ليبيا بين عهدين

من الكتاب الأخضر إلى الانقسام

رويترز
رويترز
ليبيون يحتفلون في الذكرى الأولى للثورة التي أطاحت بنظام معمر القذافي، في شوارع بنغازي، في 17 فبراير 2012

ليبيا بين عهدين

زرت ليبيا لأول مرة في حياتي عام 1994 بدعوة من جامعه طرابلس الغرب للبحث في إمكانية التعاقد معها بغية العمل في قسم المسرح بعد حصولي على شهادة الدكتوراة بالفنون المسرحية من أكاديمية غيتيس للفنون المسرحية بموسكو.

اتجهت بالطائره من موسكو إلى مالطا، وحجزت بطاقة سفر بالسفينة من مالطا إلى طرابلس الغرب، بعد أسبوع من وصولي مالطا، كان هدفي أن أستجم نوعا ما قبل الوصول إلى العاصمة الليبية.

مضى الأسبوع وكأنه يوم واحد. استمتعت كثيرا في مالطة إلى أن حان وقت التجمع العام في ساحة كبيرة شاهدنا من خلالها السفينة الضخمة التي ستبحر بنا إلى طرابلس الغرب.

في ذاك اليوم كانت الشمس حارقة للغاية وطلب منا رجل الأمن الليبي الانتظار ريثما تتم عملية إدخال عناصر الفرقة العسكرية الموسيقية الليبية إلى السفينة. استغرق الأمر وقتا طويلا، مما أدى إلى انزعاجي وسؤال رجل الأمن إلى متى سننتظر؟

نظر رجل الأمن إلي باستخفاف ولم يرد على سؤالي.

باغتني أحد الأشخاص وعرفت فيما بعد أنه لبناني من أصول فلسطينية يعمل في جامعه بنغازي، وقال لي: "إذا أردت أن تبدأ العمل في ليبيا وتستمر فعليك الانضباط والهدوء. لا تسأل... لا تنزعج... اهدأ".

بعد انتظار ممل سمح لنا بالدخول إلى السفينة، أظهرت بطاقة الحجز للمضيفة بهدف تعريفي بمكان مقعدي فقالت لي: "للأسف، ستضطر لأن تسافر معنا واقفا، ذلك أن عناصر الفرقة الموسيقية عددها كبير جدا وبالتالي وفرنا لها المقاعد ومن ضمنها مقعدك".

قلت في نفسي: "حتى إنها لم تعتذر"!

وبعد جهد جهيد وملل وصلت السفينة إلى شاطئ طرابلس الغرب، وكان في استقبالي أحد الأصدقاء "فيروز هزه" من الذين عملوا في ليبيا قبل 5 سنوات...

هو: أخبارك يا صديقي؟ لماذا يبدو الانزعاج على وجهك؟

أنا: لا يهم.

وحدثته عما جرى لي مع المضيفة. ضحك فيروز وقال: المهم وصلت بالسلامة والباقي تفاصيل ستتعود عليها.

أنا: كيف تقول لي ذلك؟ ألا يوجد نظام؟

من جديد ضحك فيروز، وقال: دعوت الليلة عددا من الأصدقاء على حفلة عشاء أقمتها في بيتي احتفالا بوصولك.

في صباح اليوم التالي، استيقظت باكرا وانتظرت خروج فيروز من غرفة نومة لكي نذهب معا إلى كلية المسرح جامعة طرابلس. بدأت أسال نفسي: ما الذي أتى بي إلى العاصمة الليبية؟ "المكتوب واضح من عنوانه"، قلت لنفسي.

الواحدة ظهرا خرج فيروز من غرفته. نظر إليّ وضحك ثم قال: "لماذا صحوت مبكرا؟ عليك أن تتعود أن لا أحد يعمل مبكرا في طرابلس، هيا بنا".

وصلنا قسم الشؤون الإدارية والتقينا برئيسه، قبل ذلك همس فيروز في أذني قائلا: "إنه– أي هذا المسؤول- مفتاحك لكل شيء في الجامعة وخارجها... كن لطيفا وحذرا في آن معا عند الحديث معه".

