كتاب دراما سوريون يتحدثون الى "المجلة" عن الكتابة بعد سقوط حكم الأسد

المساهمة في تحقيق العدالة الانتقالية والإجابة عن الأسئلة المعلقة

AlMajalla
AlMajalla

كتاب دراما سوريون يتحدثون الى "المجلة" عن الكتابة بعد سقوط حكم الأسد

لطالما كانت الكتابة المتحررة من قيود السلطة مطلب الكثير من الكتاب السوريين الذين اعتادوا خلال عقود من حكم حزب البعث على ترويض الخوف، متحايلين على مقص الرقيب، متوارين خلف أسماء مستعارة حينا، وخلف الترميز والتلميح حينا آخر. واجهوا آلات إعدام النصوص المنتقدة للسلطة، فظلت لحظة الانعتاق والتحرر لحظة متخيلة افتراضية رافقتهم على مدار حكم الأسدين، ليجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها أمام الواقع الجديد الذي مثّله انهيار ذلك الحكم. "المجلة" التقت مؤلفين سوريين في مجالات التلفزيون والسينما والمسرح، ليجيبوا عن السؤال الراهن "كيف سيكون شكل الكتابة في المرحلة الجديدة، وهل سنكون أمام كتابة "انتقامية" تتشفى من النظام السابق، أم أمام كتابة تصالحية تسامحية تحاول ترميم ما اقترفه النظام السابق من انقسامات في المجتمع السوري"؟

تحليل الواقع

يرى المخرج السينمائي فراس محمد أن "هناك حاجة إلى تحليل الواقع وإعادة قراءته بعد السقوط المدوي لنظام بشار الأسد، وهو ما يجب أن يفرض مضامين الكتابة في الحقبة الجديدة، غير أن التجارب السينمائية في سوريا أثبتت أنها كتابة قاصرة". يشرح مخرج فيلم "الناس اللي فوق" لـ"المجلة": "إعطاء توصيفات سياسية لغايات الكتابة أمر وارد، سواء كانت تلك الغايات انتقامية أو تصالحية، لكن التجارب السينمائية خلال الـ 14 عاما الماضية، سواء سينما الداخل أو الخارج، كانت انفعالية ومحكومة بظرفها الراهن وبميول صنّاعها السياسية، أكثر منها ناتجة من بحث هذا الظرف وتحليله".

أما الكاتب والمخرج التلفزيوني والسينمائي حسام شرباتي، فينحو إلى الكتابة التصالحية بعد مرحلة سقوط الأسد في محاولة منه لترميم نسيج المجتمع وبناء الثقة واستيعاب الآخر، بمنأى من التمزقات والشروخ التي صنعها النظام، إلى جانب اللجوء إلى السجلات البصرية لغرض التوثيق. يقول مؤلف مسلسل "خريف عمر" لـ"المجلة": "تتجاوز الدراما دور الترفيه، بل تتحول بعد الثورات إلى دور محوري في التعبير عن التجارب الإنسانية وبناء التعافي والمساهمة في تحقيق العدالة الانتقالية وإقامة جسر نحو التصالح".

تتجاوز الدراما دور الترفيه، بل تتحول بعد الثورات إلى دور محوري في التعبير عن التجارب الإنسانية وبناء التعافي والمساهمة في تحقيق العدالة الانتقالية

حسام شرباتي

بدوره، قرر الكاتب والمخرج المسرحي محمد حميرة التخلي عن النبش في تلافيف الذاكرة، متجنبا أن يصاب بعدوى الكتابة الانتقامية، لتكون رسائل المسرح بالنسبة إليه دعوة مفتوحة إلى التسامح والتعايش. يقول مخرج "سوق الأسئلة" لـ"المجلة": "لا أعتقد أن مكوّنا واحدا من الشعب السوري يرغب في رؤية مساحات على الخشبة تشغلها إسقاطات على ممارسات النظام السابق، فالمتلقي يرغب في رؤية أفكار جديدة توفر له شيئا من المتعة بعيدا من ذاكرة البطش والظلم والقهر التي يحاول تفاديها".

هوية جديدة

عن تأثير انهيار حقبة الأسدين على طريقة تفكير أولئك الكتاب، وما إذا كانت ستفرض هذه الوقائع هوية الكتابة الجديدة، يقول فراس محمد إن "الكتابة ستكون أكثر مباشرة لناحية تسمية الأشياء بمسمياتها بدل اللجوء الى الإيحاء، لكن هناك عوامل ستبقى على حالها في ما يتعلق بنوع السينما التي أحب تحقيقها، كالاقتراب قدر الإمكان من حياة البسطاء والأبطال العاديين، وقد يترافق ذلك مع رسم أدق للظرف السياسي المحيط بهم وأثره المباشر عليهم، وهو الأمر الذي كان خاضعا في مرحلة حكم البعث للإيحاء والترميز، من خلال إدانة الفقر والفساد دون التطرق إلى أسبابهما".

