العراق... دعوات حصر السلاح بيد الدولة برغماتية سياسية أم خطابات إعلامية؟https://www.majalla.com/node/328874/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%AF%D8%B9%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A8%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A8%D8%B1%D8%BA%D9%85%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%85-%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9%D8%9F
في زحمة السجالات بشأن تشكيل الحكومة العراقية القادمة، بدأت الأنظار تتجه نحو دعوات "حصر السلاح بيد الدولة". والمفارقة أن الدعوات هذه المرة، لم تأت في خطابات شخصيات حكومية وسياسية، تكرر ضرورة حصر السلاح بيد الدولة في كل لقاء تلفزيوني أو دعايات سياسية، وإنما من قادة لفصائل مسلحة شاركت في الانتخابات الأخيرة، وحصلت على مقاعد في البرلمان.
شبل الزيدي قائد "كتائب الإمام علي" الذي يعد الذراع المسلحة لـ"حركة العراق الإسلامية" ويتزعم تحالف "خدمات" الذي حصل على ما يقارب تسعة مقاعد، في انتخابات نوفمبر/تشرين الأول الماضي، نشر عبر صفحته على منصة (X)، مؤكدا على أولويات المرحلة القادمة، ومن ضمنها "حصر السلاح بيد الدولة". وضمن الخطاب نفسه جاء خطاب الشيخ حيدر الغراوي، الأمين العام لـ"المقاومة الإسلامية-حركة أنصار الله الأوفياء" الذي شارك في الانتخابات، ضمن "تحالف الإعمار والتنمية" الذي يترأسه رئيس حكومة تصريف الأعمال محمد شياع السوداني. إذ نشر عبر حساب في منصة (X) مشيرا إلى التمثيل السياسي الذي حازته الحركة في الانتخابات الأخيرة: "هو تفويض شرعي لإدارة الدولة... بالإضافة إلى التأكيد على مبدأ السيادة الكاملة للدولة وحصر السلاح بيدها".
"دعوات حصر السلاح بيد الدولة" صادرة عن "إرادة عراقية" وليست خضوعا للضغوطات الأميركية. والسلاح إذا تم تسليمه سيكون لـ"الحشد الشعبي" وليس لأي مؤسسة أمنية أخرى
الضجة التي أثيرت بعد هذه الدعوات، تم تفسيرها بأكثر من منظور. فسرها خصوم الفصائل المسلحة بأنها بداية لقبول الضغوطات الأميركية التي بدأت تتحول من الرسائل المشفرة وعبر القنوات غير الرسمية، إلى إعلان واضح وصريح عن طريق مصادر دبلوماسية نقلها وزيرا الخارجية والدفاع العراقيان بأن الأميركيين لن يتعاملوا مع الحكومة العراقية القادمة، إذا كان للفصائل المسلحة حضور فيها. ومن ثم بدأ الترويج لها بأنها تنازل عن السلاح استجابة للضغوط الأميركية.
المقربون من الفصائل المسلحة من حاشيتهم الإعلامية، كانت ردود أفعالهم ترفض قبول تفسير الخصوم، وتعد "دعوات حصر السلاح بيد الدولة" صادرة عن "إرادة عراقية" وليس خضوعا للضغوطات الأميركية. والسلاح إذا تم تسليمه سيكون لـ"الحشد الشعبي" وليس لأي مؤسسة أمنية أخرى.
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني (يمين) خلال لقائه مع المبعوث الأميركي الخاص توم باراك في العاصمة العراقية بغداد في 30 نوفمبر 2025.
آخرون، فسروا تصريحات قادة الفصائل بحصر السلاح بيد الدولة، بأنه تحول مهم في خطاب قوى مسلحة، تريد الانتقال من ميدان السلاح إلى ميدان السياسة، لا سيما بعد المكاسب التي حققوها في الانتخابات الأخيرة، رغم رفضهم لحملات السخرية، التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي من تلك الدعوات، ومقارنتها بتصريحات سابقة لقادة فصائل، بعدم تسليم سلاحها ما دام هناك حضور عسكري للأميركيين، أو هذا السلاح هو لحماية تجربة الحكم الشيعي من التهديدات الخارجية.
