كونديرا الذي عاش لكي يقتفي أثر الغياب

المعرفة مستحيلة واليقين وهم

AFP
AFP
مكتبة ميلان كونديرا، وهي جزء من مكتبة مورافيا في برنو، جمهورية التشيك.

كونديرا الذي عاش لكي يقتفي أثر الغياب

الرواية وفق الروائي التشيكي ميلان كونديرا الذي فارق عالمنا الأربعاء 12 يوليو/ تموز 2023 عن 94 عاما لا يمكن أن تُروى. بالنسبة إليه هذا هو الشرط الأساسي الذي يجعل من كتلة كتابية ما عملا روائيا، وقد طبّق هذا المفهوم على حياته الخاصة كذلك، متملّصا من كل محاولات رصدها وتدقيقها مردّدا عبارة فلوبير "يجب على الفنان أن يجعل الأجيال القادمة تعتقد أنه لم يعش أبدا". كذلك كان يرسم خريطة قضم العيش الذي تمارسه الأنظمة الشمولية والديمقراطيات على حد سواء قائلا: "في البلدان الشمولية تدمّر الشرطة الحياة الشخصية للأفراد وفي البلاد الديمقراطية يتكفّل الصحافيون بذلك".

دافع كونديرا عن حياته الشخصية والفنية بالغياب. فكان أكثر كاتب معروف ومجهول في الوقت نفسه، إذ أن الرواج الكبير لرواياته وتحوّلها إلى ظاهرة ثقافية عالمية لم يترافق مع معالم سيريّة واضحة، بل بقيت سيرته دائما نهبا لمحاولات تأويل عديدة وشاقة وغيرمجدية.

وقد علّق كونديرا ذات مرّة على الانتشار الواسع لرواياته باعتباره "وصل إلى العالمية على ظهر حمار سوء الفهم"، داعيا كل من يحاول اكتشاف حياته الشخصية وتحديد معالم عريضة لسيرته إلى قراءة رواياته، فالروائيّ يعكس ذاته وسيرته في الرواية. لذا لم تكن تلك الدعوة إلى قراءة الروايات لتقصّي ملامح السيرة سوى إضفاء لمزيد من الغموض على تلك الملامح، أو ربما طلب يائس للبحث عنه في سياق المفهوم الذي بنى عليه عالمه الروائي أي الغياب.

لا يني كونديرا في كل أعماله يكرّر صيغة الغياب التي يعدّها أصلا تنتج عنه أشكال الوجود والفن والسياسة والتاريخ، متحدثا عن الضحك الناتج عن غياب الضحك، والإثارة الناجمة عن غياب ما يثير والحنين إلى الأوطان الناتج عن جهل الغريب لما يجري في ربوع وطنه. يخترق الغياب عالم كونديرا الروائي منذ روايته الأولى "المزحة" الصادرة عام 1967 حتى روايته الأخيرة "حفلة التفاهة " الصادرة عام 2014. وفي كل رواية يتقمّص وجوها عديدة، ويرصد تحولات واضطرابات ويرسم ملامح عوالم الذاكرة والنسيان وهي تتشظّى، مخترعا في رحلته الطويلة تعريفات ومفاهيم التصق في الأذهان منها توصيفه المكثّف لأحوال عالمنا المعاصر المستقى من اللفظة الألمانية "الكيتش" والتي يمكن اختصارها وفق مقاصد كونديرا بأنها تعني التفاهة المحكمة والواثقة من نفسها والتي تشكّل المظهر الرئيسي لوجود كان على الدوام غير قابل للاحتمال، ولكن أحدا لم يرد الاعتراف بذلك على نحو حاسم.