واكتشفت فيما بعد أنه يحمل شهادة الصف السادس الابتدائي، لكنه ينتمي إلى اللجان الثورية، وهو ذو شأن نظرا لأنه من قبيلة كبيرة قريبة من معمر القذافي.

عدت مع صديقي فيروز إلى بيته، وفي الطريق سألته هل أزعجتك يوما ما في عمر صداقتنا؟ لماذا أتيت بي إلى هنا؟

كعادته ضحك فيروز وقال: "تدريجيا ستتعود على كل شيء".

في اليوم التالي اتجهنا صوب الجامعة وتحديدا إلى إحدى القاعات فيها لمراقبة فحص الفصل الصيفي وكانت القاعة مكتظة بالطلاب.

وبعد ربع ساعة من بدء الامتحان سمعت أصوات وابل من الرصاص. هبط جميع من في القاعة تحت المقاعد الدراسية، في حين سألت صديقي الذي كان مبتسما "ما هذا؟ ما الذي يجري؟".

- "لا تقلق يا صديقي، ثمة مجموعة من قبيلة معينة أرادت إخافة أستاذ لأن هناك طالبا من القبيلة يقدم الامتحان في قاعة مماثلة لقاعتنا والهدف إخافته حتى يعطيه علامة النجاح بامتياز".

أُصبت حقيقة بالكآبة جراء الاستماع لكلمات صديقي الذي قال لي: "عليك أن لا توجه أي ملاحظة لأي طالب خلال الفصل الدراسي، لأنه ببساطه يمكن له أن يعطل سيارتك".

قلت له: "أفهم منك أن المبدأ هنا يشير إلى أن الطالب يصبح أستاذا والعكس صحيح".

"صحيح مئة في المئة. بدأت تفهم علي"، أجابني فيروز!!!

هنا بدأت أدرك أن سيادة القانون في ليبيا أمر بعيد المنال، وأن اللجان الثورية فوق كل شيء، وأن المحسوبية تعتبر الأساس في التعامل مع الرموز الحكومية.

بدأت أدرك أن سيادة القانون في ليبيا أمر بعيد المنال، وأن اللجان الثورية فوق كل شيء

مضى شهر كامل على إقامتي، واتجهت إلى كلية المسرح لأبدأ الدرس الأول مع طلابي وكان عددهم 18 طالبا.

دخلت القاعة وإذا بي ألاحظ أن الجميع ومن خلال وجوههم أكبر مني سنا.

بسخرية خفيفة سألتهم: "يا أولادي لماذا أنتم في الصف الأول الجامعي؟".

أحدهم قال لي: "نحن نريد علاوة في الوظيفة، ولا بد لنا من الحصول على الشهادة الجامعية".

من جديد سألتهم: "ولماذا اخترتم المسرح تحديدا؟".

فأجابني الشخص نفسه: "الحصول على شهادة من كلية المسرح أسهل شيء يا دكتور".

خرجت من القاعة واتجهت إلى عميد الجامعة وقدمت استقالتي وأدركت في حينه أن منطق اللادولة يؤثر سلبا على كل شيء.

قراءة الكتاب الأخضر

خلال شهر استطعت قراءة الكتاب الأخضر للقذافي. يوميا وعندما كنت أتمشى بعد المغرب، لاحظت أن صفحات الكتاب موزعة تباعا على أعمده الكهرباء في الطرقات العامة.

عرفت أن القذافي من خلال كتابه كرس أفكارا أسماها "النظرية العالمية الثالثة". وأدركت أن الكتاب يعتبر الدستور غير الرسمي لليبيا، خاصة وأن القذافي اعتبر من خلال كتابه أنه (قائد الثورة) وليس رئيس الدولة وحرص دائما على أن لا يذكر بلقب رسمي سوى الأخ القائد.

وفي العاصمة الليبية اكتشفت أن شخصية القذافي تجمع بين الكاريزما والغرابة، وتظهر استخدامة اللغة المسرحية في خطاباته المطولة والارتجالية، وكان يحرص على إبراز صورتة أمام جماهيره، واعتبر نفسه رمزا أمميا، لا زعيما محليا، ورأى نفسه مفكرا عالميا وصاحب رسالة تتجاوز ليبيا، ما دعاني لقول "القذافي والنرجسية السياسية"!