قوى السلاح في العراق، لديها وجهَان الأول هو وجه حامل البندقية الملثم، أما الثاني فهو الوجه السياسي
أنا الدولة واللادولة أنا
قوى السلاح في العراق، لديها وجهَان الأول هو وجه حامل البندقية الملثم، أما الثاني فهو الوجه السياسي. في الوجه الأول تُعبر عن تغولها على الدولة، رغم أنها تتغلغل داخل مؤسساتها، وتفرض سطوتها عليها، وتريد أن تكون قوة موازية للمؤسسات العسكرية والأمنية. وتسيطر على مشاريع اقتصادية وتفرض هيمنتها على موارد الاقتصاد الريعي. وتعمل كل ذلك تحت سطوة السلاح ورفع شعارات "حماية الوطن" تارة، وحماية مكتسبات الحكم بعد 2003 تارة أخرى. ولكنها أيضاً، وفي الوجه الثاني لها، لديها حضور سياسي ومقاعد داخل البرلمان، وتريد أن تسوّق نفسها بشعارات تدافع عن الدولة والمؤسسات، وضرورة تطبيق القانون، وتدافع عن تجربة العراق "الديمقراطية"، وتدعو إلى احترام "سيادة الدولة"!
ربما هذان الوجهان اللذان يحملهما جسد واحد، لا يشاهدهما قادة الفصائل عندما يقفون أمام مرآة الدولة، فالدولة لا تقبل أن تنعكس صورتها في وجهين. في النهار تعمل قوى السلاح بعناوين سياسية، وفي الليل ترتدي البزة العسكرية، وترفع السلاح وشعارات "المقاومة"! لكن قد تكون متلازمة عمى السلطة، وحالة النكران السياسي التي تصيب من يكون خارج دائرة الحكم والسلطة، بعد الدخول فجأة في امتيازاتها ومغرياتها، وتبدأ نشوة النفوذ والسطوة تعبث بالرؤوس. ومن ثم، تبقى رافضة للاعتراف بالتناقض الذي يجمع بين الدولة واللادولة.
لذلك أصبحت وظيفة قوى السلاح، تنحصر في خلق كيانات موازية تقوم بسلب الدولة، وتعمل على تدمير ثقة المواطن بكل ما له علاقة بعنوان الدولة. فالسلاح تحول من "مقاومة" الاحتلال الأميركي إلى مواجهة خطر الإرهاب، إلى سلب ونهب الدولة لصالح فصائل مسلحة، لها كيان سياسي تعمل على تعظيم مواردها من خلال التعامل مع اقتصاد الدولة بمنطق الغنيمة. ومن ثم، دخلت زعامات السلاح حلبة التنافس السياسي وحصلت على مقاعد في البرلمان، ومناصب عليا في الحكومة. وفرضت نفسها على طاولة تقاسم السلطة، وغيرت عناوينها من قائد الفصيل المسلح إلى "الزعيم السياسي"!
قوى السلاح حوَّلت مؤسسات الدولة إلى هياكل خاوية وديكورات فقط، لأن من يتحكم بالقرار السياسي في العراق، هم زعامات قوى اللادولة. ومن ثم سترفض تلك القوى وزعاماتها أي مشروع للاحتواء السياسي، لأنها تعتقد أن نهاية نفوذها وسطوتها على الدولة ستكون بتنازلها عن سلاحها الخارج عن القانون.
رغم الضجة الإعلامية التي أثيرت على دعوات "حصر السلاح بيد الدولة"، وتضارب التفسيرات وردود الفعل، فإن أي معلومات عن خارطة طريق واضحة أو استراتيجية ترتكز على خطط عملية، وتحدد توقيتات. لا توجد لحد الآن!
الشيطان في التفاصيل
رغم الضجة الإعلامية التي أثيرت حول دعوات "حصر السلاح بيد الدولة"، وتضارب التفسيرات وردود الفعل، فإن أي معلومات عن خارطة طريق واضحة أو استراتيجية ترتكز على خطط عملية، وتحدد توقيتات، لا توجد لحد الآن!
