نحّاتان فلسطينيان يحولان ركام غزة إلى شاهد على فظاعة الحرب وإرادة الحياة

أمل الكحلوت ومصطفى مهنا وصناعة المعنى في قلب الركام

AFP
AFP
طفل فلسطيني يجلس بين أنقاض منزل ممسكا بكتاب بعد غارة ليلية على مخيم النصيرات وسط غزة، 29 أبريل 2025

نحّاتان فلسطينيان يحولان ركام غزة إلى شاهد على فظاعة الحرب وإرادة الحياة

إذا كان النحت هو فن تحويل الجماد إلى كتلة ناطقة بالمعنى والجمال، فإن هذا الفن يتخذ في غزة معنى آخر أكثر عمقا ودلالة خلال الحرب، وذلك بالتقاطع مع انهيار الحجر نفسه تحت القصف، وتبعثر الأجساد تحت أنقاض المباني. النحات هنا يحاول بناء الحياة في لحظة تمارس فيها أقصى عمليات المحو، ليصبح النحت شهادة حية، وصراعا بين قوتين: قوة اليد التي تبني، وقوة اليد التي تواصل صنع الدمار.

النحاتة الفلسطينية أمل الكحلوت ترى في النحت فعل بناء للحضارة والإنسان، وكذلك النحات مصطفى مهنا، الذي فقد محترفه تحت الأنقاض ثم عاد لينقذ مشروعه من الركام ذاته. رؤيتان تتقاطعان في الألم، لكنهما تختلفان في الوسيط، وفي معنى الاستمرار، وفي قدرة النحت على تجديد رؤيته وسط الخراب.

فعل بناء

تقول أمل الكحلوت لـ"المجلة" إن النحت بالنسبة إليها "ليس مجرد تشكيل جمالي، بل تأسيس للعالم من جديد. هو بناء للحضارة والإنسان، ولعب بالمعنى وبالشكل من أجل إيصال فكرة الوجود ذاته". ترى التناقض واضحا بين ما تفعله الحرب من حيث الهدم وما يفعله النحت من حيث البناء وإعادة تركيب الثقافة والحفاظ على التراث: "كل ضربة صاروخية تحاول محو الذاكرة"، لكن كل لمسة من يديها تحاول إعادة تشكيلها. من هنا، يظهر النحت قيمة مضادة للدمار، وشهادة ضد الجريمة التي ينفذها الاحتلال في حق المكان والإنسان.

أما مصطفى مهنا فيبدأ من تجربة فقد، وذلك بعد تدمير محترف “شبابيك”، تلك المساحة التي احتضنت مشروعه النحتي حول علاقة الجسد بالمباني المدمرة. حين رآه مدمرا تحت الركام، شعر أن خسارته تتجاوز المكان لتطول الرسالة ذاتها. لكنه في لحظة ما، أمام الأنقاض، تذكّر ذاته، واستعاد وعيه بفلسفة النهوض من الركام. لم يكن هذا ممكنا في الأشهر الأولى من الحرب، حين كان همّه النجاة وتأمين الطعام والهروب من مكان إلى آخر. لكن الوقوف أمام محترف محطم دفعه إلى قرار: حتى لو ذهب المكان، يجب أن تبقى الرسالة.

النحت ليس مجرد تشكيل جمالي، بل تأسيس للعالم من جديد. هو بناء للحضارة والإنسان، ولعب بالمعنى وبالشكل من أجل إيصال فكرة الوجود ذاته

أمل الكحلوت

قبل الحرب، كانت أمل الكحلوت تنحت الإنسان من الداخل، بحثا عن الحلم والطموح وغوصا في تناقضات الوجود. كانت ترى في النحت مساحة للشعور بالحب، وتجسيد الأمل، واستكشاف الذات من الداخل إلى الخارج. لكن الحرب قلبت المعادلة. اليوم، كل ما تحاول قوله عبر الطين هو الموت: "هكذا نموت. هكذا نسقط أمام أعينكم. هكذا نباد. لم يعد النحت مشروعا جماليا، بل صار شهادة مرئية على سقوط الإنسان في زمن الإبادة".

