابلس.

وجاء مقتل الحداد، إثر إعلان رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة عزمه إجراء تعديل وزاري في حكومته، بعد شغور عدة مناصب وزارية، إما بسبب الاستقالة أو الملاحقة القضائية الناجمة عن اتهامات فساد لاحقت عددا من الوزراء ونواب رئيس الوزراء.

خطوة الدبيبة هذه لاقت ردود فعل متباينة، بين من رحب بها، باعتبارها تساهم في ضخ دماء جديدة في الحكومة، وتلقي حجرا في مياه السياسة الراكدة منذ سنوات، وهناك من اعتبر أن ما سيقوم به الدبيبة يعد غير قانوني، باعتبار أن مجلس النواب الليبي قام بسحب الثقة من حكومته، وهو بالتالي غير مخول قانونا لاتخاذ مثل هذا الإجراء.

رغم الدعم الدولي المعلن تواجه الخطة الأممية تحديا كبيرا، يتمثل في مصالح الدول المتداخلة في الشأن الليبي، التي تجعل من نجاحها في الوقت الحالي أمرا مستبعدا

ولعل غياب الفريق أول محمد الحداد والفريق الفيتوري غريبيل آمر القوات البرية عن المشهد العسكري، قد يفسح المجال لإعادة ترتيب المؤسسة العسكرية، عبر تكليف رئيس جديد للأركان. ويتداول المراقبون ثلاثة مرشحين من غرب ليبيا لهذا المنصب، منهم الفريق أسامة الجويلي، آمر المنطقة العسكرية الغربية والمنحدر من قبيلة الزنتان المعروفة بدعمها للإطاحة بنظام القذافي، والفريق صلاح الدين النمروش، معاون رئيس الأركان العامة الحالي الذي ينحدر من مدينة الزاوية التي دعمت حكومة الوفاق السابقة ضد قوات المشير خليفة حفتر، والفريق أحمد بوشحمة، رئيس لجنة (5+5) عن غرب ليبيا وابن مدينة مصراتة التي ينحدر منها أيضا رئيس حكومة الوحدة الليبية عبد الحميد الدبيبة. وهذه الأسماء لا تشكل فقط خبرات مهنية في المؤسسة العسكرية، بل تشكل توازنات قبلية وجهوية في غرب ليبيا تحاول السلطة الحالية الاستفادة منها في دعم الاستقرار الهش في غرب البلاد.

وبعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عادت الولايات المتحدة لتلعب دورا كبيرا في الملف الليبي، عبر كبير مستشاريه للشؤون الأفريقية مسعد بولس، الذي نسق اجتماعا بين نائب القائد العام للجيش الوطني الليبي الفريق صدام حفتر، ومستشار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية للأمن القومي إبراهيم الدبيبة، في العاصمة الإيطالية روما، في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، حيث بحث الطرفان عدة قضايا أمنية وسياسية ومسائل تتعلق بقطاع النفط والغاز في البلاد.

أ.ف.ب
الفريق محمد الحداد، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الليبي، يلقي كلمة خلال حفل تخرج عسكري في العاصمة طرابلس، 23 يناير 2022

ليبيا، التي تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في قارة أفريقيا يصل إلى أكثر من 45 مليار برميل من النفط، تجعل الصراع الإقليمي أكثر حدة، على هذه الموارد، ويجعل الرغبة في الحصول على أكبر قدر من فرص الاستثمار الأجنبي في هذا القطاع من المكاسب التي تسعى الأطراف الداخلية والخارجية للحصول عليها سعيا لتحقيق مكاسب اقتصادية مشروعة وغير مشروعة في بعض الأحيان.

وخلال عام 2025، قتل عدد آخر من القادة الأمنيين والعسكريين في غرب ليبيا، ضمن صراع النفوذ وتضارب المصالح بين هولاء القادة، والمجموعات والحكومة الحالية، حيث قتل آمر جهاز دعم الاستقرار عبد الغني الككلي، والمشهور بغنيوة الككلي، في شهر مايو/أيار الماضي، لتشهد العاصمة الليبية اشتباكات عنيفة بين قوات حكومية وقوات مناوئة لها بقيادة قوات الردع الخاصة، التي تتمركز في قاعدة معيتيقة العسكرية في شرق طرابلس.

المشهد في ليبيا، لا يزال منقسما، رغم محاولة البعثة الأممية للدعم في ليبيا، عبر الخطة التي اقترحتها مبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة الخاصة هانا تيته، التي نظمت حوارا مهيكلا، غير ملزم لـمئة وعشرين شخصية ليبية، من ضمنهم ممثلون لمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.

