قصة صراع كونديرا المرير مع الترجمة وأهلها

نشرت أعماله بالفرنسية قبل لغتها الأصلية

Getty Images
Getty Images
ميلان كونديرا، عام 1982 في باريس.

قصة صراع كونديرا المرير مع الترجمة وأهلها

جرت العادة أن يُنجِز مترجم العمل الأدبي عمله ثم يتوارى مثلَ جنديٍّ مجهول على هامش أمجاد المؤلّف وصيتِه. لكن مهلا، أليس المترجم مؤلّفا شريكا هو الآخر حسب ما ترى دراسات معرفية ونقدية راهنة، أليست كلماته تلك التي نقرأُها في الأعمال المترجمة؟ أليست قرارته واختياراته هي التي تأتي إلينا بوديعة المؤلّف؟ مع ذلك، قلّما يخطر في بال القارئ أنّ الكلمات التي يقرأها هي الكلمات التي انتقاها بعناية مترجمٌ قابعٌ في الظلّ يفكّ رموز المجازات وشفرات الخرائط الثقافية أكثر مما قد تكون الكلمات نفسها التي أراد مؤلّف العمل المُترجَم قولها.

يعيد رحيل ميلان كونديرا، الروائي التشيكي الأعظم بعد مواطنه كافكا، إحياء هذا التساؤل الإبستمولوجي. وبصرف النظر عمّا قد يُفضي إليه تساؤلٌ كهذا من إجابات وسجالات، يظلّ من الصعب القفز على حقيقة أننا لولا الجسور التي شيّدها المترجمون عبر تاريخ البشرية لما تيسّرت قراءاتنا لدُرَر الإبداع الإنساني منذ بواكير الأبجديات البشرية. وربما يحوزُ هذا التوكيد مسوّغ المصداقية عند النظر إلى واقع أنّ جُلَّ ما قرأه العالم من أدب مؤلّفٍ بقامة كونديرا إنّما جاء مُتَرجَما عن الفرنسية، على الأقل قبل أن يبدأ كونديرا الكتابة بالفرنسية أواخر ثمانينات القرن الماضي. لكنَّ المفارقة أنّ الترجمة لطالما كانت مشكلة كُبرى بالنسبة إلى كونديرا الذي عكف بنفسه منذ عام 1985 على مراجعة جميع أعماله المترجمة إلى الفرنسية بدافع شعوره بأنّ الترجمة"تجعل أسلوبه يبدو سطحيا"، وهذا على حدّ تعبيره في دراسته التي قدّمها في قالب روائي بعنوان "الوصايا المغدورة" والتي يقول فيها "لا بدّ من أن يكون الأسلوب الشخصي للمؤلّف هو السلطة العليا بالنسبة إلى المترجم، لكن مترجمين عديدين يخضعون لسلطة أخرى: سلطة الأسلوب الشائع ’للّغة الفرنسية الجميلة’ أو ’الألمانية الجميلة’ أو ’الإنكليزية الجميلة’ إلخ، عن طريق معرفتهم باللغة التي تعلّموها في الثانوية".

في كتابها البحثي الصادر سنة 2006، الذي أنجزت نصفه الأول في قاعة المحفوظات في المكتبة الوطنية في براغ، "حيثُ يجلس في إحدى الزوايا الكاتبُ الحقيقي الذي أسبغ عليه كونديرا اسما مستعارا هو فولتير في روايته "كتاب الضحك والنسيان"، وحيث نسخةٌ من الترجمة الفرنسية للرواية ممهورة بختم الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، تلفت الباحثة في الترجمة الأدبية بجامعة دبلن ميشيل وودز في دراستها المعمّقة عن علاقة كونديرا الإشكالية بالترجمة والمترجمين إلى أنّ الترجمة سابقة على الأصل في حالة أدب كونديرا وهي أصلٌ في حد ذاتها. وتنطلق وودز في بحثها من مُفارقَتَيْ موقف كونديرا الإشكالي من ترجمة أعماله ومترجميها، وأنّ معظم رواياته صدَرَت أولى طبعاتها باللغة الفرنسية ولم تصدُر بالتشيكية التي كُتِبَت بها (كان كونديرا يسميها مصفوفات)، بل بقيت حبيسة الأدراج ولم ينشُرها بلغته الأم إلّا بعد سنواتٍ من صدور ترجماتها الفرنسية، وهذه الروايات هي: "الحياة في مكان آخر" (1973)، و"فالس الوداع" (1976)، و"كتاب الضحك والنسيان" (1979)، و"كائن لا تحتمل خفته"(1984)، و"الخلود"(1991).

