سوريا... أول التوجهات نحو تدارك التعليم وبناء المستقبل

Eduardo Ramon - AlMajalla
Eduardo Ramon - AlMajalla

سوريا... أول التوجهات نحو تدارك التعليم وبناء المستقبل

التعليم هو وسيلة الأمة نحو الارتقاء في مدارج المعرفة والإنجازات، وهو بالتالي مستقبل الأمة نحو التقدم في كافة المجالات. ولن تفلح أمة من دون العلم والتعلم، ذلك أن الفارق الحضاري بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة أن الأولى استثمرت في العلم والتعليم، وجعلته أولوية في خططها نحو السعي والتطور، أما الثانية فأهملت التعليم، واعتبرته لا لزوم له، وعندما احتاجته وتأثرت بالأمم المتقدمة وجدت البون شاسعا والمسافات طويلةً.

وتقاس الأمم يكون بعدد علمائها وفي كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والحقوقية، ومدى استيعابها للعلوم الأساسية. وهذه هي المفارقة الكبرى، فعندما ولجت الأمم الثانية أو الثالثة للعلم، ركزت على العلوم النظرية والشعر والنثر والتاريخ، وأهملت أسس التفكير العلمي ومنطلقاته. ومن هنا كان البون شاسعا، في المكان والزمان، وفي التحصيل العلمي. وركزت الأمم هذه على العودة إلى سلوك سبيل الحكاية وأصلها وفصلها، وابتعادها عن الإنجاز العلمي الواضح، لأنها لم تدرك كنه المستقبل وأثره المباشر وغير المباشر في انتشال الأمم من هدفها وإغراقها في البحث عن الماضي، والذي كان قد ولى وانقضى ولم نتعمق في المسائل الأكثر أهمية للتخلص من الواقع المأساوي الذي ترسف فيه هذه الأمم.

ولعلنا نستطيع أن نرصد الفارق العلمي المهم بين أمم تقدمت وركزت على العلوم الأساسية دون إهمال العلوم الأخرى (الفلسفة والإنسانيات)، ومسائل اللغة والشعر والنثر، فكنت ترى آلافا من العلماء في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم والطب والهندسة، إلى جانبهم آلاف في الفلسفة والإنسانيات والأدب والموسيقى، وما إلى ذلك، لأن العلم كلٌّ متكامل. ولا انفصال بين هذا وذاك، فالأمم المتقدمة تراها سبّاقة إلى الجمع بين كل ذلك، وليست في مسار واحد إنما في مسارات متعددة ومتزامنة ومتراصفة ومتكاملة، وفي سباقٍ كلٌّ في مجاله، دونما تحجيم ولا حدود. وإزاء كل ذلك وجدنا النوابغ في العلوم الأساسية منهم وفيهم وفي العلوم الإنسانية والثقافية والفلسفية سبّاقين.

لذلك، فالسؤال المطروح: لماذا؟

والجواب: لأن الإعداد ابتدأ من الخطوة الأولى في التعليم وسبر مواضيع التربية العلمية، لأن المقدمات الصحيحة تعطينا نتائج صحيحة. ومن هنا كانت أهمية الصفوف الأولى في مراحل التعليم الأساسي بمناهج واضحة ومتطورة، ومعلمين تم إعدادهم بشكل هام، مشبعين بما يحتم عليهم السير في طريق واضح ومحدد منهاجا وسلوكا، وبيئة ومعلما ومدرسا، يتناول جميع من يدخل في هذا الاتجاه الأولي على مدارج العلم والتعليم، ويظل المنهاج ليس جامدا ومكررا، ولكنه مرن وقابل للتطوير وحرق المراحل، من خلال تقديم الأمثل في هذا التوجه ولصالح المتلقي من التلاميذ الصغار الذين يزودون بالتربية أولا، وبالأناقة ثانيا، وبالتعلُّم ثالثا، وليس بحشو المعلومات وتسطيرها مع خطوط لا يمكن تجاوزها، ولذلك كانت المدرسة الأولى هي الخطوة الأهم.

