الانتخابات البلدية لعام 2025... هل هي بادرة أمل في ليبيا؟

رويترز
رويترز
ليبيون يحتفلون في الذكرى الأولى للثورة التي أطاحت بنظام معمر القذافي، في شوارع بنغازي، في 17 فبراير 2012

الانتخابات البلدية لعام 2025... هل هي بادرة أمل في ليبيا؟

لطالما تعرضت الانتخابات في ليبيا بعد العقيد معمر القذافي لكثير من الصعوبات، بدءا من أول اقتراع وطني جرى في يوليو/تموز 2012، بعد سبعة عشر شهرا من انطلاق الانتفاضة التي أطاحت بدكتاتورية القذافي.

حينها، أثار قرار تنظيم انتخابات وطنية في وقت مبكر من المرحلة الانتقالية جدلا واسعا. وفي نهاية المطاف، رأى المجلس الوطني الانتقالي، وهو الهيئة المؤقتة التي قادت الثورة في بداياتها، أن الخيار الأنسب للمضي قدما يتمثل في انتخاب "المؤتمر الوطني العام" ليتولى تنظيم انتخابات لاحقة تُفضي إلى تشكيل لجنة دستورية. وقد شكّل الانتقال من المجلس الوطني الانتقالي إلى المؤتمر الوطني العام المرة الأولى والوحيدة التي سلّمت فيها جهة ليبية السلطة بشكل طوعي.

ورغم ارتفاع نسبة المشاركة، التي تجاوزت 60 في المئة من الناخبين المؤهلين، والتنظيم الفني الجيد لعملية الاقتراع، فإن تعقيد النظام الانتخابي وضعف التوعية لدى الناخبين خلال انتخابات المؤتمر الوطني العام أفضيا إلى نتائج متباينة. وقد مثّل فوز ما يُعرف بـ"التحالف غير الإسلامي" مفاجأة لكثيرين، خصوصا أن الأحزاب والتيارات الإسلامية كانت قد حققت انتصارات انتخابية في دول الجوار بعد سقوط دكتاتورياتها. غير أن ميليشيات ذات توجه إسلامي في ليبيا سرعان ما حاصرت البرلمان وفرضت قانون "العزل السياسي"، الذي حال دون تولي المسؤولين السابقين في عهد القذافي مناصب رسمية جديدة. وقد عكست هذه الخطوة مدى تعقيد المشهد الليبي بعد الثورة.

كما أن ضعف فاعلية الحكومة الأولى، إلى جانب نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2014 التي أُحيطت بجدل واسع، مهّد الطريق لانقسام السلطة بين الشرق والغرب، وهو الانقسام الذي لا يزال يُشكّل السمة الأبرز في المشهد السياسي الليبي حتى اليوم.

ومنذ ذلك الحين، أصبح اختيار قادة ليبيا يجري عبر عمليات تقودها الأمم المتحدة، مما أتاح لقادة انتقاليين متعاقبين التحول إلى شخصيات دائمة في المشهد السياسي.

فعلى سبيل المثال، انتُخب عقيلة صالح عام 2014 لعضوية مجلس النواب بأقل من ألف صوت في دائرته الانتخابية الصغيرة، ثم تولى لاحقا رئاسة المجلس. وبعد أحد عشر عاما، لا يزال يحتفظ رسميا بمنصبه كأعلى سلطة سياسية في الشرق، رغم أن عائلة خليفة حفتر تملك السلطة الفعلية في تلك المنطقة.

رغم ورود بعض التقارير عن انتهاكات، فقد سارت العملية عموما بسلاسة، وأشادت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بما وصفته بـ"عملية انتخابية سلمية وشفافة"

أما في الغرب، فقد انتُخب رجل الأعمال عبد الحميد الدبيبة رئيسا للوزراء عبر 39 صوتا من أصل 75 في منتدى الحوار السياسي الليبي عام 2020. ومنذ ذلك الحين، بقي في منصبه، رغم أن التفويض الممنوح لحكومته المؤقتة كان من المفترض أن ينتهي بعد عام واحد فقط. وبالتالي، لا يملك لا صالح، ولا الدبيبة، ولا حفتر أي شرعية شعبية يُعتد بها، ومع ذلك فهم متمسكون بالسلطة من خلال مزيج من شبكات الفساد، والاستخدام الانتقائي والموجه للقوة، والاستعانة بداعمين أجانب.