AFP
رجل فلسطيني يقف بجانب كرسي متحرك فارغ عقب انفجار في حي الصفطاوي شمال غزة، 25 أغسطس 2025

مصطفى مهنا يشهد تحولا مشابها ولكن عبر خط آخر. قبل الحرب، كان النحت بالنسبة إليه حياة في حد ذاته، مساحة للهروب من الواقع، وممارسة تحتاج إلى ورشة ووقت. خلال الحرب، صار عليه تغيير الخامات نفسها: "لم يعد الطين وسيطا كافيا للتعبير". فاتجه إلى الركام، إلى صناديق المساعدات، وإلى ما يتوفر من أدوات يمكن تدويرها للنحت بعد هدم البيوت. هكذا أصبح العمل أكثر صدقا، لأنه يخرج من التجربة نفسها، لا من رموز بعيدة عنها. ومع ذلك، يظل لديه شعور عميق بأن "لا شيء يمكن أن يعبّر عما عشناه ونعيشه من بشاعة".

المواد بين الطين والركام

النحات في غزة يواجه سؤالا ماديا أيضا: من أين يأتي بمواده؟ أمل الكحلوت تجمع الطين والحجارة من تحت بيوت دمرت بالقصف. ترى في ذلك معنى إضافيا: "في ذلك خروج الحياة من بين أنياب الموت، عودة التشكيل من تحت الأنقاض". لا شك أن المنحوتات التي تخرج من هذا الطين تحمل صرخة لا يمكن كتمها، بل  تحمل شكل الانكسار والألم، لكن في ثناياها تكمن أهمية إضافية، لأنها صنعت من بقايا عالم ينهار أمام الشاشات.

أما مصطفى مهنا فيرى أن الطين لم يعد قادرا على تصوير الكارثة. "النحت كتلة صامتة جامدة بينما الحرب حركة مستمرة تهدم أكبر مساحة وتقتل أكبر عدد". لذلك لجأ إلى الركام نفسه، وإلى وسائط جديدة، ليصنع منحوتاته. يفكر مهنا حتى في دمج النحت بالوسائط الرقمية، حفاظا على العمل من أن يدمر ثانية. يقول: "الفن يحتاج إلى وسيط قادر على النجاة مثلما يحتاج الإنسان إلى ذلك".

AFP
طفل فلسطيني يهرب من موقع غارة إسرائيلية استهدفت مبنى من ستة طوابق في الصفطاوي شمال غزة، 19 أغسطس 2025

تصف أمل الكحلوت كيف شوّهت الحرب خيالها. تقول: "لم أعد أرى الأشكال كما كانت"، إذ فرضت الحرب عليها معنى قبيحا، وقيدت قدرتها على التخيل، ووضعتها في أقفاص الحياة اليومية المليئة بالمهام الإنسانية الثقيلة. "أنا امرأة قبل أن أكون فنانة، أحمل أعباء الحرب وآلامها، وهذا يضعف قدرتي على التحليق الحر الذي يطمح إليه الفن".

عندما أنحت أجسادا، أشعر أن الجسد لا يكتمل. فالمشاهد القاسية التي أراها يوميا تجعلني عاجزا عن تمثيل الجسد كاملا

مصطفى مهنا

في المقابل، يرى مصطفى مهنا أن النحت يحتاج إلى طاقة أكبر من الرسم، وأن المجاعة أثرت على إنتاجه. يوضح: "عندما أنحت أجسادا، أشعر أن الجسد لا يكتمل. فالمشاهد القاسية التي أراها يوميا تجعلني عاجزا عن تمثيل الجسد كاملا".

لطالما ارتبط النحت، في التجربة الفلسطينية، بالذاكرة. توضح أمل الكحلوت: "كان النحت وسيلة لتجسيد الثقافة الفلسطينية وإعادة تشكيلها كلما تغيّر الواقع. لكن هذه الحرب زادت المخاوف الكبرى: "الخوف على الفكرة الفلسطينية، على الوجود الفلسطيني، وحتى على العمل الفني نفسه". في النزوح، يصعب نقل المنحوتات أو الاحتفاظ بها. لذلك ترى الكحلوت أن "مسؤولية النحات أصبحت الحفاظ على فكرة وجوده في النحت، كي تبقى الثقافة الفلسطينية متجذرة رغم كل المحو".