ثنائيات الغياب

عمل كونديرا على مجموعة من الثنائيات المتناقضة وحرص على رصدها دائما في لحظة هروبها التي لا يبقي منها سوى ما يمكن التقاطه من آثار عابرة لا تسمح بتشكيل تاريخ أو تكوين وقائع ثابتة وواضحة وحين يغدو كل شيء تأويلا واختلاقا. فالرواية تلتقط العابر بكل ألعابه وإحالاته وتستنطقه بأدواتها الخاصة، إنها لا ترصد سيرة ولا تاريخا ولا تهتم بالحدث ولا بالسرد بل ترصد حكاية اصطدام كل هذه العناصر واختلاطها الذي لا يسمح لأي منها ان يكون قائما بذاته، ولكن من خلال شكل علاقة معقد ومتشابك، لطالما كان المرجع الذي يستقي منه كونديرا سؤاله الروائي الملحّ الذي يطرح إشكالية الغياب وأنماط التقاطه المختلفة والتي تجعل فكرة اليقين أو الاكتمال، وفق وجهة نظره، نوعا من الاعتداء على الوجود واصرارا على إشاحة النظر عنه.

لطالما ارتبط أي معلم يقيني وفق رؤيته، بصرف النظرعن مجال توظيفه، ببثّ العماء والامتناع المقصود عن سبر العالم.

علّق كونديرا ذات مرّة على الانتشار الواسع لرواياته باعتباره "وصل إلى العالمية على ظهر حمار سوء الفهم"، داعيا كل من يحاول اكتشاف حياته الشخصية وتحديد معالم عريضة لسيرته إلى قراءة رواياته

وقد ظهرت ثنائيات ع.ديدة في مسيرة كونديرا وجعلت من أعماله سياقا متصلا على الرغم من اختلاف الإحالات والأمزجة، ولعل الفكرة التي تقول إن كلّ مبدع يلاحق في حياته شاء أم أبى ثيمة واحدة يروي من خلالها قصته، تبدو صحيحة بالنظر إلى السيرورة الروائية لكونديرا الذي لم يكفّ خلالها عن اقتفاء أثر الأفكار والبلاد والعواطف والسياسات وأحوال الذاكرة والجسد في عبورها الدائم وتدفّقها المستمر وانعدام تمركزها. إنه عمليا مقتفي آثار يعلم أن الوصول مستحيل فيقرر الإقامة عند حدود الاثر وتلمّسه وقراءته وتفسيرة، وبذلك كان يكتب عن عالم قيد التلاشي وهو لم يفعل سوى أنه صوّر معالم التلاشي جاعلا من كتابته نفسها عنوانا لها وجزءا منها. عناوين كتبه تشهد على ذلك "المزحة"، "الضحك والنسيان"، "الحياة في مكان آخر"، الخلود"، فالس الوداع". كلّ هذه العناوين ليست سوى دراسة مستمرة لما لا يستقر ولما لا يمكن النظر إليه إلا بعد أن يكون قد تلاشى.

 

 البطء والسرعة والعري العاري

 في رواية "البطء" تجري قصتا حب في توقيتين مختلفين، أحدهما في القرن الثامن عشر حيث يسود البطء بينما تحدث الأخرى في العصر الحديث حيث تسود السرعة لكنّ كلا منهما لا يستطيع تأكيد انتمائه إلى حيز زمني ومكاني معين، ولا النطق باسم أبطال القصة، ولا تأسيس قراءة تاريخية حول الحب والجسد. بطء القصة الأولى الذي يشي باحتمال الحصول على لذّة صافية يتفجّر في اكتشاف صاحبها أنه لم يكن سوى معبر تمرّ منه علاقة الماركيز غير الشرعية وغير المعلنة بعشيقته، وبذلك فإن اللذة البطيئة والممتلئة لتلك الليلة تتفجّر بحضور الألم الذي يعتبره أبيقور الحاضر بفلسفته في الرواية نافيا للذة، محدّدا أنها لا تكون ممكنة سوى في انتفاء الألم.

بما أن تلك اللذة شهدت صراعا في كل جانب من جوانبها، سواء عبر عملية المراودة والإغواء وصولا إلى تحقّق هدفها، الذي يليه تبدّدها في سيادة الألم الناتج عن الاصطدام بواقع استحالة تكرارها وغيابها، فإنها لا تستطيع الاحتفاظ بوهجها على الإطلاق، بل تتشظّى وتصبح كلها كتلة عذاب خالص يشمل حتى لحظة تذكرها، وهكذا تنتفي بالكامل.

AFP
صورة التقطت في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 تظهر الكاتب الفرنسي التشيكي المولد ميلان كونديرا في براغ.