دخول رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان على خط دعوات حصر السلاح بيد الدولة، قد يعطي تأكيداً على وجود مناقشات جديدة لهذا الموضوع. لا سيما بعد حديثه في احتفالية الذكرى السنوية لاستشهاد السيد محمد باقر الحكيم، والذي وجّه فيه شكره إلى "قادة الفصائل على استجابتهم لنصيحته المقدمة إليهم بخصوص التعاون معاً، لفرض سيادة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة، والانتقال إلى العمل السياسي بعد انتفاء الحاجة الوطنية للعمل العسكري".
وفي تصريحه لموقع "قناة رووداو"، حدد القاضي زيدان، الفصائل التي لديها تمثيل سياسي، وتم التحاور مع ممثليها السياسيين الفائزين في البرلمان، وهي "عصائب أهل الحق"، و"كتائب الإمام علي"، و"كتائب سيد الشهداء"، و"كتائب أنصار الله الأوفياء".
وفي لقاء سابق لرئيس الوزراء الأسبق، ورئيس "تحالف دولة القانون" نوري المالكي، أعلن فيه عن وجود اتفاق مع بعض قادة الفصائل على تسليم السلاح المتوسط والثقيل. لكنه لم يحدد من هي تلك الفصائل، ولا كيفية تسليم السلاح، ولا إلى من سيتم تسليم السلاح.
أعضاء من "كتائب حزب الله" خلال جنازة مقاتل قُتل في غارة أميركية، بغداد في 22 نوفمبر 2023
عدا ذلك، لا يوجد حديث عن خارطة استراتيجية وآليات طرحت على طاولة نقاش حوارات قوى "الإطار التنسيقي"، الذي يضم عناوين من الفصائل المسلحة، والتي لديها داخل "الإطار" أكثر من ثمانين نائباً. وربما يكون هذا النقاش مؤجلاً الآن بسبب الانشغال باختيار رئيس الوزراء وتوزيع الوزارات. ولكنّ حوارا جديا وصريحا لم يجر حتى الآن. وقد يكون مطروحا في إعداد برنامج الحكومة القادمة. ومع ذلك سيبقى التساؤل الأهم كيف سيتم نزع سلاح الفصائل، ومن هي الجهة التي ستنفذ تلك المهمة؟ لذلك سيبقى الشيطان يكمن في التفاصيل.
السلاح أم رفاهية السلطة؟
يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن الأمة لا يحصل لها الملك إلا بالمطالبة، والمطالبة غايتها الغَلَبُ والمُلكُ... فإذا حصل الملكُ أقصروا عن المتاعب، التي كانوا يتكلفونها في طلبهِ، وآثروا الراحة والسكون والدعة، ورجعوا إلى تحصيل ثمرات المُلك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور... ويستمتعون بأحوال الدنيا".
هكذا هي أطوار التحول في تاريخ الجماعات، التي تتحول من ساحات الحرب إلى ميدان السياسة، إذ تخبرنا التجارب أن لكل مرحلة شعاراتها، وإذا كانت رايات الفصائل المسلحة تحمل البندقية، فربما في قادم الأيام يتم استبدالها بشعارات تحمل دلالات السلام والتنمية، لا سيما أن موضوع تسليم السلاح، لم يعد خيار رفاهية، ولا هو إدراك سياسي متطور، وإنما هو تحت ضغوطات أميركية واضحة وصريحة، وتفرضه مرحلة جديدة تمر بها بلدان الشرق الأوسط. فهناك محاولات لإعادة رسم ملامح لشرق أوسط جديد، لا مكان فيه لمحاور إقليمية، تهدد النفوذ والمصالح الأميركية ولا حتى حلفاء أميركا في المنطقة. ورغم ذلك، فالرفض لحد الآن هو على وجود السلاح لدى الفصائل، والذي يعمل لخدمة أجندة المحاور الإقليمية، وليس على النفوذ السياسي للفصائل المسلحة في العراق.