عمليا، كان القذافي منذ 1969 يقرر كل شيء، أي سعى إلى تكريس نفسه كزعيم مطلق بالرغم من حديثه في كتابه الأخضر عن سلطة الشعب، كما تولد لديه هوس البقاء في السلطة بالرغم من سياساته الغامضة والمتقلبة.

عرفت أن القذافي من خلال كتابه كرس أفكارا أسماها "النظرية العالمية الثالثة". وأدركت أن الكتاب يعتبر الدستور غير الرسمي لليبيا

عدت إلى موسكو خائبا جدا، بسبب رحلتي الفاشلة إلى ليبيا، التي لم أرجع إليها إلا في عام 2010 عندما أوفدتني قناة "الحرة" إلى مدينة سرت الليبية لتغطية القمة العربية، وهناك راقبت بدقة خطاب القذافي وطريقة جلوسه أمام الزعماء العرب.

في سرت وخلال القمة، أقامت الوفود الإعلامية في سفينة ضخمة خصصت لبعض الوفود الرسمية والإعلاميين.

وبالطبع فإن الليل يتيح المجال لكثير من الإعلاميين الكلام عن القذافي وعن ليبيا، ومنه- أي الكلام- أن السلطة في ليبيا مركزة بيد القذافي حصرا، والكلام هنا عن المؤتمرات الشعبية واللجان الثورية وحكم الشعب بالشعب ومن أجل الشعب، ما هو إلا للتصدير الداخلي والخارجي، وثمة إجماع بين من استمعت إليهم أنه لم تكن هناك أحزاب سياسية ولا انتخابات حرة في ليبيا، وكان العمل الحزبي محظورا ويعاقب عليه القانون. كما تحدث البعض عن سيطرة جهاز الأمن الداخلي واللجان الثورية على الحياة العامة، وأن المراقبة والاعتقالات التعسفية وخصوصا ضد المعارضين تصدرت المشهد الليبي في السنوات الأخيرة.

في سرت وطرابلس الغرب لاحظت أن مظاهر الفقر والبطالة واسعة بالرغم من الدخل المرتفع في الخزينة الليبية جراء عائدات النفط الذي تستحوذ عليه في الغالب عائلة القذافي وأقاربه. فمن المعروف أن أبناءه (سيف الإسلام والمعتصم والساعدي) أصبحوا رموزا للنفوذ المالي والسياسي، ما خلق تناقضا مع الكتاب الأخضر للقذافي والذي يؤكد فيه على سلطة الشعب. وهذا يؤكد أقوال بعض المعارضين للقذافي بأنه يتمتع بالازدواجية والجمع بين الفكر الثوري التحرري في الخطاب والممارسة السلطوية الصارمة على الأرض، ناهيك عن الارتياب إذ كان يشك في الجميع، بما في ذلك المقربون منه، مما جعله يعتمد على دائرة ضيقة.

رويترز
متظاهرون يطالبون بإسقاط حكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في ميدان الشهداء بطرابلس، ليبيا 16 مايو 2025

باختصار فإن شخصية القذافي كانت استثنائية ومتناقضة في الوقت نفسه بين الكاريزما الثورية والميل إلى الزعامة الفردية المطلقة.

هذه هي بعض من الملامح عن ليبيا وعن عهد القذافي الذي استمر 41 عاما منذ انقلابه العسكري 1969.

امتلكت ليبيا ثروة مالية هائلة بسبب النفط، كان لديها احتياطات نفطية هائلة واعتمد اقتصادها بشكل خاص على النفط والغاز بينما كانت الزراعة والصناعة ضعيفتين.

طبعا قرأت واستمعت إلى الأحاديث من قبل ليبيين وغيرهم، بأن الفساد وسوء توزيع الثروة شكلا علامة فارقة في حياة عائلة القذافي وأقاربه.

وفي مقابل ذلك، عرف عنه القمع الشديد لمعارضيه، وأبلغ دليل على ذلك ما سمي مجزرة سجن أبو سليم عام 1996 حيث قتل أكثر من 1200 سجين سياسي من معارضي القذافي.