مصطفى مهنا يرى المسألة بطريقة أخرى: "مسحت الحرب الكثير من الذاكرة". فلم يعد ممكنا أن ينحت أشياء من حياته السابقة: "أصبحت المباني المدمرة والطرق المحروقة هي المشهد اليومي، وهي التي تبني رموزا جديدة". في مشروعه المقبل، سيحاول إعادة إنتاج ذاكرة المكان، لكن عبر دمج النحت بالنمذجة الرقمية. يوضح لنا: "النتيجة ستكون رقمية، كي نحافظ على العمل من الدمار والهدم".

الرعب الذي يتجاوز الفن

"حتى الجمادات تأثرت بالحرب"، تقول أمل الكحلوت. ترى أن الرعب والخوف والقلق أعادت صوغ الوجود كله، بما في ذلك المنحوتة نفسها: "الفن هنا يواجه أسئلة إنسانية كبرى: معنى الوجود، معنى الإنسانية، معنى القوانين الدولية التي لم تحم أحدا من الإبادة". اليد التي لا تتحرك، اليد المشلولة، هي رمز لخذلان العالم أمام موت الفلسطيني.

AFP
طفلان فلسطينيان يعبران الركام حاملين أكياسا في حي التفاح بغزة، 14 أغسطس 2025

يروي مصطفى مهنا كيف نجا من الموت مرات عدة، كيف حاصرته الدبابات، وكيف اقتحمت القذائف بيته: "ليس في مقدور النحت، أو أي فن آخر، وصف هذه اللحظات. حتى لو صار فإنه لن ينصف التجربة". يضيف: "هناك لحظات من الرعب لا يقدر أي وسيط فني على الإمساك بها".

في هذا التوازي بين صوتَي أمل الكحلوت ومصطفى مهنا، نلمس اختلافا في الوسيط والرؤية، لكن يبقى هنالك اتفاق في الجوهر، حيث يبقى النحت فعل وجود في مواجهة الإبادة

حول مفهوم النحت في زمن التدمير،  ترى أمل الكحلوت أن النحت في زمن الحرب يعكس ذات الفنان وجرحه، بل يحمل خطابا أوسع مما يقال: "هو رسالة مجتمع يحاول الاحتفاظ بهويته ووجوده. وفي لحظة يصبح ردا أبلغ على العالم الصامت، حوارا مع الخيال العالمي، احتجاجا على الإبادة وعلى الصمت الدولي".

أما مصطفى مهنا، فيرى أن الفن بالنسبة اليه وسيلة بقاء، يحافظ من خلاله على هويته وعقله. يقول: "لطالما كان  الفن تحديا وشرحا لواقع قد يبلغ أحيانا حدّ السوريالية. فما كان يظن خيالا صار واقعا في لحظة واحدة".

AFP
شاب فلسطيني وسط الركام بعد انفجار في حي الصفطاوي شمال غزة، 25 أغسطس 2025

تكمن ميزة النحت، في العدد اللا نهائي لزواياه، بفضل التشكيل الثلاثي الأبعاد، وبالتالي ضمان عدم إبادة المعنى، حتى لو فعلت الحرب ذلك. ترى أمل الكحلوت أن النحت سيظل وسيلة للحياة شاهدة على الجريمة، وحافظة للثقافة الفلسطينية. أما مصطفى مهنا، فيقول إن ما تبقى لينحته هو "أجساد منهوشة، أوان فارغة، ملامح مشوهة كملامح المدينة". ومع ذلك، يؤمن أن الفن سيبقى في غزة، لأنه وسيلة من وسائل النجاة. لكن الخامات ستتغير.

في هذا التوازي بين صوتَي أمل الكحلوت ومصطفى مهنا، نلمس اختلافا في الوسيط والرؤية، لكن يبقى هنالك اتفاق في الجوهر، حيث يبقى النحت فعل وجود في مواجهة الإبادة. إذ تنحت الكحلوت لتشهد على الجريمة وتبني من جديد ذاكرة فلسطينية من الحجر والطين، فيما ينحت مهنا ليبني ذاكرة جديدة من الركام ويطمح لأن يكون النحت رقميا، فمن السهل أن تنزح صورة، لكن من المستحيل أن تنجو منحوتات من الطين والحجر بينما مدينة كاملة تتعرض للتدمير. كلاهما يحاول أن يقول: إن كنا نباد هنا، فإن أشكالنا ستبقى، بأصابعنا أو بأدوات أخرى، تلك طريقة الفنان الفلسطيني في إخبار العالم أن غزة قاومت الموت حتى في الطين والركام.

font change