تكلفة المواجهة المسلحة مع الجماعات الموازية للدولة ستكون عالية، لكن ما يمكن أن يخفض من خسائرها هو التحالف بين قائد سياسي يؤمن بمشروع الدولة وقائد عسكري يؤمن بضرورة استعادة وظيفة المؤسسة العسكرية ويرفض خضوعها لقوى اللادولة
وقوى السلاح عندما يداهمها خطر انزلاق السلطة من بين يديها، تعود وتتنكر لخطاباتها الحماسية السابقة؛ لأن مكاسب بقائها في السلطة، وتقاسم مغانمها الاقتصادية، يفرض الاختيار بين السلاح أو النفوذ السياسي والمكاسب الاقتصادية، لا سيما أن السلاح قد أدى وظيفته في الوصول إلى المكاسب السياسية، والتي حققت النفوذ والسطوة التي يمكن أن تكون بديلاً عن السلاح، أما المنافع الاقتصادية والانتقال بأسلوب الحياة من العوز إلى ترف المعيشة في القصور وأرتال الحمايات والأرصدة المالية المتضخمة، باتت تفرض الاستمتاع بأحوال الدنيا، كما يقول ابن خلدون.
الاحتواء أم المواجهة؟
يستشعر العراقيون الحاجة إلى وجود الدولة بعد أن تلمسوا مأساة غيابها، ولذلك بدأ التحول في خطاب الطبقة السياسية نحو شعارات الدولة، لكنه لم يتحول إلى سلوك عملي في المواقف السياسية. وقد يبدو نوعا من السذاجة والبلاهة تصديق تلك الخطابات، فالمافيات السياسية لا يمكن لها أن تحمل مشروع بناء الدولة؛ لأن غياب الدولة عن المجال العام، هو الفردوس بالنسبة لها، ووجود الدولة القوية يعني نهاية نفوذها وهيمنتها.
ووفقاً لهذه المعطيات لا يمكن الحديث عن استنساخ تجارب من دول أخرى، لكسب معركة استعادة الدولة، لأن هذه المعركة ذات طابع مركب؛ لأن معطياتها أمنية وعسكرية، وأبعادها سياسية. ولذلك حلولها لا تنحصر بنزع سلاح الجماعات المسلحة والجماعات الخارجة عن القانون، واعتماد سياسات التسريح وإعادة الدمج، ورغم أنها قد تمثّل البداية الصحيحة، لكنها لن تكون ممكنة التطبيق إلا باستعادة قوة الدولة وهيبتها، كي تلوح بخيار المواجهة المسلحة مع جميع الكيانات التي تحمل السلاح خارج إطار الدولة.
ويبدو أن تكلفة المواجهة المسلحة مع الجماعات الموازية للدولة ستكون عالية، لكن ما يمكن أن يخفض من تكاليفها وخسائرها هو التحالف بين قائد سياسي يؤمن بمشروع الدولة وقائد عسكري يؤمن بضرورة استعادة وظيفة المؤسسة العسكرية في حفظ أمن الدولة ومؤسساتها بعيدا عن الطموح السياسي ويرفض خضوعها لقوى اللادولة.
خارطة الطريق لاستعادة الدولة ليست بالمهمة المستحيلة، لكنها لا يمكن أن تكون معركة رابحة إلا بتحقيق التوازن، بين استخدام أذرع الدولة الأمنية، وبالتوازي مع ثلاث خطوات رئيسة: الأولى كسب ثقة المواطن وجعله شريكا وحليفا للحكومة في معركتها ضد قوى اللادولة بكل عناوينها. أما الثانية، فهي تقوم على أساس استدراج القوى السياسية، التي ترفض البقاء ضمن ثنائية الصراع بين الهيمنة على الدولة، ومحاولة إضعافها واستلاب وظيفتها ودورها في المجتمع. والخطوة الثالثة، هي إقناع القوى الإقليمية بأن دعم الحكومة سيكون أكثر جدوى من الرهان، على توفير الإسناد للقوى التي تعمل على إضعاف الدولة.