لا بدّ من أن يكون الأسلوب الشخصي للمؤلّف هو السلطة العليا بالنسبة إلى المترجم، لكن مترجمين عديدين يخضعون لسلطة أخرى: سلطة الأسلوب الشائع 'للّغة الفرنسية الجميلة' أو 'الألمانية الجميلة' أو 'الإنكليزية الجميلة'

ميلان كونديرا

أمّا النصف الثاني من بحث وودز فقد أنجزته في الولايات المتحدة الأميركية وتحديدا في مراجعة أرشيفين لأعمال كونديرا هما أرشيف بيتر كوسّي، مترجم كونديرا إلى الإنكليزية، وأرشيف نانسي نيكولاس، إحدى محرّراته لدى دار"ألفريدنوف" للنشر، حيث عكفت وودز على قراءة المراسلات بين كونديرا ومترجمِه ومحرّرته في مسعى للوقوف على تفاصيل العلاقة التي اتّسمت بانتقاد كونديرا الدائم لمترجِمه ومحرّرته واتهامهما، أسوة بغيرهم من مترجميه، بالرضوخ لسلطة الأعراف السائدة على حدّ تعبيره.

غيرَ أنّ من اللافت ما تكشفه وودز بقولها إنّ ما تبيّن لها من هذه المراسلات هو السلطة التي تمتّع بها الناشر في عملية اتخاذ القرار المتعلقة بالترجمة، سواء لناحية اختيار المترجم أو لفرض التفضيلات التحريرية على الترجمة بتحريرها لأغراض تسويقية بحتة، دون أن يكون كونديرا – الذي يصبّ جام غضبه على المترجم- على دراية بذلك، والغاية، بحسب وودز، تطويع النص لاعتبارات السوق والمقروئية الغربِيَيْن، لا سيّما وأن أسلوبية كونديرا في نصّه الخام، إن جاز القول، لا تلبّي تماما توقعات هذه السوق، ولأنّ عين الناشر الغربي كانت في الأصل على المحتوى السياسي لنص كونديرا لا على فنّيات أسلوبه بحسب ما تذهب إليه وودز مُستعينة بأدوات نظرية الترجمة في زمن ما بعد الاستعمار وبالتوظيف السياسي للترجمة مشيرة إلى شُحِّ الدراسات المعنية بالجوانب الجمالية واللغوية في أدب كونديرا بالمقارنة مع ما تصفه بالهوس بالمحتوى الأيديولوجي لأعماله.    

 المتحذلق الغضوب!

يقول جوزِف برودسكي إن ما يجمع بين الترجمة والرقابة أنّ كلاهما يعمل على أساس مبدأ "الممكن"، منوّها إلى أنّ الحواجز اللغوية قد تكون أحيانا بمستوى ارتفاع الحواجز التي تنصبها الدولة. على المنوال نفسه، يقول كونديرا في إحدى مقابلاته الصحافية إن الترجمة كابوس بالنسبة إليه مضيفا أنّها تسبّبت له بالصدمة، وليس هذا سوى غيض من فيض التصريحات والتعليقات التي يصوّب فيها كونديرا سهام نقده على الترجمة والمترجِمين، مما حدا بالكثير منهم إلى إطلاق لقب "المتحذلق الغضوب" عليه، في إشارةٍ إلى رغبته في "السيطرة على التأويل" وإلحاحه غير المفهوم على أن تكون الترجمات مطابقة من ناحية الأسلوب والمحتوى لما في ذِهنِه وخياله وحده!

AFP
كتب الروائي التشيكي معروضة في مكتبة ميلان كونديرا في برنو، جمهورية التشيك في 6 أبريل/ نيسان 2023.