وتكمن المعضلة الكبرى التي تواجه ليبيا في كيفية الانتقال من واقع تهيمن عليه نخب مترسخة قادرة على إفشال أي مسار انتخابي، إلى شكل من القيادة الشرعية التي تحظى بتأييد شعبي واسع. وقد تُشكّل الانتخابات المحلية مدخلا محوريا لحل هذه المعضلة.

الانتخابات البلدية

بعد سقوط نظام القذافي عام 2011، اعتمدت السلطات الانتقالية والمنتخبة إطارا قانونيا لتنظيم الإدارة المحلية، من خلال قانون رقم 59 لسنة 2012، بهدف إنشاء مجالس بلدية وإقليمية. وقد جرى تنظيم بعض الانتخابات البلدية بشكل غير منتظم بين عامي 2012 و2014، قبل أن تتوقف بسبب اندلاع هجمات مسلحة أدت إلى انقسام البرلمان المنتخب على المستوى الوطني إلى سلطتين متنافستين في الشرق والغرب.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة في 30 نوفمبر 2022

وفي عام 2018، استؤنفت العملية الانتخابية، لكنها ما لبثت أن توقفت من جديد نتيجة الهجمات التي شنتها قوات تابعة للشرق على طرابلس في عام 2019، ولم تُستأنف إلا بصورة متقطعة منذ ذلك الحين.

وقد تلقت الأنشطة الانتخابية وجهود بناء قدرات المجالس البلدية المنتخبة دعما من عدد من الجهات المانحة الدولية، من بينها الولايات المتحدة (قبل تفكيك وكالتها للتنمية الدولية)، والاتحاد الأوروبي، ووكالات تابعة للأمم المتحدة.

وقبل حدوث الانقسام على المستوى الوطني، أنشأت السلطات هيئتين منفصلتين لإدارة الانتخابات: المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، المكلّفة بالإشراف على الانتخابات الوطنية، واللجنة المركزية لانتخابات المجالس البلدية، المسؤولة عن تنظيم الانتخابات المحلية. وفي عام 2022، أقرّ البرلمان المتمركز في الشرق قانونا نقل بموجبه مسؤولية الانتخابات البلدية من اللجنة المركزية إلى المفوضية الوطنية العليا. ومع هذا التغيير، استُؤنفت العملية الانتخابية البلدية بشكل كامل، حيث نُظم أول "تجمع" انتخابي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، بعدما قرّر القائمون على العملية، لأسباب أمنية ولوجستية، إجراء الانتخابات المحلية على مراحل.

في ذلك الشهر، أُجري الاقتراع في 58 بلدية موزعة على مختلف أنحاء البلاد، ما أسفر عن انتخاب 426 ممثلا محليا، من بينهم أول امرأة تتولى منصب رئيسة بلدية في ليبيا.

ووفقا للبيان الرسمي الصادر عن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، بلغت نسبة المشاركة 77 في المئة من الناخبين المسجلين. وعلى الرغم من ورود بعض التقارير عن انتهاكات، لا سيما في بلدية الشويرف، فقد سارت العملية عموما بسلاسة، وأشادت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بما وصفته بـ"عملية انتخابية سلمية وشفافة".

التحدي الأكبر لا يزال يتمثل في تشكيل حكومة انتقالية وطنية جديدة. فقد اعتادت القوى المتمسكة بالوضع القائم إفشال أي مبادرة تسعى إلى التغيير

وفي الشهر الماضي، وبعد تأخيرات استمرت لأشهر، نُظمت الانتخابات في المجموعة الثانية التي تضم 63 بلدية، غير أن عمليات الاقتراع أُجريت فعليا في 34 بلدية فقط، جميعها تقع في غرب ليبيا.

وفي يوليو، علّقت المفوضية عمليات الاقتراع في 11 بلدية تقع في الشرق والجنوب، إضافة إلى بلديتين في الغرب، بسبب "اضطرابات" مرتبطة بتوزيع بطاقات الناخبين في تلك المناطق. وبعد فترة وجيزة، علّقت المفوضية الانتخابات في 16 بلدية إضافية، موضحة أن "الأجهزة الأمنية الخاضعة لحكومة [الشرق]" تلقّت تعليمات بعدم السماح بإجراء الاقتراع. وفي سبع بلديات أخرى، معظمها في محيط مدينة الزاوية، تأخرت الانتخابات أسبوعا لدواعٍ أمنية، لكنها أُنجزت في نهاية المطاف.

