السينما والترفيه السعودي... قوة اقتصادية ناعمة

استثمارات مهمة لتحفيز الاقتصاد وجذب السياح والارتقاء بالثقافة والفنون

أندي بوتس
أندي بوتس

السينما والترفيه السعودي... قوة اقتصادية ناعمة

قبل سنوات قليلة، لم يكن قطاع الترفيه يحظى بأهمية تُذكر في السعودية، وكانت المدن تفتقر إلى دور السينما ومراكز الترويح. كانت أنشطة إنتاج الأفلام السينمائية المحلية وتسجيل الأغاني وتصويرها محدودة، كما اقتصر الحضور الثقافي على مهرجانات قليلة، أبرزها مهرجان الجنادرية الذي كان ينظم سنويا.

تأسست الهيئة العامة للترفيه في مايو/أيار 2016 وأنيطت بها كل النشاطات ذات الصلة بالترفيه والاحتفالات. توافقت أهداف الهيئة مع أهداف "رؤية 2030"، من ضمنها تحسين جودة الحياة وتنويع مصادر الدخل الوطني وتفعيل الأنشطة الثقافية الفنية والرياضية والعروض المسرحية والحفلات الموسيقية. ومن الأهداف أيضا، جعل السعودية مركزا سياحيا جاذبا على المستوى العالمي. بناء عليه، انطلقت مواسم ثقافية وترفيهية في المدن الرئيسة مثل الرياض ومدن المنطقة الشرقية وجدة. وهناك أيضا مواسم خاصة بالمناسبات كشهر رمضان والأعياد.

لا يقتصر دور الترفيه على توفير أجواء ممتعة للمواطنين والمقيمين، بل يهدف أيضا إلى أن يكون قطاعا اقتصاديا مساهما في الناتج المحلي الإجمالي وقادرا على إتاحة فرص عمل للمواطنين.

تطور قطاع السينما في السعودية

قبل سنوات، كانت السعودية تخلو من دور عرض الأفلام السينمائية، مما دفع السعوديين المهتمين بمشاهدة السينما إلى السفر نحو دول مجاورة. أما اليوم، فقد تغيّر المشهد تماما، إذ بات لدى المملكة 66 دارا للعرض تضم 618 شاشة موزعة على أكثر من 20 مدينة. وصارت هذه الدور رافدا مهما لمنتجي الأفلام المحليين والعرب، خصوصا المصريين، حيث تمثل لهم أحد أهم مصادر الإيرادات.

تمكنت السينما السعودية من تحقيق إنجاز كبير خلال الشهور الأولى من عام 2025، حيث تجاوزت إيرادات الأفلام المحلية حاجز الـ 100 مليون ريال سعودي، ما يعادل 27 مليون دولار

أصبح جمهور السينما في السعودية اليوم الأهم على مستوى العالم العربي، حيث يحظى المنتجون وصنّاع السينما العرب باهتمام متزايد من القائمين على قطاع الترفيه في المملكة. وتمثل المهرجانات السينمائية، وفي مقدمتها مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، فرصة ثمينة للمنتجين العرب لعرض أعمالهم، والفوز بالجوائز، والوصول إلى النقاد ومتذوقي السينما. كما أن التطور التقني أتاح إمكانات متقدمة في مجالي الإنتاج والعرض، وهو ما وظفته السعودية عبر مؤسساتها المتخصصة لتمكين المواطنين والمقيمين من متابعة أحدث الأفلام العربية والعالمية بعد بدء عرضها في دولها الأصلية. وقد ترسخت في المملكة مهرجانات سينمائية باتت بمثابة مؤسسات دائمة، من أبرزها: مؤسسة "مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي"، منتدى الأفلام السعودي، مهرجان أفلام السعودية، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.