Rami al SAYED / AFP
مقاتلون ومواطنون يحتشدون في المسجد الأموي بدمشق، 8 ديسمبر 2024، بعد إعلان المعارضة سيطرتها على العاصمة وفرار بشار الأسد، منهيةً خمسة عقود من حكم البعث

بينما ستسعى الكتابة الدرامية لدى حسام شرباتي إلى التحرر من التابوهات الدينية والسياسية والاجتماعية، التي كان مستحيلا الخوض فيها في عهد نظام الأسد، ليقترب أكثر من الأماكن المحظورة، "سأتطرق إلى مسائل مهمة كتوثيق المجازر ونقل أصوات الناجين والضحايا وحجم التجاوزات التي ارتكبت في عهد البعث، والتركيز على قضايا التسامح والمصالحة بعد الانقسامات المجتمعية التي صنعها النظام السابق".

يجد محمد حميرة أن المرحلة الجديدة ستشهد "استرداد كرامة المسرح المسفوحة على سكين الرقابة في العهد السابق"، فالنص المسرحي في عهد الأسدين "كان يحتضر، وكان يوجه إلى جهات عدة للاطلاع عليه، مثل لجنة القراءة والرقابة وفرع الأمن السياسي ووزارة الإعلام، وكل من هذه الجهات كان يضع التعديل الذي يناسبه ليعود لنا النص فارغا لا يحتوي إلا على الثرثرة والأفكار المستهلكة، وحتى عند العرض كان مندوب فرع أمن الدولة يواظب على الحضور حرصا على ألا يكون طرأ تعديل خلال البروفات، اليوم تخلصنا من هذه الأمور".

AAREF WATAD / AFP
سوريون يحتفلون في وسط مدينة حمص بسقوط حكم بشار الأسد، 13 ديسمبر 2024، بعد أول صلاة جمعة منذ الإطاحة به

خطوط حمراء

عرفت حقبة الأسدين بالترميز والتلميح خوفا من بطش الرقابة والمنظومة الأمنية، فكان الفنانون يتجنبون التصريح السياسي المباشر، لكن هل سنشهد انزياحا للغة الترميز في الأعمال التي ستنتج من الآن فصاعدا، وهل ستتناول هذه الأعمال قضايا كانت ممنوعة سابقا؟

الكتابة ستكون أكثر مباشرة لناحية تسمية الأشياء بمسمياتها بدل اللجوء الى الإيحاء، لكن هناك عوامل ستبقى على حالها كالاقتراب قدر الإمكان من حياة البسطاء والأبطال العاديين

فراس محمد

يرى فراس محمد أن الرقابة ستستمر إنما في صيغ مختلفة، يقول: "كل مرحلة لها حدودها وخطوطها الحمر، لا يوجد فعل كتابي مجرد من الرقيب، هذه مثالية لا يمكن أن تحدث، خصوصا عند القراءة التاريخية النقدية لسينما البلدان التي هزتها أحداث سياسية عنيفة كسقوط الأنظمة، هذا ينطبق على السينما اللاتينية بعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية وسينما شرق أوروبا بعد الثورات الحمراء التي اجتاحتها، ولكن بالعموم، لا يمكننا أن نغفل أيضا متطلبات السوق عند الكتابة، فهي تساعد في انتشار الأعمال، الرقابة ليست سياسية فحسب، بل اقتصادية، ونحن في سوريا حاليا لا نعلم بعد الشكل الرقابي الجديد".

أما حسام شرباتي فيرى أن استعادة حقبة الأسدين أمر لا بد منه، "فهذا وجه من وجوه تحقيق العدالة الانتقالية الساعية إلى توسيع رقعة المكاشفات والحفر في القاع، بما يسمح بعبور الجمارك السينمائية دون مصادرة البضائع السياسية واعتبارها ممنوعات كما كان الأمر في العهد البائد".

LOUAI BESHARA / AFP
فرسان يقدّمون عرضا خلال مراسم الكشف عن شعار سوريا الجديد قرب ضريح الجندي المجهول على جبل قاسيون المطلّ على دمشق، 3 يوليو 2025

ويرى محمد حميرة أن انعتاق المسرح من القيود الاجتماعية ليس واردا، وأن الرقابة ستظل جاثمة على صدر المسرح، مستذكرا المعاناة الأزلية لكتاب المسرح بشتى وسائل الإزعاج والتنكيل، يقول: "أذكر في مرحلة المسرح الجامعي، كنا نتقدم بنص مسرحي يوجه إلى اتحاد الطلبة للاطلاع عليه وبعد إعادة النص إلينا من قبلهم نفاجأ بأن التعديلات التي أضيفت غيّرت الفكرة الى درجة أن العمل لا يعود يرقى لأن يقدم كمسرح وأنما كنوع من التطبيل".

