من جمهورية التحقيقات إلى جمهورية النفوذ... أزمة الدولة العراقية

الانتخابات الأخيرة منحت الفصائل فرصة تاريخية لتحويل قوتها المسلحة إلى شرعية سياسية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
عرض عسكري عراقي خلال مراسم بدء تسليم أرصفة ميناء الفاو الكبير الخمسة من الشركة الكورية المنفذة، في محافظة البصرة جنوب العراق، في 7 نوفمبر2024.

من جمهورية التحقيقات إلى جمهورية النفوذ... أزمة الدولة العراقية

يشهد العراق انتقالا واضحا من مرحلة "جمهوريات التحقيقات"، وهو توصيف يعكس مرحلة كانت فيها الدولة تلجأ إلى لجان شكلية تُستخدم لامتصاص الغضب العام من دون نتائج حقيقية أو تحميل أي جهة مسؤولية، والتي اعتادت فيها الحكومات على معالجة كل خرق أمني أو اغتيال أو قصف عبر لجان شكلية تنتهي بلا نتائج، إلى مرحلة أكثر خطورة يمكن وصفها بـ"جمهورية النفوذ". وهي مرحلة تتقدم فيها القوى المسلحة غير الخاضعة للدولة لتصبح صاحبة القرار الفعلي في السياسة والأمن والاقتصاد، فيما تتراجع قدرة المؤسسات الرسمية على فرض القانون أو حماية المصالح الوطنية الحيوية. هذا التحول لا يقوم على حدث مفرد، بل على تراكمات سياسية وأمنية ظهرت ملامحها بقوة في السنوات الأخيرة، وبرزت خلال العملية الانتخابية الأخيرة، وصولا إلى التصعيد الذي طال البنية التحتية للطاقة في شمال البلاد، بما في ذلك الهجمات المتكررة على حقل كورمور.

وتكمن أهمية حقل كورمور (خور مور) في كونه قلب "مشروع الغاز الكردي" الذي بدأ العمل فيه عام 2007 بعد اتفاق بين حكومة إقليم كردستان وشركتي دانة غاز ونفط الهلال، اللتين حصلتا على حقوق تطوير حقول خور مور وجمجمال. وجرى بناء محطة معالجة الغاز وخط أنابيب بطول 180 كلم يغذي محطات كهرباء في أربيل وبازيان وجمجمال، ما وفر أكثر من 2000 ميغاواط من الكهرباء. توفّر الإمدادات المستمرة من الغاز إلى محطات توليد الكهرباء في أربيل وجمجمال وبازيان الوقود لأكثر من 75 في المئة من إجمالي قدرة توليد الكهرباء في إقليم كردستان العراق، مما يعود بالنفع على أكثر من ستة ملايين نسمة. وفي عام 2009 تأسست شركة "Pearl Petroleum" التي ضمت لاحقا شركات دولية مثل "OMV" و"MOL" و"RWE"، ما جعل المشروع واحدا من أكبر مشاريع الطاقة المتكاملة في الإقليم وأشدها حساسية في ميزان النفوذ بين بغداد وأربيل.

الانتخابات الأخيرة في العراق منحت الفصائل فرصة تاريخية لتحويل قوتها المسلحة إلى شرعية سياسية، بطريقة تشبه "تدوير السلاح" داخل المؤسسات بدل نزعه

 إن ضخامة هذا المشروع وتشابك مصالح الشركات الإقليمية والدولية فيه يفسران تحوله إلى هدف دائم للهجمات، خصوصا خلال العامين الماضيين، حين تحول إلى ساحة صراع مفتوح وأداة ضغط فعالة في معادلة النفوذ بين بغداد وأربيل من جهة، وبين القوى المسلحة المقرّبة من إيران وحكومة الإقليم من جهة أخرى. كما أن استهداف هذا القطاع لا يحمل أبعادا محلية فقط، بل يدخل أيضا في إطار صراع إقليمي أوسع تؤثر فيه حسابات تركيا وإيران وتقاطعات سوق الغاز العالمية، ما يجعل ضرب هذه المنشآت ورقة مساومة تتجاوز حدود العلاقة بين بغداد وأربيل. فاستهداف الحقل لم يعد مجرد أعمال تخريب، بل رسائل سياسية محسوبة نظرا لكونه من أهم روافد إنتاج الغاز المحلي الذي تعتمد عليه محطات الكهرباء في الإقليم، ولأن أي ضرر فيه ينعكس مباشرة على الأمن الطاقوي والاقتصادي في العراق.