تجاوز تحدي الوضع القائم

لا تُعد الانتخابات البلدية جزءا رسميا من أحدث خطة انتقال سلمي للسلطة ترعاها الأمم المتحدة، والتي تركز على تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية على المستوى الوطني. ولكن، بعد مشاورات موسعة مع السكان، تضمنت الخطة الأخيرة، التي طرحتها هانا تيتيه، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة– وهي ثامن من يتولى هذا المنصب خلال أربعة عشر عاما– عدّة بنود، من بينها: إعادة هيكلة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، والاتفاق على قانون انتخابي معدل، بالإضافة إلى إطلاق حوار "منظم"، غامض الصياغة، يهدف إلى "تهيئة بيئة مناسبة للانتخابات".

أ.ف.ب
الناخبون الليبيون يدلون بأصواتهم في الانتخابات البلدية في أحد مراكز الاقتراع في طرابلس بتاريخ 16 أغسطس 2025

غير أن التحدي الأكبر لا يزال يتمثل في تشكيل حكومة انتقالية وطنية جديدة. فقد اعتادت القوى المتمسكة بالوضع القائم إفشال أي مبادرة تسعى إلى التغيير. وقد أخفقت جولات متكررة من المفاوضات السياسية بين مجلس النواب، الذي يترأسه عقيلة صالح، وممثلين سياسيين من غرب البلاد. كما أن عائلة خليفة حفتر، التي تزداد إحكاما للسيطرة على المنطقة الشرقية، دأبت على عرقلة أي تقدم سياسي.

في المقابل، يُعد الفساد الركيزة الأساسية التي يستند إليها عبد الحميد الدبيبة في ترسيخ سلطته. فعندما حاول في مايو/أيار الماضي إعادة تشكيل موازين القوى داخل الجماعات المسلحة بهدف تعزيز نفوذه، وصلت محاولته إلى طريق مسدود. وبعد جولة جديدة من الاشتباكات اندلعت الشهر الماضي، وبوساطة تركية، تمكّن الدبيبة من تعزيز موقعه عبر تقوية العناصر الأمنية الموالية له، ومن المرجح أن يسعى إلى مكافأة حلفائه، سواء ماديا أو بوسائل أخرى على الأرض.

وتُفضل الجهات الإقليمية بدورها الإبقاء على الوضع القائم. فقد دعمت مصر خليفة حفتر منذ ظهوره الأول عام 2014، بعدما قدّم نفسه كخصم للإسلاميين. كما أدّت روسيا دورا بارزا في دعمه، إذ تستخدم موسكو القواعد الجوية في شرق ليبيا لتدعم ما يُعرف بـ"فيلق أفريقيا" في منطقة الساحل ومناطق أخرى.

تشكل الانتخابات البلدية الناجحة التي شهدتها ليبيا في عامي 2024 و2025 بصيص أمل في مشهد سياسي قاتم

أما تركيا، التي تدخلت عسكريا ضد هجوم حفتر على طرابلس عام 2019 ما أدى إلى وقف إطلاق النار، فلا تزال داعما ثابتا لحكومة الوحدة الوطنية، رغم شروعها مؤخرا في تحسين علاقاتها مع السلطات في الشرق. وعلى الرغم من هذا التغير التدريجي في موقف أنقرة، الذي يستهدف بالدرجة الأولى عقد صفقات تجارية واتفاقيات في مجال الطاقة، يبقى من الصعب تصوّر أن القاهرة أو أنقرة ستدعمان تحولا سياسيا حقيقيا في ليبيا.

الانتخابات البلدية والزخم نحو التغيير

بالنظر إلى القيود القائمة، يُعد مجرد تنظيم المجموعة الثانية من الانتخابات البلدية مؤشرا مشجّعا في حد ذاته. ففي عدد من البلديات التي شهدت اقتراعا، بدأت المجالس المنتخبة تنفيذ مشاريع خدمية، بما في ذلك عبر تمويل خصصته حكومة طرابلس. وبمعنى آخر، شارك عدد كبير من الليبيين في تلك المناطق في اختيار ممثليهم المحليين، الذين باشروا بدورهم في تقديم الخدمات. ومن الناحية النظرية، يُشكّل ذلك خطوة أولى نحو حكم شرعي قائم على التمثيل المحلي.