يأمل حميرة بأن يتمتع المسرح في المرحلة الجديدة بالاستقلالية، وألا يتم توجيهه عبر حزب ما أو إدارة معينة تفرض إذونات تتناسب مع أفكارها كما كان الحال في عهد النظام المخلوع، يقول: "جمالية المسرح تتجلى في الرمزية، فهو يعتمد على دهاء المتلقي وقدرته على فهم ما يشاهده على الخشبة، الرسائل المباشرة لا تمنح النص جمالية وإبداعا وتجعل المتلقي يغادر القاعة دون تساؤلات".

ما نوع القضايا التي ستتطرقون إليها بعد سقوط النظام؟

يؤكد فراس محمد أنه سيهتم بسبر أغوار المعاناة الفردية تحت حكم الأسد، يقول: "أعكف حاليا على كتابة فيلم روائي حول فترة ما قبل سقوط الأسد، بغرض الكشف عن حجم الفساد الذي استشرى في المجتمع في ذلك الوقت، وذلك انطلاقا من رغبة شخصية في سرد قصص السوريين في الداخل، أولئك الذين كانوا يعيشون في مناطق سيطرة النظام السابق، إذ يبدو أن هناك جهلا كبيرا بنمط حياتهم ومعاناتهم، رغم أنهم كانوا يعيشون داخل ذلك السجن الكبير".

Bakr ALKASEM / AFP
الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع يلقي كلمة خلال الكشف عن شعار الدولة الجديد في قصر الرئاسة بتدمر، 3 يوليو 2025. يتضمن الشعار نسراً مستوحى من رموز قديمة، يحمل 14 ريشة تمثل المحافظات السورية وثلاث نجمات من العلم الوطني

أما محمد حميرة فسيتجه إلى المسرح السياسي بعد أن ظلت أعماله الجريئة مؤجلة، إلى أن كتب لها الانعتاق بعد سقوط الأسد، ليعرض في دمشق مسرحيته "حياة باسل أنيس" التي "تسلط الضوء على حياة المفكر السوري في عهد الأسدين وكيف أنه يصبح مجنونا من خلال ممارسات النظام الوحشية عليه. سنعتمد في الفترة الحالية على المسرح السياسي الذي افتقده الجمهور منذ عقود، فالجمهور بحاجة إلى إجابات كثيرة عن أسئلة كانت تشغله في الحقبة السابقة والمسرح هو وجهته المثالية".

مرتادو المسرح هم من شتى الانتماءات، ولا يمكننا الحكم على أحدهم بما كان عليه سابقا، فتلك ليست مهمتنا، لكننا نستطيع إظهار الشخصية على حقيقتها، ونترك الحكم للمتلقي

محمد حميرة

شهدت بعض الإنتاجات السورية خلال حقبة الأسدين تقديم صورة الأمن السوري والمخابرات، فهل سنشهد رؤية جديدة لهذا العنصر؟

يقول فراس محمد إن "أحدا لا ينكر أن النظام السابق كان يحكم قبضته الأمنية على الناس، لكنني أتمنى الابتعاد عن الشخصيات الصورية أو الوظيفية، فكل شخصية درامية لها الحق في البحث عن مبررات أفعالها ومواقفها وأفكارها، أي كتابة شخصيات من لحم ودم، بما في ذلك تلك الشخصيات التي تقترف أفعالا مدانة أخلاقيا، الشر دائما موجود وله مبرراته المرتبط بتاريخ الشخصيات، وحديثي هنا ليس فقط عن فترة النظام السابق، بل عن أي فترة زمنية تمر بها الشخصية الدرامية".

بدوره، يصر محمد حميرة على ضرورة عدم تجاهل صورة الأمن السوري والمخابرات، "فهي مادة دسمة يمكن الاستفادة منها في الأعمال التي تتحدث عن حقبة الديكتاتورية الأسدية، وهذه المرة ستطرح بشكلها الفعلي دون تجميل ممارساتها، كما كان يفرض النظام السابق على الكتاب".

تناول الكثير من الأعمال الدرامية السورية في السابق ثنائيات المعارض والمؤيد والخائن والوطني، انطلاقا من المواقف السياسية للقائمين على الإنتاج وأصحاب رؤوس الأموال، فكيف سيتم تناول هذه المواقف بعيدا من التوصيفات السابقة والقوالب الجاهزة؟

يقول فراس محمد: "ما دامت هذه الشخصيات جزءا من الواقع فلا يمكن تحييدها، هذه النوعية من الانقسامات والاستقطابات شكلت المجتمع وساهمت في الشروخ التي شهدها، فلا يمكن تحييدها في أي عمل درامي يتعامل مع الواقع، ولكن من أهم مهام الدراما البحث في جذور هذه الانقسامات".

ويشدد محمد حميرة على ضرورة الابتعاد عن إطلاق الأحكام الجاهزة، يقول: "مرتادو المسرح هم من شتى الانتماءات، ولا يمكننا الحكم على أحدهم بما كان عليه سابقا، فتلك ليست مهمتنا، لكننا نستطيع إظهار الشخصية على حقيقتها، ونترك الحكم للمتلقي فهو صاحب الرؤية والقرار في النهاية".

font change