على الدولة قبل البدء بالمشاريع والشركات والتوجهات التنموية، من الأجدى لها التوجه لبناء الثروة البشرية أولا، وبالأخص هؤلاء الذين كانت الظروف والأحوال قاسية وظالمة لهم ولأهاليهم

سوريا بعد حرب أكلت الأخضر واليابس

بعد هذه المقدمة، لا بد من توضيح الهدف من هذا المقال فيما يخص بلادنا سوريا، التي خرجت من حرب ظالمة طالت الأخضر واليابس، وأسوأ ما فيها استهداف العلم والتعليم، من حيث تدمير آلاف المدارس، وتشريد آلاف الأطفال واليافعين الذين خرجوا من التعليم، وهي أرقام كبيرة وكبيرة جدا بسبب النزوح والسكن في المخيمات، والتسرّب الكبير من المدارس لآلاف الأطفال، بل مئات الآلاف، والفقر المدقع لأوليائهم والكثير منهم فقد أباه وأمه وإخوانه.

ومن هؤلاء الكثير والكثير على مدار 15 عاما والذين لا بد أن يعطوا الاهتمام الكافي من قبل الدولة لإعادتهم إلى مقاعد الدراسة والتوقف عن قول إن بعضهم شبّ عن الطوق من حيث العمر، إذ إن العلم والتعلُّم ليس فيه كبير في العمر، فالكل بحاجة إلى أن يعودوا لمقاعد الدراسة، وإعداد برامج خاصة لإعادة تأهيل هؤلاء من خلال تقصير مدة السنة الدراسية ودمج المناهج وإعداد المعلمين الأكفاء، وهذا مطلب واضح وجلي.

SANA / AFP
صورة من وكالة سانا تُظهر وزيري الدفاع مرهف أبو قصرة والعدل مظهر الواس يتابعان كلمة وزير التعليم العالي مروان الحلبي في أول اجتماع للحكومة الجديدة، دمشق، 7 نيسان 2025

إن ما فات على هؤلاء لا يسمح لهم بالاستمرار دون حل، وهو قابل للحل، إذ إن هؤلاء الذين يعدون بالآلاف لا بد من دمجهم في مسيرة التعليم، وحل مشكلة الفاقة والفقر التي يعاني منها أولياؤهم عن طريق إيجاد فرص عمل وعدم تركهم على قارعة الطريق، يمارسون ما نراه يوميا في مواقف السيارات والشوارع والتسيّب. فهؤلاء الذين يضيق صدر الناس بهم، ويسمعونهم كلاما لا يقال لآدمي، تعتبر عودتهم لسلك التعليم واختصار المدد الزمنية وتوفير المناهج القصيرة والمركزة والمستوعبة لما فاتهم من التعليم، تعتبر مسؤوليتنا جميعا، وهذه لا تستطيع القيام بها إلا الدولة لأنها هي الأحرص والأجدر على إيلاء هذه المهمة الشروط اللازمة لتدارك ما فات على هؤلاء- وهم ربما بالملايين في كل مناطق اللجوء في الدول المجاورة والبعيدة، وقد حانت الفرصة بعد انتصار الثورة وعودة الناس إلى قراهم ومدنهم، والدخول في إعادة الإعمار- وهؤلاء هم الأجدر أولا وثانيا وعاشرا.

وإذا كنا ننطلق من ذلك، فتلك هي مسؤولية كبرى لن ندعها تضيع على الأعداد الهائلة من المتسربين من التعليم وعدم الانتفاع والاستفادة من العلم الذي هو مستقبل الأمة، ودون ذلك لا تتقدم الأمم ولا تنجو من مخالب الجهل والفقر وعدم المسؤولية.

أمام سوريا طريقان

قد يقول قائل، هذه تحتاج إلى إمكانيات لا قِبَلَ لهذه الدولة الناشئة بذلك، والرد يجب أن يكون مباشرا: على الدولة قبل البدء بالمشاريع والشركات والتوجهات التنموية، عليها أن تتوجه لبناء الثروة البشرية أولا، وبالأخص هؤلاء الذين كانت الظروف والأحوال قاسية وظالمة لهم ولأهاليهم، وهم من اكتوى بنار الغربة والضياع، وعلينا وعلى الدولة أن نعيد التوازن من جديد لسلك التعليم، والبداية في دمج هؤلاء في العملية التربوية والعلمية.