في مقابل ذلك عانت نسبة شبابية كبيرة من البطالة وغياب الحرية وفرص المشاركة في الحياة العملية... وبالرغم من مجانية التعليم والرعاية الصحية، فان جوده الخدمات كانت متدهورة ناهيك عن البنية التحتية خارج المدن التي كانت مهترئة.

حصلت المرأة الليبية على بعض الحقوق ولكن دورها ظل محدودا فعليا في السياسة والمجتمع.

أما ما يتعلق بعلاقات ليبيا الخارجية، فقد تأثرت سلبيا جراء العزلة الدولية (1988- 2000) بسبب دعم القذافي لحركات مسلحة واتهامة بالإرهاب (قضية لوكيربي) وطرأ عليها- أي العزلة- تحسن تدريجي بعد 2003 إثر تخلي القذافي عن برنامج الأسلحة غير التقليدية، وبدأ بإصلاح العلاقات مع الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية إلى جانب علاقات أفريقية قوية، وحاول القذافي أن يصبح ملك ملوك أفريقيا مقابل تمويله لمشاريع ضخمة في القارة الأفريقية.

سعي القذافي إلى تحسين صورتة أمام الغرب لم ينفعه بشيء، فقد هبت رياح التغيير داخل البلد المغلق في 2011، فاتجه الليبيون إلى الساحات والأماكن العامة للتعبير عن سخطهم وتنديدهم بنظام القذافي الذي قابل حركات الاحتجاج ضده بالسخرية منها تارة، وبالقمع تارة أخرى، لكن الثابت أن نظام القذافي كان في طريقه نحو الهاوية فقُتل في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 2011 بالقرب من مدينة سرت، وكان ذلك إيذانا بنهاية "الجماهيرية العربية الليبية" وعهد القذافي على ليبيا، بعد أن هرب في أغسطس/آب مع عائلته من العاصمة الليبية التي سقطت بيد "المجلس الوطني الانتقالي"، الأمر الذي دعا المراقبين إلى التساؤل بخصوص السقوط السريع لنظام أرعب ليبيا بالكامل.

النظام الهش

وصلت إلى طرابلس الغرب عشية سقوط باب العزيزية في 23 أغسطس 2011 وهي قاعدة تقع في الضاحية الجنوبية لطرابلس وكانت بمثابة القاعدة الرئيسة للقذافي.

بدأت اتصالاتي مع شخصيات عديدة ومتنوعة، وحصلت من خلال اتصالاتي تدريجيا على سر سقوط نظام القذافي، واتضح أن النظام كان هشا من الداخل في ظل غياب شبه مطلق للمؤسسات الحقيقية بعد أن فكك القذافي الدولة على مدى عقود (لا برلمان، لا أحزاب، ولا قضاء مستقلا). والسلطة كانت متركزة بالكامل في شخصه، لذلك انهار كل شيء بمجرد سقوطه، ولأن الدولة لم تكن قائمة على مؤسسات بل على الزعيم.

باختصار انهارت "أسطوره القائد" ودخلت ليبيا عهدا جديدا.

نفذت خلال وجودي في طرابلس وسرت العشرات من الريبورتاجات لقناة "الحرة"،  والتي عرف العالم من خلالها كيف عاشت عائلات ليبية تحت خط الفقر، واتجهت إلى سجن أبو سليم ومعي سجناء تحرروا بعد سقوط باب العزيزية، ورووا لي حكايات عن أساليب القمع البربرية. كما اجتمعت مع فنانين يعزفون على الغيتار، وكان ذلك ممنوعا قبل السقوط، ناهيك عن الرسامين الذين امتلأت جدران الشوارع الرئيسة في طرابلس بأعمالهم الفنية.

فرحة عارمة في الشوارع وعيون بدأت تنظر إلى الأفق البعيد وملؤها الأمل بغدٍ أفضل.

عهد جديد

دخلت ليبيا بعد سقوط القذافي في مرحلة طويلة ومعقدة من التحول السياسي والانقسام والصراع المسلح. ونستطيع تقسيمها إلى مراحل عدة، بدأت بالفوضى بعد ما سمي "الثورة".