سجلت الساحة العراقية سلسلة من العمليات ضد كورمور خلال 2024 و2025، وتؤكد تقارير وكالات دولية مثل "رويترز" التفاصيل الأساسية لهذه الهجمات. ففي 25 يناير/كانون الثاني 2024 تعرض الحقل لقصف مزدوج بالطائرات المسيّرة وصواريخ كاتيوشا أدى إلى أضرار محدودة، ونقلت وكالة "رويترز" تفاصيل الحادث ضمن تغطيتها عن تزايد الهجمات على منشآت الطاقة في الإقليم. وفي 26 أبريل/نيسان من العام نفسه، وقع الهجوم الأخطر عندما استُهدف الحقل بطائرة مسيرة مجهولة ما تسبب في مقتل أربعة عمال يمنيين وإصابة آخرين، وقد وثقت وكالة "أسوشييتد برس" و"بي بي سي" هذه المعلومات، فيما أصدر الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد ورئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني بيانات إدانة رسمية. ثم تجدد الاستهداف في 2 فبراير/شباط 2025 عبر طائرة مسيرة أخرى، وفق التقارير المنشورة في وسائل إعلام دولية مثل "رويترز".

رويترز
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يعقد مؤتمرا صحفيا مشتركا مع نظيره الكردي مسرور بارزاني في بغداد، العراق، 4 أبريل 2023.

أما الهجوم الأخير الذي وقع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، فيأتي ضمن نمط تصعيدي واضح يهدف إلى تكريس ميزان قوى جديد تُظهر فيه الفصائل المسلحة قدرتها على تعطيل قطاع حيوي مرتبط بإنتاج الغاز وتغذية محطات الكهرباء. وبغضّ النظر عن الجهة المنفذة، فإن تكرار الضربات بهذا التوقيت يرسل رسالة مفادها أن الدولة ليست صاحبة القرار الكامل في حماية قطاع الطاقة ولا في ضبط حدود الصراع بين بغداد وأربيل. كما يعزز هذا النوع من الهجمات الانطباع بأن العراق يتحول تدريجيا من دولة تُفترض فيها سيادة الحكومة المركزية إلى ساحة نفوذ تتشارك فيها الأطراف المسلحة سلطة القرار.

جمهورية النفوذ

بعد استعراض الهجمات على حقل كورمور وأبعادها المحلية والإقليمية، يظهر بوضوح كيف يتحول النفوذ الميليشياوي إلى سلطة سياسية مؤثرة داخل الدولة. إن التزامن بين صعود نفوذ الفصائل الموالية لإيران انتخابيا وسياسيا، وبين توسع قدرتها العملياتية على ضرب منشآت حيوية، لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد تطور ميداني، بل بوصفه امتدادا لمنطق جديد في توزيع السلطة داخل العراق. فالانتخابات الأخيرة منحت تلك الفصائل فرصة تاريخية لتحويل قوتها المسلحة إلى شرعية سياسية، بطريقة تشبه "تدوير السلاح" داخل المؤسسات بدل نزعه، وهي عملية كان معهد واشنطن قد حذر منها في تحليلات سابقة حول كيفية استثمار هذه الجماعات لصناديق الاقتراع كمسار موازٍ لترسيخ هيمنة ميدانية سابقة.

يؤدي التداخل بين الصناديق والسلاح إلى إعادة تعريف ما يعنيه احتكار الدولة للقوة. فبدلا من أن تعمل الانتخابات على تعزيز المؤسسات، أصبحت تُستخدم لتوفير غطاء رسمي للبنى المسلحة

في واقع الأمر، لم يعد النفوذ السياسي لهذه الفصائل منفصلا عن قدراتها العسكرية، بل أصبح الاثنان يشكلان بنية واحدة تتوسع داخل الدولة وخارجها. فالكتلة البرلمانية التي تمكنت الفصائل من بنائها خلال انتخابات 2025 منحتها قوة تفاوضية غير مسبوقة، استخدمتها لفرض شروطها على السلطة التنفيذية، وفي الوقت نفسه وفرت لها مظلة رسمية تسمح بمواصلة العمل المسلح من دون كلفة سياسية. ومع كل مقعد برلماني يُضاف إلى هذا التحالف الواسع، تصبح القدرة على محاسبة الفاعلين المسلحين أشبه بمهمة مستحيلة، لأن من يفترض بهم مراقبة السلطة هم جزء عضوي من مراكز القوة الموازية.

أ.ف.ب
تصاعد الدخان من منشأة نفطية متضررة في حقل سرسنك النفطي، إثر هجوم بطائرة مسيرة على منطقة شمانكي قرب مدينة دهوك الكردية في إقليم كردستان العراق، في 17 يوليو 2025.