الارتقاء بالإنتاج السينمائي

تمكنت السينما السعودية من تحقيق إنجاز كبير خلال الشهور الأولى من عام 2025، حيث تجاوزت إيرادات الأفلام المحلية حاجز الـ 100 مليون ريال سعودي، ما يعادل 27 مليون دولار. تتطرق هذه الأفلام إلى قضايا اجتماعية حيوية تهم الشباب والنساء، وتعكس التحولات الاجتماعية والسياسية غير المسبوقة التي يشهدها المجتمع.

ديانا استيفانيا روبيو

ولا يقتصر دور السينما في السعودية على عرض الأفلام المحلية فقط، على الرغم من النجاح اللافت لهذه الأفلام. فمنذ افتتاح أول دار للعرض السينمائي في عام 2018 حتى عام 2023، بلغت إيراداتها الإجمالية 3  مليارات ريال (نحو 800 مليون دولار). وخلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 وحده، حققت دور السينما إيرادات فاقت 322 مليون ريال (نحو 85 مليون دولار).

وتخطط المملكة لبناء 350 دارا جديدة للعرض السينمائي في حلول عام 2030، وذلك ضمن جهودها الرامية لتطوير قطاع السينما.

تؤكد "رؤية 2030" الارتقاء بالإنتاج السينمائي من خلال الشراكات مع مؤسسات عالمية لإنتاج أفلام نوعية تلبي تطلعات الجمهور المحلي والعربي والعالمي

وتؤكد "رؤية 2030" الارتقاء بالإنتاج السينمائي من خلال الشراكات مع مؤسسات عالمية لإنتاج أفلام نوعية تلبي تطلعات الجمهور المحلي والعربي والعالمي.

أندي بوتس

ولتعزيز مكانتها كوجهة رائدة للإنتاج السينمائي، أتاحت المملكة إمكان التصوير داخل أراضيها، حيث يقدم قطاع الترفيه تسهيلات وحوافز جذابة. هذه المبادرات تمنح السعودية ميزة تنافسية كبيرة مقارنة بالعديد من الدول التي سبقتها في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك، تتميز المملكة بمواقع تصوير طبيعية مميزة، مما يجعلها وجهة مثالية للمنتجين الذين يسعون لإنتاج أفلام تعتمد على المناظر الطبيعية النادرة.

تجاوز العقبات الثقافية

ومع تجاوز العقبات الثقافية، باتت المسلسلات السعودية ذات قيمة فنية عالية خلال السنوات الأخيرة. فقد حقق قطاع الترفيه في السعودية نتائج ملحوظة على صعد متعددة، حيث تشير البيانات الرسمية المتوافرة حتى عام 2022 إلى نمو كبير في القوى العاملة. ففي عام 2022، وصل عدد العاملين في قطاع الفنون والترفيه إلى 20,655 فردا، منهم 4,517 سعوديا و16,138 من غير السعوديين.

اللافت أن أعداد النساء السعوديات العاملات في هذا القطاع كانت مرتفعة بوضوح، حيث بلغت 6,075 سعودية، في مقابل 2,041 من غير السعوديات. تؤكد هذه الأرقام التطور الإيجابي في المجتمع السعودي وإمكان تجاوز المعوقات الثقافية التي كانت تحول دون انخراط النساء في هذا المجال سابقا.

ترتكز استراتيجيا الترفيه في السعودية على الربط بين الترفيه والسياحة، بهدف جعل المملكة وجهة سياحية عالمية، وذلك من خلال دعم قطاع السياحة عبر توفير مجموعة متنوعة من الأنشطة الترفيهية الجذابة

كما شهدت الدراما السعودية نقلة نوعية في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت المسلسلات المحلية تتناول قضايا اجتماعية وسياسية مهمة، مثل دور المرأة، والتعليم، والأمن، والتطرف الديني، بالإضافة إلى استعراض مسيرة البلاد المعاصرة خلال العقود المنصرمة منذ بداية عصر النفط. تحظى هذه الأعمال بنسبة مشاهدة عالية في دول الخليج والعديد من الدول العربية الأخرى.