سريعا تم إجراء انتخابات المؤتمر الوطني العام 2012، ولم يتح للمسؤولين الجدد إمكانية بسط السيطرة المركزية نتيجة تهالك مؤسسات الدولة وكثرة الميليشيات المسلحة.

Reuters/Kate Dourian
معمر القذافي داخل خيمته البدوية

وسريعا بدأت الخلافات القبلية والمناطقية تتصاعد خصوصا بين الشرق (برقة) والغرب (طرابلس ومصراتة).

عام 2014 شهدت ليبيا انتخابات جديدة لتشكيل مجلس النواب في طبرق شرقي البلاد مما دفع القوى السياسية الإسلامية في طرابلس إلى رفض نتائج الانتخابات. وحدث ما لا تحمد عقباه ألا وهو انقسام البلاد إلى حكومتين وبرلمانين: حكومة طرابلس المدعومة من الغرب وميليشيات "فجر ليبيا"، وحكومة طبرق المدعومة من الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفه حفتر، ومهد ما جرى لنشوب حرب أهلية واسعة بين الطرفين، الأمر الذي أدى إلى تدخل سريع من قبل قوى إقليمية ودولية.

وباتت التغطيات الإعلامية للأحداث الملتهبة في ليبيا صعبة للغاية،  خاصة بعد الهجوم الواسع والكبير الذي شنته قوات حفتر على طرابلس. وهنا تدخلت تركيا عسكريا لدعم حكومة الوفاق الوطني (المعترف بها دوليا)، ما أجبر قوات حفتر على التراجع، ودخلت الأمم المتحدة على خط الأزمة الناشبة وأعلن في عام 2021 عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة بهدف توحيد المؤسسات والتحضير للانتخابات،  لكن الانتخابات التي كان من المفترض إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول 2021 فشلت بسبب الخلافات بخصوص القوانين الانتخابية، والمرشحين (ومنهم سيف الإسلام القذافي وحفتر والدبيبة).

سريعا بدأت الخلافات القبلية والمناطقية تتصاعد خصوصا بين الشرق (برقة) والغرب (طرابلس ومصراتة)

وسريعا بدأت الخلافات القبلية والمناطقية تتصاعد خصوصا بين الشرق (برقة) والغرب (طرابلس ومصراتة).

وبات الانقسام في الحكومة سيد المشهد الليبي العام بين حكومة الدبيبة التي تستند إلى اعتراف دولي بها وحكومة الشرق بزعامة أسامة حماد.

نهاية عام 2023 اتجهت إلى العاصمة طرابلس للمشاركة في مؤتمر إعلامي، وقد لاحظت الانتشار الكثيف للميليشيات العسكرية ناهيك عن الفوضى في المشهد العام بالعاصمة من حيث السير وحركة السيارات وإطلاق الأعيرة النارية بين الحين والآخر.

وفي أعمال المؤتمر لاحظت أن الجميع بالاستثناء يتكلم بشكل لائق يعبر عن أمله في مستقبل جيد لليبيا، ناهيك عن الدعوة إلى لمّ الشمل ووقف الانقسامات بين الغرب والشرق، وبين الفصائل القبلية والمناطقية المختلفة، لكن كل هذه الشعارات تتبخر بعد أن يجتمع مسؤول كل طرف في الغرف الخاصة ووراء الكواليس ويقررون العودة إلى استخدام السلاح من جديد، بينما آمال الشعب الليبي بعد خلاصه من حكم القذافي ترتطم بعوائق جدية تفرضها لغة السلاح التي لا تزال ترسم معالم المشهد الليبي.

وحتى يومنا هذا لم تنفع الوساطات الداخلية والإقليمية والدولية في وضع حد للانقسامات بين صفوف الحكومة والجيش والبنك المركزي الليبي.

أ.ف.ب
مقاتلو المجلس الوطني الانتقالي الليبي يحتفلون بسقوط آخر معقل لنظام القذافي في مدينة سرت الساحلية في 20 أكتوبر 2011

وإلى الآن تعاني ليبيا من تدهور في الخدمات العامة وخاصة في الكهرباء والوقود والتعليم والصحة، ناهيك عن تنامي نفوذ الميليشيات في الغرب والشرق، وكأن ليبيا عادت إلى مرحلة اللا دولة والتي تشبه تماما ما كان يقوم به ويمارسه القذافي خلال فترة حكمه التي دامت أكثر من أربعين عاما، وكل ما يجري في ليبيا ما بعد القذافي يعكس صراعا جديا وعنيفا حول النفط وكيفية توزيع العائدات.

