مهرجانات موسيقية عالمية تتحول منصات تضامن مع فلسطين

وعي شبابي جديد يوظف الفن في مواجهة الحرب

GettyImages
GettyImages
نيلوفر يانجا ترفع لافتة تدعو الى تحرير فلسطين خلال اليوم الرابع من مهرجان غلاستنبري في وورثي فارم، بيلتون

مهرجانات موسيقية عالمية تتحول منصات تضامن مع فلسطين

في صيف هذا العام، تحولت المهرجانات الموسيقية الكبرى حول العالم إلى أكثر من مجرد مساحات للاحتفال والترفيه، إذ أصبحت منصات للتعبير السياسي والإنساني، تعكس تضامنا واسعا مع القضية الفلسطينية تزامنا مع الحرب الوحشية في قطاع غزة. من أوروبا إلى مختلف القارات، رفع الفنانون والجماهير الأعلام الفلسطينية وهتفوا بشعارات مؤيدة، مؤكدين أن الموسيقى ليست فقط وسيلة للمتعة، بل أداة فاعلة للتغيير الاجتماعي والاحتجاج السلمي في وجه الظلم.

تعكس هذه الموجة التضامنية قدرة الفن على تجاوز حدود الأداء التقليدي ليصبح فضاء حقيقيا للتوعية والتعبير السياسي، حيث تحول الجمهور من متلق سلبي إلى فاعل نشط يساهم في تشكيل الرسائل والمواقف الإنسانية. كل هذا يقودنا الى التساؤل: ما أبرز مظاهر هذا التضامن مع فلسطين في المهرجانات الصيفية الكبرى لعام 2025؟ وما الأبعاد الاجتماعية والثقافية التي صاحبتها؟ وما التحديات والنقاشات التي برزت حول هذه الظاهرة؟

منابر للتضامن

على مدار عقود طويلة، مثلت المهرجانات الموسيقية الكبرى فضاءات تجمع الناس من مختلف الثقافات للاستمتاع بالموسيقى والفن، وكانت في غالب الأحيان بعيدة عن السياسة، أو تحاول أن تبقي حيادها. لكن صيف 2025 شهد تحولا واضحا في هذا المنحى، حيث أصبحت هذه الفعاليات محطات تعبير سياسي حقيقي، خصوصا في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي الأخص الأوضاع المأسوية في غزة.

يمكن اعتبار مهرجان "باليو" Paléo السويسري أحد أبرز الأمثلة على هذا التحول. فقد خرج هذا المهرجان العريق، الذي استضاف مئات الفرق والفنانين على مدى أكثر من أربعين عاما في أجواء احتفالية، من نطاق الفن الخالص إلى الفضاء السياسي والإنساني. تجلى ذلك من خلال الانتشار الكثيف للأعلام الفلسطينية التي رفعت بين الحضور، وتزيين الخيام بها، إضافة إلى وجود فنانين مؤيدين للقضية الفلسطينية. كان من بينهم الفنان السويسري-الفرنسي المغربي سامي غالب الذي استقطب جمهورا كبيرا يحمل الأعلام الفلسطينية، والفنان الأميركي ماكلمور الذي صدح بشعارات "Free Palestine" (فلسطين حرة) وسط تفاعل حماسي.

صيف 2025 شهد تحولا واضحا في هذا المنحى، حيث أصبحت هذه الفعاليات محطات تعبير سياسي حقيقي، خصوصا في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي

ورغم أن إدارة "باليو" شددت على أن المهرجان لا يتدخل في السياسة ولا يتبنى مواقف حزبية، إلا أن الواقع الفني والاجتماعي أكد عكس ذلك، حيث عبرت العروض الفنية والمواقف الشعبية بوضوح عن دعم القضية الفلسطينية، مما يعكس وعي الجمهور والتزام الفنانين.
هذا النموذج لم يكن فريدا، فقد شهدت فرنسا موجة مماثلة في مهرجانات كبرى مثل"فرانكوفيل" Francofolies  في مدينة لاروشيل، حيث شارك الفنان الفلسطيني Saint Levant (مروان عبد الحميد) في حفل موسيقي أظهر دعمه لفلسطين عبر الرقصات والأزياء الرمزية، وسط ردود فعل متفاوتة من الجمهور ووسائل الإعلام.