SANA / AFP
صورة من وكالة سانا تُظهر الرئيس السوري أحمد الشرع يترأس أول اجتماع للحكومة الجديدة بدمشق، 7 نيسان 2025

وأمام الدولة طريقان يمكن أن تسلكهما، هما: بث الحياة في التعليم العام، والتعليم الفني، وهذا الأخير لا يحتاج لمدة زمنية مطولة، وإنما دورات متخصصة في مجالات متعددة يحتاج إليها الوطن وخاصة في ميادين الحرف الفنية التي لها دور كبير في استيعاب هؤلاء وزجهم في سوق العمل بشكل سريع، مع تقديم المساعدات المادية والمعنوية لهم، والحرص على إيجاد فرص عمل لهم بعد تخرجهم، خاصة مع توفير ورشات عمل في كل المجالات، وهذا امتداد أفقي مهم للدخول بهم لسوق العمل من أوسع أبوابه.

الزراعة الواسعة والكثيفة والاستثمار فيها، وكذلك تربية الحيوانات، تحتاج إلى إعداد الكوادر المتوسطة للقيام بذلك، وهذه سوق واسعة ومتعددة التخصصات تستوعب الكثير من القوى البشرية المنتجة

إن اكتساب حرفة معينة لمثل هؤلاء تجعلهم يندمجون في سوق العمل، ويؤثرون فيها، كما أن الحرف المعروفة في كل المجالات يمكن أن تساعد الكثير من هؤلاء الذين فاتهم قطار التعليم، فيصبحوا أصحاب ورشات تخدم الاتجاه العام للحد من البطالة أولا، والانتفاع من سوق العمل الذي يطلب وبإلحاح مثل هذه التخصصات.

Shutterstock
جرار قديم يعمل في حقل زراعي قرب نهر الفرات في سوريا

ولعلنا هنا لا نتجه فقط إلى الحرف المدرة للربح، وإنما للحرف التي تساهم في تنمية القطاعات الإنتاجية في البلاد، ومثلا ليس قياسا، فإن التركيز على تضخيم أعداد العاملين في الزراعة وتربية الحيوانات في الريف يمكن أن يستوعب أعدادا هامة من هؤلاء بشرط أن يتم إيلاء تعليمهم الأصول الفنية في اتباعهم لدورات مكثفة في الزراعة بالطرق الفنية، وفي تربية الحيوانات، وتوفير السبل لهم للدخول في هذا الاتجاه، لإعادة دورة الحياة في الريف السوري الغني بكل ما يزخر به من أراضٍ خصبة ومراعٍ... إلخ. والقطاع الفلاحي يستوعب أعدادا هامة من الفنيين الذين يساهمون في زيادة الغلة من الإنتاج على مستوى الدونم أو الهكتار، وذلك عبر تدريب المساعدين الفنيين على كيفية الزراعة والبذار والحصاد، وحماية المزروعات من خطر الجراد والبكتيريا الضارة والتسميد لمختلف أنواع المحاصيل، والري بالتنقيط للحفاظ على المياه من الهدر، وتعليم هؤلاء لتطوير الإنتاج من مختلف المنتجات الزراعية، وكذلك ترابطها مع التصنيع الريفي كمنتجات الألبان، والتجفيف والتسويق الزراعي، وكل هذه قضايا هامة، وتستطيع الجهات الفنية في وزارة التربية والاتحادات والجمعيات الفلاحية القيام بها على أحسن وجه وتقديم أجيال من هؤلاء لخدمة الزراعة، وتحقيق المقصود لصالح الأسرة والجماعة، وبالتالي المجتمع.

إن موظفي الشؤون الفنية في وزارة التربية والتعليم، وفي وزارة الزراعة، ووزارة الإدارة المحلية، تقع عليهم المسؤولية لإيجاد البرامج والمدربين والعمل الملموس ضمن البيئة الزراعية، وتربية الحيوانات، والعلوم البيطرية، والزراعية، وهذه تحقق أنماطا جديدة من المتعلمين بالممارسة، وتحقيق النتائج الهامة، وطبعا تحت إشراف المهندسين الزراعيين وخريجي كليات الطب البيطري.

Aaref WATAD / AFP
عمال يحملون صناديق رمان في بستان بمدينة سلقين شمال غرب إدلب، 21 تشرين الأول 2024

وتقوم الوزارات المختصة بتأمين التدريب ووضع الخطط المنهجية لذلك لتعليم أصول العمل وبشكل علمي دون الحصول على الشهادات التي تُعلق في صدر البيت للاعتزاز بها، لأن حصول الفني على شهادته الحقيقية عند زجه في سوق العمل المنتجة وتعليمه كيف يزرع وكيف ينتج وكيف يعالج من خلال وجوده في الحقل والبيدر، وكيف يستعمل الأدوية واللقاحات ويداوي بها ما يمكن أن ينتج عن ذلك من أضرار.