في القصة الموازية التي تحدث في المكان نفسه إنما في عصرنا الحالي الذي يجد ترميزه وفق كونديرا في عدم قدرة الجسد على حمل المعاني في السياسة كما في الحب "أرى أمامي وأخيرا عريا عاريا لا يرمز إلى شيء، لا يرمز إلى الحرية ولا إلى البذاءة، إنه عري مجرّد من أي معنى، عري عار نقي وساحر". وكان قد أشار في الرواية إلى طقوس العري التي كان يمارسها اليساريون الألمان في سبعينات القرن العشرين، احتجاجا على كل شيء، متسائلا عن القيمة التي يمكن تحميلها لهذا العري والمضامين التي تنطلق منه وتبنى من خلاله، والتي يرى أنها لا تتجاوزه على الإطلاق، وأنه كان تعبيرا عن الرغبة في صدم الجمهور وإخافته. يلتقي ذلك المشهد مع ذلك الوعي بالمسرحة التامة التي تمثل روح قصة حب تجري في عصر السرعة: "إنهما لا يمارسان طقوس العربدة بل يقدّمان عرضا مسرحيا ولا يريد الكوميديون أثناء عرضهم أن تلتقي أعينهم أعين الجمهور".

في عالم البطء تذوي اللذة بتحوّلها إلى ألم، وباستنتاج البطل أنه كان يلعب دورا في مسرحية من دون أن يعرف، وفي السرعة تتحوّل العلاقة إلى استعراض يقدّم من أجل الآخرين ويفترض نجاحه تجنّب الانتباه إلى الذات وإليهم، فيكون عمليا قد انتهى في لحظة حدوثه. عالم السرعة هو عالم تجنّب الأحاسيس والتذكّر، وعالم البطء هو عالم يراكم الوعد بديمومة اللذة قبل أن ينفجر ماحيا كل إمكانية لتحقّقها ومحوّلا فعل التذكّر إلى تجربة في الألم.

 

ليتوست الضحك والنسيان

يشير كونديرا في رواية "الضحك والنسيان" إلى مفردة الليتوست التشيكية التي لا يوجد مقابل لها في اللغات الأخرى، معتبرا أنها تعني "العذاب الناتج عن مشهد بؤسنا الخاص المنكشف فجأة". يسرد مثلا مستقى من طفولة طالب قائلا: "كان أبواه يلقنانه دروسا في الكمان وكان ضعيف الموهبة، فأوقفه الأستاذ بصوت بارد وقاس منبها إياه إلى بعض الأخطاء فشعر بالإهانة وانتابته الرغبة في البكاء. لكن عوض الحرص على العزف بشكل سليم وعدم ارتكاب الأخطاء، مضى يخطئ عمدا، فنزل عليه صوت الأستاذ أشدّ وأبرد وأقسى، مما جعله يغرق أكثر فأكثر في ليتوسته".

تصنع حركة الليتوست التاريخ فحين يكون الطرف الآخر أضعف منا نجد طريقة للإساة إليه ما يصنع النوع الشائع في العلاقات العاطفية والزوجية، أما حين يكون أقوى منا فإننا، مثلما يؤكّد كونديرا، نغتاله عن طريق الانتحار، ويطلق على هذه الطريقة تسمية البطولة.

الليتوست هو منبع التطرّف العاطفي والثورات اليائسة وسيرة محاربة الأقوى من دون أمل في النصر. فما شهدته براغ عام 1968 حين غزتها الدبابات الروسية من شعارات تصرّ على النصر الكامل ورفض المساومة كان نوعا من الحرب بالانتحار الكامل والشامل شهدناها تتكرّر في كثير من العواصم، وكان هذا السلوك ياخذ طابعا شعائريا يسبغ عليه مسحة من القداسة. الراديكالية الرومانسية والشمولية التي وسمت انكشاف ليتوستنا الخاص كانت تتطلّب مجزرة جماعية تطال كل شيء، ولكنها تجعل الضحايا يقيمون في النسيان في مشهد لا يحمل في واقعه سوى الضحك.