ومقارنة بسنوات الحرب ثمة استقرار نسبي أمني واقتصادي في طرابلس وبنغازي.

اللافت في المشهد الليبي أن الانتخابات لا تزال مؤجلة بانتظار توافق وطني، لكن على الأغلب لا بد من وساطات إقليمية ودولية وخصوصا ما يتعلق بالقوانين والدستور.

والملاحظ في الفترات الأخيرة أن هناك فئات من الليبيين تعبر عن حنين إلى فترة حكم معمر القذافي. لكن، بالطبع، هذا الحنين ليس عاما، ولا يشمل كل شرائح المجتمع بل يتنوع حسب الخلفيات الاجتماعية والمناطق والظروف التي عاشها الشعب بعد 2011.

وبلغة التفاصيل، فإن الكثير من الليبيين العاديين الذين يعيشون في المناطق الريفية والجنوبية يرون أن الأمن والاستقرار والرواتب والخدمات في عهد القذافي كانت أفضل مما هي عليه اليوم ويرددون: "على الأقل كنا نعيش بأمان بالرغم من الاستبداد".

وإذا تكلمنا بلغة واقعية، فإن كل هؤلاء الناس لا يعني دفاعهم عن النظام السابق بالضرورة، اتفاقهم معه، بل يعبرون عن الاستقرار النسبي.

وثمه مجموعات منظمة تسمى "أنصار الجماهيرية" (نسبة إلى ثورة الفاتح من سبتمبر/أيلول عام 1969) لا تزال تنظم فعاليات ونشاطات على وسائل التواصل الاجتماعي في مدن سرت وبني وليد وسبها، وبعض مناطق الجنوب، وتدعو إلى عودة "الشرعية الجماهيرية" أو تمكين سيف الإسلام القذافي سياسيا بغية ترشحه مستقبلا.

وللعلم، فإن قبائل مثل القذاذفة والمقارحة لديها ارتباطات تاريخية واجتماعية بعائلة القذافي.

في مقابل ذلك، فإن شريحة واسعة من الليبيين وخصوصا الشباب الذين شاركوا فيما سمي "ثوره 17 فبراير"، يرون أن النظام السابق كان قمعيا واحتكاريا للسلطة والثروة، ويرفضون بشدة فكرة عودة "النظام الجماهيري" ويعتبرون أن القذافي هو من أسس الاستبداد الذي أوصل البلاد إلى الزلزال الكبير عام 2011.

شريحة واسعة من الليبيين وخصوصا الشباب الذين شاركوا فيما سمي "ثوره 17 فبراير"، يرون أن النظام السابق كان قمعيا واحتكاريا للسلطة والثروة، ويرفضون بشدة فكرة عودة "النظام الجماهيري"

وثمة من يخشى أن يؤدي الحنين للماضي إلى إعادة إنتاج الديكتاتورية بدلا من بناء دولة حديثة، لكن من الطبيعي أن نعرف أن الحنين للماضي هو بمثابة رد فعل على حالة الإحباط والفوضى التي أعقبت الثورة، وفي هذا الإطار يتم التركيز على شخصية سيف الإسلام القذافي كرمز لهذا "التيار الحنيني".

وقد حاول الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2021 لكن تم استبعاده قانونيا بسبب مذكرات توقيف صادرة من المحكمة الجنائية الدولية. على أنه لا يزال يتمتع بدعم قبلي وشعبي في بعض المناطق خاصه إذا فشلت النخب السياسية الحالية في توحيد ليبيا.

لم تسدل بعد ستارة العهد الجديد الذي بدأ 2011 ولا يزال مستمرا إلى يومنا هذا. في هذا الإطار لا بد من القول إن الأبواب في ليبيا مفتوحة على جميع الاحتمالات.

font change

مقالات ذات صلة