إن ورشات الدفاع المدني وزج أعداد من هؤلاء المتدربين لحماية الغابات والسرعة في إخماد الحرائق، وعدم التعدي على الأشجار والغابات، كل ذلك يشكل عاملا هاما، ويخلق توجهات وطنية هامة للحفاظ على الثروة من الأخشاب، وفي حماية القطاع النباتي، وكل هذه مسؤوليات ينبغي القيام بها دفعة واحدة، والاستثمار في الموارد البشرية المؤهلة والممارسة لهذه الوظائف بعد التعليم المستمر، والحصول على نتائج، ليس على الورق، ولكن على الأرض، وهذا قطاع واسع ومؤثر في مسيرة التنمية المجتمعية الكبرى نحو الاتجاه لبناء سوريا الجديدة، ولنبدأ من إيلاء الثروة البشرية، المعطلة حتى الآن، الدور الأهم في توجهات الانطلاق، إنْ من الزراعة ومن تربية المواشي وحماية القطاع النباتي والحماية الوقائية، وكل ذلك ممكن ومردوده سريع ولا يحتاج إلى سنوات مملة وطويلة. إن المعاهد الزراعية المتوسطة لها أرضية في بلادنا، وكذلك المعاهد البيطرية والدورات التدريبية على أرض الواقع.

كل ذلك نضعه في خططنا السريعة التي لا تحتاج لزمن طويل أو متوسط، ولكن عن طريق وضع كل ما سبقت الإشارة إليه ضمن توجهات الدولة ومراعاة التكامل والترابط بين جميع المهام الملقاة على عاتق الدولة والأفراد والقطاع الخاص.

Aaref WATAD / AFP
منظر جوي لحصاد القمح قرب مدينة إدلب، 5 حزيران 2023

إن الزراعة الواسعة والكثيفة والاستثمار فيها، وكذلك تربية الحيوانات تحتاج إلى إعداد الكوادر المتوسطة للقيام بذلك، وهذه سوق واسعة ومتعددة التخصصات، تستوعب الكثير من القوى البشرية المنتجة التي لا تنتظر الوظيفة العمومية من الدولة المثقلة بالبيروقراطية، ولكن أسهل الطرق وأكثرها فاعلية هو زج الكثير من المتدربين خريجي المعاهد في هذا الاتجاه، ولا نهمل الأبحاث المتعلقة بذلك، وهذه تقوم بها مراكز بحثية متخصصة وطنية في الجامعات، وبالتعاون مع المنظمات الدولية كمنظمة "الفاو" و"صندوق السكان" في الأمم المتحدة، والتعاون مع الجامعات الأجنبية والحصول على منح للاستزادة من خبرات الدول المتقدمة.

التعليم الأساسي- كما يتفق الجميع- هو اللبنة الأساسية في التعليم، لأن رعاية الجيل الصغير هامة جدا لكي نعطيه من خبرات ومناهج وتربية وتعلم

التعليم والتدريب عملية مستمرة

العملية التعليمية العملية هي ما نحتاجه دائما وليس في مرحلة معينة، لأن التعليم والتدريب عملية مستمرة ومنطلقة نحو توجهات أكثر عمقا، وإذا كنا قد أشرنا في هذه الدراسة للقطاع الفني والزراعة، فإن قطاع الصناعة، أيضا يمكن أن يكون المستوعب الأهم لمثل تلك التخصصات- ليس كوظيفة عمومية- عبر تشكيل ورشات ومدارس متخصصة تجمع ما يتعلق بموضوع الصناعة. وليس المطلوب من هذه الفئة الوسيطة اجتراح المعجزات، بل العمل والمساهمة في الإعداد العملي أولا لجميع المهن الصناعية التي تطلبها سوق العمل، وإقامة الورشات المتخصصة التي تخدم القطاع الحرفي الذي لا بد أن يكون واسعا ومستوعبا للمزيد من فرص العمل.