غير أن وودز تبحث في ما وراء هذه الخصومة من خلال رصدها لما تكشف عنه رسالةٌ مفتوحة نشرها كونديرا في مُلحق "ذي تايمز" الأدبي بُعيدَ نشر الترجمة الإنكليزية لروايته "المزحة" من ناحية خصوصية العلاقة التي ربَطتهُ بمسألة الترجمة والنشر ومرارتها وهو الذي مارس مهنة الترجمة في الفترة ما بين أربعينات وخميسينات القرن العشرين حين نقل إلى اللغة التيشيكية – وبدرجةٍ عاليةٍ من التصرُّف – وهنا مكمن المفارقة، أشعارا عالمية تُمجّد قيم الاشتراكية، ولا بدّ أنه أدرك في تجربته تلك تأثير الترجمة ودورها التصرُّفيّ، إذ تنقل وودز عن كونديرا قوله إن "الترجمة هي كلّ شيء بالنسبة إليّ" مضيفا أنّ ترجمة روايته الأولى التي سُحِبَت جنسيته على إثرها تركت صدمة عميقة في نفسه لأنّ آليات الرقابة والتدخّل التي انطوت عليها لم تختلف من حيث الغاية عن "رقابة جماعة موسكو" على حدّ تعبيره، ولأنّ الناشر الغربي تصرّف "انطلاقا من أجندة" مثله مثل الناقد التشيكوسلوفاكي، والكلام لكونديرا.

 

الترجمة فرصة لإعادة الكتابة

على أنّ كونديرا وبكلّ التوجّس والخصومة اللذينِ ظلّا يعتملان في نفسه إزاء الترجمة، وجد فيها (من خلال تنقيحها بنفسه) فرصة لإعادة كتابة أعماله. فلكونديرا نحو 56 طبعة من سِتّ روايات (باختلافات في الطبعات) وثماني طبعات مختلفة لثلاثة دواوين شعرية، هذه الأرقام في حد ذاتها هي التي أثارت فضول ميشيل وودز إزاء هوس كونديرا، إذ تلفت النظر على سبيل المثال إلى أنها رصدت اختلافات نصيّة بين الترجمة الفرنسية الصادرة عام 1979 لرواية "كتاب الضحك والنسيان"بتوقيع المترجم فرانسوا كيرلوتلك الصادرة في عام 1987 بعد تنقيح كونديرا لها، وهذا ما انسحب بدوره على الترجمات الإنكليزية اللاحقة التي استندت إلى نسخة عام 1987 الفرنسية. واللافت أن كونديرا نفسه، بحسب ما تقول وودز في كتابها،عدَّ الترجمة الفرنسية التي نقّحها بنفسه وترجمتَها الإنكليزية بمثابة نصّين أصليَّين لرواية "كتاب الضحك والنسيان" دون أن يكون هناك أصلٌ تشيكي للرواية! أردتُ أن أعرف السبب، تقول وودز مشدّدة على تجاهل النقد الغربي لأسلوب كونديرا ولافتة إلى أنّ الكثير من المعنى يكمن في الشكل مثلما هو في المضمون، فأسلوب كونديرا جزءٌ من معنى ما يكتب، وبالتالي، يُستدلُّ على مركزية الشكل في نصّ كونديرا خلال تعقُّبِ تدخّلاته وتعديلاته في نصوص الترجمات الفرنسية التي راجَعها بنفسه، إذ تكشف وودز من خلال بحثٍ تفصيلي عن أن السمة الغالبة على تدخّلات كونديرا كانت في فرضِ نسقٍ خاص من علامات الترقيم أقرب إلى النسق المتّبَع في اللغة التشيكية، هذا أولا، وضبط مفرداتٍ بعينها لطالما اعتقد كونديرا أنها من المفردات العصيّة على الترجمة ومنها كلمة ليتوست.

اللافت أن كونديرا نفسه، بحسب ما تقول وودز في كتابها، عدَّ الترجمة الفرنسية التي نقّحها بنفسه وترجمتَها الإنكليزية بمثابة نصّين أصليَّين لرواية "كتاب الضحك والنسيان" دون أن يكون هناك أصلٌ تشيكي للرواية!