@macklemore/Instagram
مهرجان باليو

كما انتشرت الأعلام الفلسطينية وشعارات "فلسطين حرة" في مهرجانات We Love Green  وHellfest  وLollapalooza  في باريس، التي تحولت بدورها إلى منصات تعبير عن نبض الشارع العالمي تجاه القضية الفلسطينية. وفي بريطانيا، شهدت مهرجانات مثل  Glastonbury  حضورا واضحا للحركات التضامنية، حيث رفع الفنانون والجماهير شعارات مناهضة للحرب، مطالبين بوقف العنف وتحقيق السلام.

كل هذه المهرجانات الكبرى في صيف 2025 صارت بمثابة فضاءات تلتقي فيها الموسيقى والوجدان الجمعي مع السياسة والإنسانية، مؤكدة أن الفن لا يمكن أن يكون منعزلا عن الواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه المجتمعات.

الجمهور والشباب

في المهرجانات الموسيقية الكبرى لهذا العام، شارك آلاف الحضور في رفع الأعلام الفلسطينية، وترديد الشعارات المؤيدة، وتنظيم حملات توعية وجمع تبرعات لصالح المتضررين في غزة، مما جعل منها مراكز حيوية للحراك التضامني. وانتشرت هذه المشاهد ليس فقط داخل المهرجانات بل على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تداول الجمهور مقاطع فيديو وصورا تبرز حجم التضامن.

GettyImages
مغني الراب الفلسطيني سان لوفان يؤدي على المسرح خلال مهرجان لولابالوزا، باريس

لا شك أن الشباب لعبوا دورا محوريا في هذا الحراك الموسيقي التضامني. فقد برز وعيهم السياسي والاجتماعي، متأثرين بحركات اجتماعية سابقة مثل "حياة السود مهمة" و"جمعة من أجل المستقبل"، مما جعلهم أكثر حساسية للظلم وللقضايا الإنسانية العادلة، وأكثر قدرة على التعبير عنها بشكل حي وفاعل. هذا الحضور الشبابي الطاغي ساهم في تكوين وعي جماهيري متنام، جعل من المهرجانات منصة حيوية لإيصال صوت فلسطين إلى الجماهير العالمية، وتعزيز التضامن العابر للحدود الثقافية والجغرافية.

لعب الشباب دورا محوريا في هذا الحراك الموسيقي التضامني. فقد برز وعيهم السياسي والاجتماعي، متأثرين بحركات اجتماعية سابقة

تجدر الإشارة إلى أن هذا الحراك الجماهيري عبر الموسيقى كان مصحوبا باستخدام مكثف لمنصات التواصل الاجتماعي مثل "إنستاغرام" و"تويتر" و"يوتيوب"، حيث شارك الحضور مقاطع فيديو تظهر اللحظات التضامنية، فتنتشر هذه الصور والفيديوهات بسرعة، مما يخلق حالة من الوعي العالمي والتفاعل المستمر. كما ساهمت هذه الديناميكية الرقمية في تسريع ونشر رسالة التضامن، مما عزز تأثير المهرجانات إلى ما بعد حدودها الجغرافية.

@macklemore/Instagram
ماكلمور في مهرجان باليو

من جهة أخرى، نظم بعض الحضور فعاليات مصاحبة ضمن المهرجانات، مثل ورشات حوارية وجلسات تعريف بالقضية الفلسطينية، مع عرض مقاطع وثائقية أو نشر كتب ومقالات توضح السياق التاريخي والسياسي للصراع، مما أضاف عمقا معرفيا ومشاركة أكثر وعيا.