إن الورش الخاصة التي ينشئها الأفراد أو الجماعات والتي تتناول كل ما تحتاجه هذه السوق الواسعة، وللسوريين ريادة في هذا الاتجاه، فالقطاع الحرفي واسع ويستوعب المزيد، خاصة وأن الحياة العامة تتجه نحو زيادة الطلب على هذه التخصصات، وهنا أستطيع أن أعدد هذه التخصصات:

- التمديدات وصيانة المنازل والكهرباء والمكيفات والتبليط والدهانات والديكورات والحدائق المنزلية وقضايا أخرى كثيرة وواسعة.

- صيانة السيارات وإصلاحها وما يتعلق بها من إصلاح وتجهيزات... إلخ.

- صناعة النسيج على الأنوال والتركيز على عدم انقراضها، لصناعة الأقمشة مع المناول المعروفة كصناعة البروكار، والسجاد اليدوي، والعباءات الرجالية التي لسوريا إنتاج واسع فيها، وكان يصدّر منها لدول الخليج وأوروبا، والعباءات الشتوية من صوف مستورد لذلك، وصوف الخراف الصغيرة، وهذه صناعة حرفية عالية التركيز، لسوريا دور هام في ذلك. والخياطة للأطقم الرجالية والنسائية التي كان لسوريا خصوصية فيها.

- صناعة الصابون والمنظفات وحرفة صناعة صابون الغار المشهورة وخاصة في حلب، وتصنيع الألبان والأجبان، والسمن العربي، وهذه لها ارتباط مع الثروة الحيوانية والزراعية.

- صناعة الجلود والدباغة ولسوريا سابقة في هذا المجال، كتصنيع الأحذية من الجلد الطبيعي والاصطناعي، والشنط الكبيرة والصغيرة والقشاط  (الأحزمة)، وباختصار شديد، إعادة الحياة لهذه الصناعات السورية التقليدية، كالزجاج بأنواعه والرسم عليه، والنقش على النحاس، وصناعة الأواني النحاسية، كما في وجود سوق للنحاسين في معظم المدن السورية، وتصنيع أواني الألومنيوم والتيفال والكروم والطناجر، وصناعة الأدوية الشعبية المعتمدة على ما تجود به الطبيعة في سوريا متعددة الإنتاجات، والعطور، وتحميص المكسرات. وهذه وغيرها من الصناعات اليدوية بحاجة إلى تركيز وتأسيس معاهد متخصصة للتدريب ولتعليم الأجيال عليها.

- وفي قطاع الخدمات يوجد الكثير من الحرف والتدريب عليها خدمة لمزيد من القضايا التي تحتاجها السوق وتحتاجها القطاعات، ومنها مثلا صيانة الطرق الطويلة والطرق الفرعية وطرق البلديات وطرق الأحياء، وصيانة السكك الحديدية ومراقبتها، وصيانة القاطرات للقطارات والعجلات وقيادة القطارات وقيادة الآليات الزراعية والرافعات الضخمة ومعامل جبل الباطون والتركتورات والحصادات وصيانتها وقيادة الباصات والشاحنات وصيانتها، وعمل مراكز للصيانة على الطرقات العامة يقوم بها مختصون بكل ما يتعلق بالآليات والإطارات والبطاريات وكهرباء السيارات والكازيات (محطات الوقود). وكل ذلك يحتاج إلى عمالة مهنية تقوم بها.

Omar HAJ KADOUR / AFP
طفل سوري يتحدث مع المعلمة داخل مدرسة مؤقتة بمخيم للنازحين في حرانبوش شمال غرب إدلب، 29 أيلول 2024

وعليه تتسع دوائر التشغيل وامتصاص المزيد من القوى العاملة المؤهلة والجديرة بالقيام بكل الأعمال عن خبرة وعلم.

ولكل ما سبق لا بد أن تنشأ معاهد متوسطة لتعليم الجيل، يتولى التدريس فيها مهندسون وخبرات وطنية. وربما استقدام خبراء لهم دراية أفضل كما هو الحال في الدول المتقدمة، والحد من العمالة غير المتعلمة لأصول الصنعة بطرق احترافية، لأن النهضة المؤمل إحداثها تحتاج للأيدي الخبيرة والمتطورة وتتابع التعليم فيها.