أ.ب.
الملاكمان في الوزن الثقيل، من اليسار البريطاني تايسون فيوري، والأوكراني ألكسندر أوسيك، يقفان على المسرح قبل النزال في الرياض، السعودية، الجمعة 17 مايو 2024

وفي خطوة استراتيجية لدعم هذه الصناعة، أعلن رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه، المستشار تركي آل الشيخ، رؤية طموحة للمرحلة المقبلة في قطاعي السينما والتلفزيون. وأشار إلى دعم الهيئة، بالتعاون مع موسم الرياض، لعمليات الإنتاج في استوديوهات "بيغ تايم" (BIG Time) وصندوق "بيغ تايم" للأفلام، بهدف تعزيز صناعة الترفيه المحلية وتمكينها من المنافسة على المستوى العالمي.

الترفيه والسياحة مساران متلازمان

ترتكز استراتيجيا الترفيه في السعودية على الربط بين الترفيه والسياحة، بهدف جعل المملكة وجهة سياحية عالمية، وذلك من خلال دعم قطاع السياحة عبر توفير مجموعة متنوعة من الأنشطة الترفيهية الجذابة. وقد ساهمت المهرجانات، والفاعليات، والمواسم الترفيهية، في جذب السياح من مختلف أنحاء العالم، لا سيما من دول الخليج المجاورة.

تستهدف "رؤية 2030" الوصول بعدد السياح في المملكة إلى 100 مليون سائح سنويا، من الداخل والخارج. ولكن مع الانتعاش اللافت لأنشطة الترفيه والنمو الكبير في أعداد السياح خلال السنوات القليلة المنصرمة، رفعت المملكة مستهدفها السياحي إلى 150 مليون سائح سنويا في حلول عام 2030.

خصصت الحكومة السعودية استثمارات ضخمة لقطاع الترفيه، بلغت 267 مليار ريال (نحو 71,2 مليار دولار)، بهدف تطوير البنية التحتية والمشاريع الحيوية. ويُعدّ مشروع "القدية" بالقرب من الرياض أحد أبرز هذه المشاريع، حيث يمثل وجهة ترفيهية ورياضية متكاملة.

يتطلب تحقيق هذه الأهداف الارتقاء المستمر بقطاع الترفيه، وتحفيز المواطنين للانخراط في هذا المجال، بالإضافة إلى تطوير المعاهد المتخصصة في الفنون والاستفادة من التجارب العالمية الناجحة.

استثمارات مهمة

خصصت الحكومة السعودية استثمارات ضخمة لقطاع الترفيه، بلغت 267 مليار ريال (نحو 71,2 مليار دولار)، بهدف تطوير البنية التحتية والمشاريع الحيوية. ويُعدّ مشروع "القدية" بالقرب من الرياض أحد أبرز هذه المشاريع، حيث يمثل وجهة ترفيهية ورياضية متكاملة.

إلى جانب المشاريع الكبرى، تنفق هذه الاستثمارات على دعم الفاعليات الترفيهية والمهرجانات والمعارض. وقد عززت الهيئة العامة للترفيه القدرات التنظيمية والتشريعية في القطاع، مما مكن المبادرات الخاصة من الاستفادة من هذه المخصصات وتوظيفها في مشاريع تعود بالنفع على البلاد.

رويترز
مدينة القدية الترفيهية، 28 أبريل 2018

يتمثل التحدي الاقتصادي للقطاع في زيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات المقبلة، إلى جانب تعزيز دور المواطنين في الأعمال الفنية والترفيهية. وتستهدف "رؤية 2030" وصول مساهمة قطاع الترفيه والأنشطة المرتبطة به إلى 4,2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن السعوديين ينفقون سنويا ما يزيد على 740  مليار ريال (نحو 197 مليار دولار) على السياحة الخارجية. ولذلك، فإن تطوير قطاع الترفيه المحلي سيعيد توجيه جزء كبير من هذه الأموال لصالح الاقتصاد الوطني والاستهلاك الداخلي.

font change