يبدو أن كونديرا كان يُدرك في قرارة أعماقه استحالة الترجمة، ولعلّ هذا ما أراد قوله في أحد فصول روايته "كتاب الضحك والنسيان" التي يُفرِد جزءها الخامس لطرح هذه المسألة تحت عنوان ليتوست lítost، وهي كلمة تشيكية تتكرّر في نصوصه ويتعذّرُ إيجاد مقابلٍ لها بكلمة واحدة في اللغات الأخرى وقد اعتاد كونديرا اقتفاءها في الترجمات المختلفة متذمِّرا من إخفاق المترجمين في التعامل معها، إذ عمد بعضهم إلى ترجمتها بكلمات مختلفة في النص الواحد نفسه كما تنقل وودز عن كونديرا، فتارة تُتَرجم بالأسى وتارة بالرأفة وتارة بالشفقة دونما أيّ اتساق. لربما يبيّن هذا بعضا من أسباب قلق كونديرا إزاء ترجمة أعماله وخشيته من أنّ المترجمين كانوا يفرّطون بأسلوبيته وبالكثير من جماليّاتها لصالح الأنماط اللغوية المُنمذَجة في ثقافاتهم، ومن ثمّ يقظته الرقابية الدائمة لرصد ترجماتِه، وهي التي تشبّهها وودز بالرقابة المعكوسة، لافتة بذكاء إلىأنّ كونديرا الذي قضى نصف حياته الأول تحت حُكم الشيوعيين حيث الرقابة الصارمة على الفضاء العام والخطاب الثقافي، يمارس رقابة مشابهة في تنقيحه لترجمة أعماله وفي علاقته الأقرب إلى التسلّطية مع مترجِميه وناشريه. فحين يكتب مؤلّف عن الحياة والحب والسياسة والجماليات في بيئةٍ تكتسي فيها الكلمات أهمية خاصة لدرجة أن سوء الفهم يغدو فكرة مركزية في الرواية وكذلك مسألة الدقة والصواب، وحين يكرّس كاتبٌ بأهمية كونديرا كل ذلك الوقت والجهد للإشراف على ترجمة أعماله بينما لا يني يُذكّرُنا باستحالة الترجمة، فإنّ الأمر يتجاوز مجرّد بساطة العلاقة الثنائية بين مؤلّفٍ ومُترجم أو الثلاثية التي يضاف فيها الناشر إلى هذه العلاقة.   

Getty Images
ميلان كونديرا وزوجته، باريس 1990.

بعد أن ترسّخت مكانة كونديرا بين الروائيين الأكثر مبيعا في العالم، ربح أخيرا معركته الطويلة مع دور النشر لتَتَّسِع سلطاته التحريرية التي راح "يُسيء استعمالها" وفق تعبير فينوتي في مقالته الشهيرة "فضائح الترجمة" وذلك من خلال السماح بوجود أكثر من أصلٍ للعمل الواحد ومن خلال استغلال مراجعة الترجمة لإعادة كتابة أجزاء من أعماله الناجزة. إلّا أنّ المفاجأة التي تُلقي بها وودز وهي على مشارف نهاية كتابها تخلط أوراق القارئ بنحوٍ صادم. إذ لم يكن كونديرا الوحيد الذي تدخّل في ترجمة أعماله، فقد سبقه آخرون منهم نابوكوف وجيمس جويس الذي تدخّل في الترجمة الإيطالة لروايته "يقظة فينيغان"، التي تنقل وودز عن أمبرتو إيكو (الذي كان مترجما هو الآخر) قوله "إنّ أفضل طريقةٍ لفهما تبدأ من قراءة ترجمتها الإيطالية، ربّما لأنّ رؤية النص وقد أُعيدَ التفكير فيه بلغةٍ أخرى قد تكشف دينامياته العميقة..". ثمّة ما يكشف عن تدخُّلٍ ثأريّ للمؤلّف كأنما لإنكار الترجمة وكأنها خطيئة، أوليست الخيانة أقرب الكنايات إليها؟ لا يمكن الجزم بالنوايا، كما أنّ الوقت فات على سؤال كونديرا نفسه عن ذلك، لكن لحُسنِ حظّنا، أو لسوئه ربما، ثمة وقتٌ كافٍ لنسأل أنفسنا، أيُّ كونديرا قرأنا في العربية، التشيكي أم الفرنسي أم العربي؟    

font change

مقالات ذات صلة