المدارس بحاجة إلى جوانب عملية، على سبيل المثال مخابر يتدرب عليها الطلاب في دروس الكيمياء والفيزياء والرياضيات، والرسم والموسيقى، كي يتعلم الطالب أن العلم ليس حفظا لنظريات، ولكنه ممارسة

التعليم ما قبل الجامعي

هذا التعليم يتناول التعليم الأساسي وقد تمت مناقشته، وهو- كما يتفق الجميع- اللبنة الأساسية والمدماك الأساسي في التعليم، لأن رعاية الجيل الصغير هامة جدا لكي نعطيه من خبرات ومناهج وتربية وتعلم، بحيث نستطيع القول إن الجيل الجديد يدخل في صميم العملية التعليمية مزودا بالطرائق الصحيحة للانطلاق نحو الدخول في جسم العملية التربوية والتعليمية.

وما بعد التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي، يشكل التعليم الجامعي استمرارية في سلم التطور العلمي والتربوي، وعليه لا بد هنا أن نسجل النقاط التالية:

- التعليم ليس قضية وقتية مرحلية، تتناول جيلا واحدا، ولكنها عملية مستمرة، وعليه لا بد أن نحدد أن التعليم ليس مدرسة وفقط، وليس منهاجا وفقط، وليس معلما أو مدرسا وفقط، التعليم هو كل ذلك: مدرسة، ومناهج متطورة تصب في الإفصاح عن المهم دون الدخول في الحشو والتكرار، ومعلم متدرب بشكل جيد، فليس كل من حمل شهادة تعليم معلما، لأن المعلم هو ذلك الإنسان المستوعب لمهمته، بقوة شخصيته، وفرادة مظهره. وكل هذا الثلاثي في التعليم تم عدم الأخذ به خلال المراحل السابقة، لأن التعليم كان يأتي في آخر اهتمامات الدولة التي ركزت على الكم دون الكيف.

Omar HAJ KADOUR / AFP
أطفال سوريون يحضرون صفاً في مدرسة مؤقتة بمخيم للنازحين في حرانبوش شمال غرب إدلب، 29 أيلول 2024

ولقد خلصت التجارب إلى مقولة أن الكم يتحول إلى كيف، وإذن كيف؟ كيف أن الميزانية السنوية للتعليم لا تتجاوز 3-4 في المئة سنويا وهي نسبة متواضعة جدا؟ وأنت ترى وضع المدارس وحشر 50-60 تلميذا في فصل واحد، ومبنى مهلهل، وتدفئة معدومة وعدم الاهتمام بنظافة الفصل الدراسي، والباحة، والمراحيض، وعدم الاهتمام بالصحة المدرسية لجميع الطلاب بالمباشرة الدورية لفحص الطلاب، والاهتمام بصحتهم. وفي بعض الدول يتم تقديم وجبة غذائية يوميا لجميع الطلاب، وقد يكون هذا مكلفا للدولة، لكن عند مقارنته بالأمراض التي قد تنتشر بين الطلاب بسبب نقص التغذية، كالسل واليرقان والتهاب الكبد الوبائي وفقر الدم، وأمراض أخرى، وتكاليف معالجتها تظل الوقاية خيرا من قنطار علاج.

والمناهج الدراسية لا بد أن لا تعتمد على الحفظ والبصم، ولكن لا بد أن تعتمد على المناقشة والاستيعاب، وتوسيع مدارك الطلاب في استنباط وفهم المسائل العلمية بطريقة تعطي للطالب الحرية في المناقشة والتصويب بلا عسف ولا إجبار.

وهنا يأتي دور المعلم الذي لم تعر له الدولة سابقا أي اهتمام، فدخل المعلم علامة واضحة في اندفاعه للتعليم، لأن هذا يمتد وينعكس عليه كمعلم وعلى أسرته، كما أن عدد ساعات العمل التي نادت بها منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية والجهات الدينية بتحديد ساعات للعمل، وجدنا أن المعلم يبحث عن عملين خارج مهمته التعليمية، لماذا؟ لأنه يحتاج، وهذا الاحتياج يضطره للعمل ساعات قد تصل إلى 14 و15 ساعة في اليوم وفي مهنة ليست من اختصاصه، لكنها الحاجة. وهذا ينعكس سلبا على أدائه في مدرسته، إذ إن للناس طاقة وقدرة، ولا يمكن الجمع بين مهمته كمعلم وبين بحثه الطويل عن أعمال أخرى تستنزف جهده وتفكيره وتبعده عن طريقه الذي اختص به.