من هذه المعادلة ينشيء كونديرا مفارقته ونقده القاسي للغزو السوفييتي لبراغ ولطريقة مواجهته في الآن نفسه، فهو يرفض الغزو والانتحار في مواجهته، معتبرا في سخرية قاسية أن كلا منهما يستدعي الآخر وينتجه.

تأخذنا الرواية، في المشهد الافتتاحي، إلى شهر فبراير/ شباط 1948، حين وقف الزعيم كليمان غوتوالد يخطب في الجماهير من على شرفة قصر من قصور براغ التي تعود إلى العصر الباروكي، وكان يقف إلى جانبه كليمانتس الذي لاحظ أن الزعيم عاري الرأس في هذا الطقس البارد، فما كان منه إلا أن نزع قبعته المصنوعة من الفرو وغطى بها رأس الزعيم، صانعا بذلك الصورة الأشهر في تاريخ البلاد والتي طبعت منها مئات آلاف النسخ. بعد ذلك الحدث بسنوات أربع اتُّهم كليمانتس بالخيانة وأُعدم وذهب مع الصورة إلى النسيان التام، وصار الزعيم يقف وحيدا ولم يبق منه سوى قبعته التي تشهد على المحو التام لأثره.

لعل الفكرة التي تقول إن كل مبدع يلاحق في حياته ثيمة واحدة يروي من خلالها قصته، تبدو صحيحة بالنظر إلى السيرورة الروائية لكونديرا الذي لم يكفّ خلالها عن اقتفاء أثر الأفكار والبلاد والعواطف والسياسات وأحوال الذاكرة

في هذا المشهد يتولّد الضحك من النسيان مباشرة. فعملية محو الأثر تحوّل تلك الصورة الأشهر التي كانت محلّ تبجيل والتي فرض نسيانها ومحوها إلى عنوان للضحك. القبعة الباقية تستحضر جثة صاحبها بعد إعدامه وتجعله معلقا على الدوام في فضاء المشهد يختلج ويموت ليعود من جديد إلى حالة الاختلاج الكاريكاتورية التي تجعله ينبثق من القبعة الباقية كضحك يتم عبر النسيان.

النسيان هنا هو تحوير ونزع للصفات الأصلية وصبّها في مجال الضحك. ذلك التملق الأقصى الذي كان في لحظة ما مقدّسا والذي جعل من تغطية رأس الزعيم بقبعة فعلا أيقونيا ينتج عن غياب صاحبه ذاكرة معكوسة تصنع ضحكا لا ينتهي، يرى كونديرا أن ذلك التلازم الذي يجمعه بالنسيان يمكن أن يشكّل درسا لا غنى عنه في فهم حركة التاريخ وسيرورته.

 

الخفة والثقل والمعرفة المستحيلة

تنزل مطرقة نيتشة الثقيلة على رأس القارئ مباشرة مع أول سطور رواية "كائن لا تحتمل خفته" مع فكرة العود الأبدي، حيث سيتكرّر كل شيء وسيتكرّر التكرار إلى ما لا نهاية، فكيف يمكن ساعتئذ الحكم على الأشياء وهل ستبقى محتفظة بصفاتها أم أن ذلك العود سيكسبها ثقلا لا يحتمل؟ التكرار يفكّك الفرادة ويترك الأحداث تحضر من دون أن تتمتع بأسباب تخفيفية: "لو قدر للثورة الفرنسية أن تتكرّر باستمرار لكان المؤرّخون الفرنسيون أقلّ فخرا بروبسبيير، ولكن هناك فرقا شاسعا بين روبسيير الذي لم يظهر سوى مرة واحدة في التاريخ وروبسبيير الذي يعود بشكل دائم ليقطع رؤوس الفرنسيين".

REUTERS
صورة ميلان كونديرا تظهر بين كتبه في نافذة متجر في براغ، جمهورية التشيك، 12 يوليو/ تموز 2023.