الخطة الأممية كانت تتضمن قيام مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، اللذين يشكلان السلطة التشريعية في ليبيا، بتعديل القوانين الانتخابية، واستكمال تشكيل المفوضية العليا للانتخابات للذهاب للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة في ديسمبر/كانون الأول 2021.

ولكن رغم الدعم الدولي المعلن تواجه الخطة الأممية تحديا كبيرا، يتمثل في مصالح الدول المتداخلة في الشأن الليبي، التي تجعل من نجاحها في الوقت الحالي أمرا مستبعدا، مع وجود ملفات دولية أكثر حساسية وأولوية في السياق الإقليمي والدولي لهذه الدول.

تعيش ليبيا على وقع انقسام سياسي بدأ منذ عام 2014، بعد انتخاب مجلس النواب الليبي، ورفض المؤتمر الوطني العام الاعتراف بسلطة مجلس النواب

أما اقتصاديا، فلا يزال الوضع في ليبيا غير مستقر، في ظل انقسام سياسي أثر بشكل سلبي على كل المؤشرات الاقتصادية، رغم المحاولات التي دعمتها الولايات المتحدة لتوحيد الإنفاق العام، بعد اتفاق مجلسي النواب والأعلى للدولة. فقيمة العملة المحلية تشهد تدهورا ملحوظا من منتصف العام الجاري، حيث شهد سعر صرف الدينار الليبي تراجعا مقابل العملات الدولية، ليصل سعر الدولار الواحد إلى أكثر من 8 دينارات ليبية في السوق الموازية، وهو ما أثر على أوضاع المواطنين، ودفع بعض المواطنين للخروج في مظاهرات بمدينة مصراتة غرب ليبيا، منددة بالسياسات الاقتصادية لحكومة الوحدة الليبية، ومطالبة بتشكيل حكومة موحدة، تنهي حالة الانقسام السياسي في البلاد.

الوضع الاقتصادي تأثر أيضا، بحالات الفساد، التي جعلت ليبيا من بين أسوأ 10 دول على مؤشر مدركات الفساد العالمي في العام الحالي، وهو تحد من التحديات التي عطلت كل جهود التنمية، وعرقلت جهود الحل السياسي إضافة للتدخلات الخارجية، وأدت إلى وصف المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا اللبناني غسان سلامة، بأن ما يحدث في ليبيا هو أكبر من الفساد ويصل إلى حد هدر موارد الدولة الليبية.

أ.ب
وزير الداخلية التركي، علي يرليكايا يتحدث إلى وسائل الإعلام في موقع البحث عن حطام الطائرة الخاصة التي كانت تقل رئيس الأركان الليبي وأربعة آخرين، والتي تحطمت بعد إقلاعها من أنقرة، في 24 ديسمبر 2025

الأوضاع في ليبيا معقدة ومتداخلة، وتتطلب الكثير من الحكمة والتوازن، للوصول بالبلاد إلى محطة الاستقرار الدائم، وهذا يعني أن يقدم كل طرف من الأطراف الليبية بعض التنازلات، فيما يتوجب على الأطراف الدولية والإقليمية أن تقتنع بأن ليبيا موحدة وديمقراطية ومزدهرة، ستكون أكثر فائدة لها من أي حالة أخرى للبلاد، بسبب الإمكانات التي تمتلكها والفرص التي يمكن تخليقها من هذه البلاد.

وتعيش ليبيا على وقع انقسام سياسي بدأ منذ عام 2014، بعد انتخاب مجلس النواب الليبي، ورفض المؤتمر الوطني العام الاعتراف بسلطة مجلس النواب إلا بعد إجراء عملية تسليم السلطة في طرابلس، الأمر الذي رفضه مجلس النواب.

واليوم تتنافس حكومتان في ليبيا على السلطة، حكومة الوحدة الوطنية ومقرّها العاصمة طرابلس في غرب البلاد، والمعترف بها دوليا، بقيادة عبد الحميد الدبيبة، ومعها المجلس الأعلى للدولة، الذي تكون كخليفة للمؤتمر الوطني العام، والحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب، التي تتخذ من مدينة بنغازي أكبر مدينة ليبية في شرق البلاد، برئاسة أسامة حمّاد، حيث تسيطر قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر على شرق وجنوب البلاد.

ومنذ الإطاحة بنظام الرئيس معمر القذافي، عام 2011 تعيش ليبيا حالة من عدم الاستقرار، أدت إلى وجود قواعد وقوات عسكرية أجنبية تركية وإيطالية وروسية في غرب وشرق وجنوب البلاد.

font change