إذا كان النحت هو فن تحويل الجماد إلى كتلة ناطقة بالمعنى والجمال، فإن هذا الفن يتخذ في غزة معنى آخر أكثر عمقا ودلالة خلال الحرب، وذلك بالتقاطع مع انهيار الحجر نفسه تحت القصف، وتبعثر الأجساد تحت أنقاض المباني. النحات هنا يحاول بناء الحياة في لحظة تمارس فيها أقصى عمليات المحو، ليصبح النحت شهادة حية، وصراعا بين قوتين: قوة اليد التي تبني، وقوة اليد التي تواصل صنع الدمار.
النحاتة الفلسطينية أمل الكحلوت ترى في النحت فعل بناء للحضارة والإنسان، وكذلك النحات مصطفى مهنا، الذي فقد محترفه تحت الأنقاض ثم عاد لينقذ مشروعه من الركام ذاته. رؤيتان تتقاطعان في الألم، لكنهما تختلفان في الوسيط، وفي معنى الاستمرار، وفي قدرة النحت على تجديد رؤيته وسط الخراب.
فعل بناء
تقول أمل الكحلوت لـ"المجلة" إن النحت بالنسبة إليها "ليس مجرد تشكيل جمالي، بل تأسيس للعالم من جديد. هو بناء للحضارة والإنسان، ولعب بالمعنى وبالشكل من أجل إيصال فكرة الوجود ذاته". ترى التناقض واضحا بين ما تفعله الحرب من حيث الهدم وما يفعله النحت من حيث البناء وإعادة تركيب الثقافة والحفاظ على التراث: "كل ضربة صاروخية تحاول محو الذاكرة"، لكن كل لمسة من يديها تحاول إعادة تشكيلها. من هنا، يظهر النحت قيمة مضادة للدمار، وشهادة ضد الجريمة التي ينفذها الاحتلال في حق المكان والإنسان.
أما مصطفى مهنا فيبدأ من تجربة فقد، وذلك بعد تدمير محترف “شبابيك”، تلك المساحة التي احتضنت مشروعه النحتي حول علاقة الجسد بالمباني المدمرة. حين رآه مدمرا تحت الركام، شعر أن خسارته تتجاوز المكان لتطول الرسالة ذاتها. لكنه في لحظة ما، أمام الأنقاض، تذكّر ذاته، واستعاد وعيه بفلسفة النهوض من الركام. لم يكن هذا ممكنا في الأشهر الأولى من الحرب، حين كان همّه النجاة وتأمين الطعام والهروب من مكان إلى آخر. لكن الوقوف أمام محترف محطم دفعه إلى قرار: حتى لو ذهب المكان، يجب أن تبقى الرسالة.