انعدام التكرار الذي تمثله حياتنا التي تنبثق مرّة واحدة قبل أن تذوي، يتيح المصالحة مع الفظاعات، لا بل تحويلها إلى مادة للحنين تفتح من خلالها مقبرة جماعية يُدفن فيها الحس الأخلاقي والجرائم: "منذ زمن غير بعيد فاجأني شعور غير معقول، كنت أتصفّح كتابا عن هتلر فوجدت نفسي مأخوذا أمام بعض صوره. ذكّرتني بزمن طفولتي التي عشتها خلال الحرب. كثيرون من أفراد عائلتي لاقوا حتفهم في معسكرات اعتقال نازية، ولكن ما أهمية موتهم أمام صورة هتلر التي ذكّرتني بزمن من حياتي، بزمن  لن يعود. هذه المصالحة مع هتلر تفضح عمق الشذوذ الأخلاقي الملازم لعالم مبني أساسا على انعدام العودة. ذلك أن كل شيء في هذا العالم مغتفر سلفا وكل شيء مسموح به بوقاحة".

توماس الشخصية الأبرز في الروية، أو الحالة إذا ما حاولنا الاقتراب من مفاهيم كونديرا، قد صمّم حياته لتكون مجالا للخفّة وطاردة للثقل والتكرار. كان يطلق على الدوام صرخة تقول: "مرة واحدة لا تحتسب، مرة واحدة هي أبدا" كما يقول المثل الألماني. وكان يحرص على جعل حياته تمثيلا لما لا يمكن احتسابه والذي يتجلّى وكأنه لم يحدث على الإطلاق. كان أكثر ما يخشاه أن يجد نفسه واقعا في دائرة الالتزام والارتباط. حرص دائما على الطيران وعلى إقامة شبكة واسعة من العلاقات، لكن دخول تيريزا التي تعود دائما في ظل وجود سابينا التي لا تكفّ عن الفرار، مزّق حياته ووضعه في حالة استحالة المعرفة، ففي كل مرّة يتبنى فيها الخفة فإنه يكون حرا بقدر ما يجد نفسه في دوامة من التفاهة، وعندما يحاول الركون إلى الثقل يجد نفسه أمام المسؤولية والواقع.

انعدام التكرار الذي تمثله حياتنا التي تنبثق مرّة واحدة قبل أن تذوي، يتيح المصالحة مع الفظاعات، لا بل تحويلها إلى مادة للحنين تفتح من خلالها مقبرة جماعية يُدفن فيها الحس الأخلاقي والجرائم

يجد نفسه منحازا إلى ثقل تيريزا في حين تجد سابينا نفسها مع فرانز المثالي ممثّل الخفة التافهة في أقصاها. جدلية نَسب الإيجابية والسلبية الى كلّ من الخفة والثقل، تطرح نفسها. تمثّل تيريزا التي تكرّر بحضورها ملامح انحياز المرأة للأرضي والواقع، في حين تمثّل سابينا حالة الفرار والتبرير والطيران والخيالي. تيريزا تلتقط صورا فوتوغرافية وتوثق الحدث مثلما جرى، في حين ترسم سابينا لوحات فنية تتخيّل فيها ما لم يجر. 

هل من سبيل لعقد مصالحة بين المفهومين؟ يوحي لنا الكاتب بإمكانية الجمع بينهما، على أن ينسف المرء حياته ويعيد تشكيلها بصورة جديدة تجمع بين الخفة والثقل، بمعنى الطيران داخل فضاء الواقع والالتزام وهذا ما يفعله توماس حين يذهب مع تيريزا للعيش في قرية بعيدة ويتحوّل إلى مزارع يقوم بأعمال يومية عادية متكرّرة ولكنه يبدو سعيدا وممتلئا بالخفة. يموت توماس وتيريزا في حادث سيارة لينفجر ذلك الاستقرار اللحظوي وتعود الأمور الى دائرة التشظي والسؤال. لم تكن سيرتهما إجابة بل رحلة في السؤال تقول إن المعرفة مستحيلة واليقين وهم.

في روايته الأخيرة "حفلة التفاهة" يطلق كونديرا ما يمكن اعتباره وصية قائلا: "لقد أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب العالم ولا تغييره إلى الأفضل ولا إيقاف جريانه البائس الى الأمام، لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد"، وبذلك يمكن تتفيه تفاهته واحتمالها.

                     

font change

مقالات ذات صلة