ومع ذلك، تبرز في سياق الانتخابات البلدية مؤشرات مقلقة. ويتجلى ذلك في تصاعد مستويات العنف وزيادة حالات التعليق في المجموعة الثانية مقارنة بالمجموعة الأولى.

أ.ف.ب
القائد العسكري الليبي خليفة حفتر في مؤتمر حول إعادة إعمار ليبيا وتنميتها، في مدينة سبها جنوب ليبيا، في 5 سبتمبر 2024

ومن بين المؤشرات المثيرة للقلق أيضا، التغيير الطفيف الذي أدخلته المفوضية الوطنية العليا للانتخابات على معيار احتساب نسبة المشاركة، وهو ما تزامن مع تعديل في آلية تسجيل الناخبين. ففي الجولة الأولى، أعلنت المفوضية نسبة المشاركة استنادا إلى عدد الناخبين المؤهلين، بينما اعتمدت في المجموعة الثانية نسبة المشاركة من بين الناخبين المسجلين فقط، ما يشير إلى أن الإقبال في الجولة الثانية كان أقل بكثير مما بدا عليه في البيانات الرسمية.

وأخيرا، قد يثير النشاط المحلي المتصاعد مخاوف تتعلق بالوحدة الوطنية، إذ لا تعني المشاركة الواسعة في الانتخابات المحلية بالضرورة أنها تصب في مصلحة التماسك الوطني. فقد بادرت بعض المناطق إلى تنظيم انتخابات محلية بشكل عشوائي حتى قبل انتخابات المؤتمر الوطني العام في يوليو 2012، دون التقيد بإطار قانوني انتخابي معتمد. ورغم أن هذا الحماس للحكم المحلي يُعد مؤشرا واعدا، فإنه ينبغي أن يُشكّل عنصرا مكمّلا، وليس بديلا عن التوافق على إجراء انتخابات وطنية شاملة.

المضي قدما

تشكل الانتخابات البلدية الناجحة التي شهدتها ليبيا في عامي 2024 و2025 بصيص أمل في مشهد سياسي قاتم. وفي سياق خطة أممية جديدة وطموحة لإعادة توحيد البلاد، تُعد هذه الانتخابات مصدرا حقيقيا للتفاؤل.

غير أن هذا الأمل يجب أن يُرافقه قدر من الحذر. فقد أعلنت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عن نيتها تنظيم انتخابات لاختيار رؤساء بلديات في بعض المناطق، لكنها لم تُحدد مواعيد لذلك بعد. ومن المفترض أن تُنظم المجموعة الثالثة من الانتخابات البلدية في أكتوبر/تشرين الأول أو نوفمبر/تشرين الثاني، إلا أن المفوضية لا تزال في مرحلة التحضير.

من الضروري فضح المجموعات الداعمة لبقاء الوضع القائم التي تعمد إلى عرقلة إجراء الانتخابات المحلية والعمل على عزلها دبلوماسيا

وفي الوقت الذي تتابع فيه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تنفيذ خارطة الطريق نحو تشكيل حكومة انتقالية جديدة، تبرز أمام المرشحين فرصة لتجاوز النخب المترسخة في السلطة من خلال السعي إلى كسب الشرعية من المجتمعات المحلية.

وعلى الطامحين لتولي رئاسة الحكومة في المرحلة الانتقالية المقبلة أن يركّزوا أولا على أن يصبحوا رؤساء بلديات أو ممثلين محليين. وفي ظل سعي هانا تيتيه لتقليص نفوذ المفسدين ومعالجة قضايا رئيسة مثل معايير أهلية الترشح، والأمن، ومراقبة الانتخابات، فإن الاستمرار في إجراء الانتخابات البلدية وانتخابات رؤساء البلديات قد يُشكّل على الأقل مؤشرا على تحقيق بعض التقدم نحو شرعية سياسية حقيقية.

رويترز
متظاهرون يطالبون بإسقاط حكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في ميدان الشهداء بطرابلس، ليبيا 16 مايو 2025

ومن الضروري فضح المجموعات الداعمة لبقاء الوضع القائم التي تعمد إلى عرقلة إجراء الانتخابات المحلية والعمل على عزلها دبلوماسيا. وفي نهاية المطاف، ومع وجود عدد كافٍ من الليبيين المنتخبين محليا ممن يدفعون باتجاه التغيير على المستوى الوطني، ستتوافر فرصة أفضل لتحدي منظومة السلطة القائمة، مقارنة بأي محاولة تأتي من أعلى الهرم السياسي.

font change