هذا التشابك يجعل استهداف منشآت الطاقة ليس فقط عملا عسكريا، بل امتداد لنفوذ تشريعي يحدد من يملك حق القرار داخل الدولة. فحين تستخدم الفصائل القوة الصلبة عبر الطائرات المسيّرة، وتستخدم في الوقت نفسه القوة الناعمة عبر البرلمان والإعلام واللجان الحكومية، يصبح تأثيرها مركبا، ويتحول ملف الطاقة إلى ساحة تختبر فيها الفصائل حدود نفوذها وحدود قدرة الدولة على الاستجابة. والرسالة التي تبعثها هذه الهجمات ليست أمنية فقط، بل سياسية: "صنع القرار الاستراتيجي، بما فيه المتعلق بالطاقة، لم يعد حكرا على الحكومة".

يؤدي هذا التداخل بين الصناديق والسلاح إلى إعادة تعريف ما يعنيه احتكار الدولة للقوة. فبدلا من أن تعمل الانتخابات على تعزيز المؤسسات، أصبحت تُستخدم لتوفير غطاء رسمي للبنى المسلحة، بطريقة تخلق واقعا هجينا: حكومة تتحدث بلغة الدولة، وفصائل تتصرف على أرض الواقع كسلطة أمر واقع. وفي مثل هذا السياق، تتآكل قدرة الحكومة على تنفيذ أي إصلاح أمني أو اقتصادي، لأن من يملك السلاح يملك، عمليا، حق النقض غير المعلن.

يبدو أن العراق يدخل مرحلة جديدة لا تحكمها نتائج الانتخابات وحدها، بل من يحتفظ بالقدرة على فرض أمر واقع عبر أدوات ميدانية

وما يزيد خطورة هذا المسار أن الهجمات على منشآت الطاقة تكشف انتقال الفصائل من مرحلة التأثير التكتيكي إلى مرحلة التأثير الاستراتيجي. فهذه الضربات لم تعد ردود فعل ظرفية، بل أدوات ضغط سياسية تستخدم لإعادة رسم العلاقة بين بغداد وأربيل، وبين العراق وشركائه الدوليين، وحسم الملفات الكبرى خارج الأطر المؤسسية. ومع كل هجوم جديد، يتعمق شعور عام بأن الدولة تخسر آخر ما تبقى من احتكار القرار الأمني، وأن الفصائل تتحرك بثقة سلطة تعتبر نفسها شريكا إجباريا، لا منافسا للدولة.

إن هذا المشهد يعيد إلى الواجهة سؤالا ظل يُطرح منذ سنوات: هل ما يزال بإمكان الدولة العراقية استعادة حدود سلطتها، أم إننا أمام لحظة انتقال بنيوي إلى نموذج يصبح فيه النفوذ السياسي امتدادا مباشرا للسلاح؟ وفي بلد تتعرض فيه منشآت الغاز والقواعد العسكرية والمشاريع الاستراتيجية لهجمات يمكن توقيتها لخدمة مفاوضات سياسية، يبدو أن الجواب يزداد ميلا نحو الصورة الأكثر قتامة، حيث تصبح "جمهورية النفوذ" أكثر رسوخا من الجمهورية الرسمية ذاتها.

إن هذه المرحلة لا تهدد مفهوم السيادة فحسب، بل تعيد تشكيل طبيعة الحكم في العراق. فحين تُستخدم الشرعية الانتخابية لتكريس قوة ميدانية خارجة عن الدولة، يصبح المستقبل السياسي للبلاد مرهونا بميزان قوة يتغير على الأرض أكثر مما يتغير في البرلمان، ما يفتح الباب أمام نموذج حكم يستمر فيه تآكل المؤسسات، ويتحول فيه قطاع الطاقة، الذي يمثل شريان الاقتصاد العراقي، إلى ورقة مساومة دائمة بين الأطراف المتنافسة.

يبدو أن العراق يدخل مرحلة جديدة لا تحكمها نتائج الانتخابات وحدها، بل من يحتفظ بالقدرة على فرض أمر واقع عبر أدوات ميدانية. ومع كل هجوم جديد على كورمور تتكرس صورة بلد يعيش في "جمهورية النفوذ"، حيث يتقدم منطق القوة على منطق الدولة، وتصبح المؤسسات الدستورية أقل قدرة على حماية مصالح الشعب أو صون السيادة.

هذه المرحلة الخطيرة تستدعي قراءة جديدة للمعادلة العراقية، ليس بوصفها مشكلة أمنية فحسب، بل بوصفها أزمة بنيوية تهدد شكل الدولة نفسها، وتعيد رسم مفهوم السلطة وتوزيع القوة في العراق لعقود مقبلة.

font change