IBRAHIM YASOUF / AFP
أطفال سوريون يحضرون صفاً داخل فصل مدمر في مدرسة استُهدفت بالقصف في منطقة جسر الشغور غرب محافظة إدلب، 30 كانون الثاني 2019

إذن، دخل المعلم يجب أن يتناسب مع دوره في تعليم الجيل وتفرغه لهذه المهمة النبيلة التي اختارها وكان شغوفا بها، لكن الحاجة المستمرة والعائلة وأولاده يضغطون عليه، ولو حسبنا بالحساب والموازنة بين ما تخسره الأمة من إهمالها للمعلم والمدرسة والتعليم بالقياس لرأينا العجب العجاب، والمعلم ليس بحاجة للتبجيل والتفخيم فقط، المعلم بحاجة إلى أن ينصرف لمهمته الأساسية، وهي التي اتفقنا على أنها المهمة السامية.

إن المدارس بحاجة إلى جوانب عملية، على سبيل المثال مخابر يتدرب عليها الطلاب في دروس الكيمياء والفيزياء والرياضيات والرسم والموسيقى، كي يتعلم الطالب أن العلم ليس حفظا لنظريات، ولكنه ممارسة، ومعظم مدارسنا- إن لم تكن كلها- تفتقر لذلك، وإن وجدت قد تكون لتمضية الوقت والراحة.

الدولة السورية منذ بداياتها الأولى حرصت على أن يظل التعليم للجميع حسب المؤهلات، وكان دائما "العلم للجميع" شعار الدولة السورية. لكن كانت في سوريا جامعة واحدة هي "الجامعة السورية" في دمشق

وإذا كانت العملية التعليمية في مرحلة ما قبل الجامعة ضمن التوجه نحو إحداث نقلة نوعية في عملية الضبط والربط، منهاجا ومعلما وبناءً، فسوف تتلقى الجامعات والمعاهد المتوسطة أجيالا أخذت قسطا من العلم والمعرفة، وتم تأسيسها وفق منطلقات سليمة، فتتلقفها الجامعات بكل سهولة ويسر، وقد أخذت هذه الأجيال قسطا لا بأس به من العلم الأساسي والتقني أو الآداب والعلوم والفلسفة، وما إليها. وهنا ندخل للتعليم الجامعي والعالي وما يتبعها.

الدولة السورية منذ بداياتها الأولى حرصت على أن يظل التعليم للجميع حسب المؤهلات، ولا توجد كلفة حقيقية على الطالب وأهله من دفع الأقساط وتوابعها، وكان دائما "العلم للجميع" شعار الدولة السورية. لكن كانت في سوريا جامعة واحدة هي "الجامعة السورية" في دمشق بتخصصات تلك المرحلة. لكن التوسع استمر فتأسست جامعة في حلب وشهدت سنوات السبعينات والثمانينات انتشارا للجامعات في المدن الرئيسة في سوريا بالإضافة إلى أقسام ملحقة بها في كل المحافظات، لكن هذا التوسع الكمي والقبول الواسع لأعداد الطلاب لم يرافقه توسع كيفي، بمعنى أن طرائق التدريس بقيت كما هي طوال خمسين سنة أو أكثر، وكان التخلف في التعليم باديا للعيان وفي معظم الكليات، وكان الكتاب الجامعي الذي يؤلفه الأستاذ المدرس منذ حصوله على شهادة الدكتوراه من البلاد الأجنبية هو ساري المفعول رغم أن المزيد من محتوياته بات متخلفا وعتيقا وتجاوزته الإنجازات، والسبب في عدم تأهيل الوافدين الجدد لسلك التعليم من المدرسين والأساتذة التأهيل الكافي، وعدم إعطاء هؤلاء الاهتمام والرعاية، سواء في الراتب الشهري أو في تزويد المكتبات بالنشرات الدورية والكتب الجديدة والنظريات الجديدة للمجددين في العالم، كل ذلك انعكس على المستوى العام للعاملين في التعليم الجامعي.