بين الحياد والمسؤولية الأخلاقية

مع تصاعد حضور القضية الفلسطينية في المهرجانات، ظهرت جدالات بين من يرى ضرورة إبقاء الفعاليات الفنية محايدة بعيدا من السياسة، ومن يرى أن الفن يحمل مسؤولية أخلاقية في التعبير عن الظلم والقهر.

GettyImages
بوب فايلان يلوّح بالعلم الفلسطيني أثناء أدائه على مسرح ويست هولتس في اليوم الرابع من مهرجان غلاستنبري

في الواقع، تواجه إدارات المهرجانات الكبرى تحديا حقيقيا في التوفيق بين حرية التعبير الفنية وضرورة الحفاظ على الطابع الاحتفالي للفعاليات، مع احترام القوانين المحلية في البلدان المضيفة. فعلى سبيل المثل، أكدت إدارة مهرجان "باليو" أنه منصة للتنوع والتعددية، وأن التعبير الحر حق للجميع، مع ضرورة تحقيق توازن يحفظ أجواء الاحتفال. لكن الجدال لا يقتصر فقط على الجانب التنظيمي، بل يشمل صراع القيم والمواقف بين الجمهور والفنانين. إذ تشكل المهرجانات الكبرى الآن فضاءات لتعزيز التعددية والاختلاف، تعكس نبض المجتمعات وقضاياها الحقيقية، وتؤكد دور الموسيقى كجسر ثقافي وإنساني يمكنه التأثير على الوعي الجمعي ودعم القيم العالمية مثل الحرية والكرامة والعدالة.

هذه الظاهرة تؤكد أن الموسيقى والفن يحملان قوة تأثير عاطفية وثقافية هائلة، تجعل منهما أدوات أساسية في مسيرة النضال الإنساني من أجل عالم أفضل

يذكر أن هذه التحولات ليست جديدة في تاريخ الفن، بل هي امتداد لمسيرة طويلة من ارتباط الموسيقى بحركات اجتماعية وسياسية عبر التاريخ، من أغاني حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة التي نادت بالمساواة والعدالة، إلى أغاني المقاومة في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، وصولا إلى الأغاني الاحتجاجية التي رافقت الثورات والاحتجاجات حول العالم. وهذا السياق التاريخي يضع المهرجانات الحالية في إطار فهم أعمق لدور الفن في تعزيز الوعي المجتمعي والتأثير على مسارات الصراعات السياسية والاجتماعية.

GettyImages
لافتة كُتب عليها "Free Palestine - Stop Genocide" خلال أداء مغني الراب الأميركي ماكلمور في مهرجان مفتوح حضره نحو 60 ألف شخص

إذن، شهد صيف 2025 تحولا تاريخيا في علاقة الموسيقى بالقضايا الإنسانية والسياسية. فقد تحولت المهرجانات الموسيقية الكبرى، بشكل غير مسبوق، من فضاءات احتفالية بحتة إلى منصات تضامن عالمي، تعكس رفض المجازر والعنف في فلسطين، وتطالب بالسلام والعدالة، عبر صوت الفنانين وجماهيرهم، بحيث اجتمعت إرادة عالمية مؤثرة تدعو إلى احترام حقوق الإنسان وكرامة الشعوب.

هذه الظاهرة تؤكد أن الموسيقى والفن يحملان قوة تأثير عاطفية وثقافية هائلة، تجعل منهما أدوات أساسية في مسيرة النضال الإنساني من أجل عالم أفضل. والمأمول في المستقبل أن تستمر هذه المهرجانات في لعب دور محوري في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي، عبر تجسيد صوت الشعوب المضطهدة، ونشر قيم التضامن والحرية والكرامة، ليظل الفن دوما في طليعة المعركة من أجل العدالة والسلام.

font change