SAMEER AL-DOUMY / AFP
أطفال يرفعون أعلام الاستقلال السورية خلال احتفال بسقوط بشار الأسد في ساحة الأمويين بوسط دمشق، 13 كانون الأول 2024، بعد أول صلاة جمعة منذ الإطاحة بالنظام في 8 كانون الأول

أضف لذلك عدم الاهتمام بالبحوث ومراكز البحوث ورفدها بالمختصين والتشاركية بين الأساتذة والطلاب في إدارة حوار علمي حول المواضيع العلمية المطروحة في المنهاج. على الطريقة القديمة، أستاذ يقرأ من كتابه، والطلاب مستمعون وإدارة الحوار بسؤال إذا كان الوقت يسمح، هل لأحدكم سؤال؟ وخلال ساعة ونصف الساعة أو ساعتين يكون الصمت سيد الموقف لأن المتلقي أثبَتَ علم النفس أنه لا يستوعب ما يسمعه إلا في نصف الساعة الأولى ثم يشرد، لأن الصمت هذا لا يحرك الحيوية المطلوبة، وإذن الكتاب وفقط، والطالب عليه أن يحفظ هذا الكتاب، وتصبح الجامعة والكليات قاعة للامتحانات. وبمجرد أن ينتهي الامتحان ترمى الكتب على قارعة الطريق، وعلى الطالب أن ينسى ما سمعه وقرأه خلال العام الدراسي.

وثبت بالدليل القاطع- والتجربة أكبر برهان كما يقال- أن الدروس العملية التشاركية في المدرجات وفي المعامل وفي الندوات لها حضور وتُذكر أكثر من الكتاب الجامعي. ومع ذلك تظل الجامعة ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها، لكن الجامعة تعطي للطالب الأسس العامة التي يمكنه البناء عليها في علومه، إذا ما توسع في التزود بالمعلومات الجديدة في مجال اختصاصه، أفقيا وعموديا، ومن الأسف أن هؤلاء أقلية في مسيرة تعداد الخريجين، وقد جرت إحصائيات غير دقيقة ولكنها معتمدة أن التسرب من التعليم بشكل عام من كل 12 تلميذ يدخل المدرسة يصل منهم الجامعة واحد فقط، وأرجو أن تتغير هذه المعادلة.

مراكز الأبحاث العلمية نادرة في بلادنا وفي جميع التخصصات ونعتمد على ما تنتجه مراكز البحوث في الدول المتقدمة، هذا لو افترضنا أننا نقوم بالترجمة

ومن الأسف أن مراكز الأبحاث العلمية نادرة في بلادنا وفي جميع التخصصات ونعتمد على ما تنتجه مراكز البحوث في الدول المتقدمة، هذا لو افترضنا أننا نقوم بالترجمة، وإخضاع هذه النتاجات البحثية للدراسة والتعمق فيها، ولا توجد ميزانية للبحث العلمي وفي كل التخصصات، وإن وجدت بعض الأبحاث فتتم بمبادرة فردية قد تكون مقبولة، وفي أحيان كثيرة مرفوضة، لأسباب كيدية أو سياسية. كما أن مسألة البحث العلمي تحتاج إلى حرية، وإمكانيات مادية، إذ إن الدول المتقدمة في كل المجالات تخصص نسبة من الناتج القومي الصافي تتراوح بين 1 في المئة و3 في المئة و5 في المئة لقطاع الأبحاث. والجامعات المرموقة تضع في ميزانية الأبحاث نسبة لا بأس بها لقطاع الأبحاث وفي كل المجالات. والأمم لا تتقدم إلا بتوفير نسبة من الميزانية العامة السنوية لقطاع الأبحاث بشكل مستقل بخلاف ما ينفق على التعليم الجامعي، وما قبل الجامعي.

LOUAI BESHARA / AFP
علم سوري كبير يرفرف فوق حديقة تشرين في دمشق، 4 حزيران 2025.

وعملية البحث العلمي هذه قضية مستمرة دون توقف، وإذا كنا بصدد الأبحاث العلمية، فإن الإنجاز يحتاج إلى المزيد من التشاركية، فالبحث الواحد يساهم في إنجازه مجموعة من الباحثين، لأن إنجاز أبحاث مهمة يحتاج إلى اجتماع مجموعة من الباحثين، وليس التغريد خارج السرب واحتكار البحث في شخص أو أشخاص.

إن البدء بتشجيع البحث العلمي يتطلب تعويد الباحثين في بلادنا على التعاون.

font change