مستشرقون بين نقد التراث و"العولمة الروحية"

رينان وماسينيون ورودنسون في ثلاثة كتب

مستشرقون بين نقد التراث و"العولمة الروحية"

قبل أن يغادر الكاتب والناقد السعودي معجب الزهراني منصبه كمدير عام لمعهد العالم العربي في باريس ترك أثرا مميزا، في إدارته، من خلال إصدار سلسلة كتب بعنوان "ألف كتاب وكتاب"، بالتعاون مع جائزة الملك فيصل العالمية، لذا قدّم مع الأمين العام للجائزة عبد العزيز السبيل لهذه السلسة.

يتمثل المشروع في اختيار شخصيات فكرية وأدبية وفنية وبحثية للتعريف بها، منها ستون شخصية عربية للكتابة عنها باللغة الفرنسية، وأربعون شخصية فرنسية للكتابة عنها باللغة العربية. ومن بين الشخصيات الفرنسية المهمة التي كُتب عنها، ثلاثة من كبار المستشرقين هم إرنست رينان ولويس ماسينيون ومكسيم رودنسون.

تظاهرات ضد رينان

يعدّ إرنست رينان (1823- 1892) أحد أبرز المستشرقين المهتمين بالثقافة العربية والإسلامية، إذ جاء في مرحلة تؤسس لمنهجية علمية حديثة في دراسة الأديان واللغات الشرقية، ولذا تبوأ مركزا مرموقا في عصره، سواء في عضويته في الأكاديمية الفرنسية أو في الجوائز والسجالات التي دارت حول أطروحاته.

الأكاديمي المصري مجدي عبد الحافظ صالح أشار في كتابه التعريفي "إرنست رينان" إلى محطات عدة أثرت في حياة رينان، منها دراسته للتراث الغربي بروح نقدية ميّز فيها بين الجوانب التاريخية والأسطورية في المصادر الدينية، وهي الروح النقدية التي التزمها في دراسته للتراث الإسلامي. فمن أطروحاته المثيرة للجدل قوله إن من المستحيل أن يكون كتاب التوراة "موحى به، وذلك باعتماده على براهين تاريخية" وفلسفية. كما أنه حين عُيّن عام 1852 أستاذا لكرسي اللغة العبرية بالكولاج دي فرانس طُرد منها بعد زمن قصير "لأنه تجرأ وتحدث عن المسيح بعبارة: المسيح هذا الإنسان الرائع. وهو ما اعتبرته الكنيسة ورأسها ومناصروها تطاولا منه لا يغتفر"، بل إن تظاهرات خرجت ضده بعد أن أطلق عليه البابا لقب "المجدف الأوروبي".

وأدى ذلك إلى انتشار أطروحاته في مختلف المجالات، فقد كان "مؤرخا ولغويا وعالما بالأديان والآثار الشرقية، علاوة على تخصصه في تاريخ اللغات والشعوب السامية، مما جعل منه أيقونة عصره ونموذجا فريدا ومثاليا للمثقف الموسوعي في القرن التاسع عشر".

يربط رينان بين "العجز الفكري في الثقافة والتعليم" في العالم الإسلامي والاعتماد على الدين

وكان للردود المضادة لكتبه أثرها على مراجعته الفكرية، خاصة في موقفه من الإصلاح الاجتماعي والثقافي وتأملاته الفلسفية حول الشر والأخلاق والتقدم. ولاحظ مجدي صالح وجود خلط في كتاباته أحيانا بين المعرفي والأيديولوجي.

ومن أهم كتب رينان، كتابه "مستقبل العلم" الذي يطالب فيه "بضرورة أن نعتبر الكون في تحول أبدي مستمر"، كما يدعو "إلى رفض علوم الدين المسيحية وتعويضها بمبادئ الفلسفة الهيغلية". وهناك كتاب "محاورات فلسفية"، وكتاب "الإصلاح الفكري والأخلاقي". وتعتبر فكرته عن التقسيم العرقي للشعوب من الأطروحات التي أثارت الجدال والنقد، إذ يرى "استحالة المساواة الكاملة بين البشر". ولذا يقسم شعوب العالم ثلاثة أجناس: السامي والآري (الهندو- أوروبي) والشعوب البدائية.

ويربط رينان بين "العجز الفكري في الثقافة والتعليم" في العالم الإسلامي والاعتماد على الدين. ويدرس بعض الإنتاج الفكري المميز في التراث الإسلامي عند إخوان الصفا والكندي والفارابي وابن سينا. ويظن أن "هيمنة الأتراك على العالم الإسلامي نتج منها تراجع العقل الفلسفي والعلمي في البلدان الإسلامية". وينتقد رينان الأطروحات التي تتحدث عن "عِلم عربي" سابق.  ومع هذا يعتبر "أن فلسفة العرب في القرون الوسطى كانت أعلى شأوا من الفلسفة الغربية في الحقبة نفسها". ومن هنا يحتفي رينان بابن رشد، فيعتبره الممثل الأخير للفلسفة العربية، بل ويربط وفاته بنهاية المشروع العقلي العلمي للعرب والمسلمين، ويربطها كذلك بتراجع الحرية الفكرية، وبانتصار النقل عن العقل.

ماسينيون والعولمة الروحية

دراسات لويس ماسينيون (1883- 1962) في الثقافة العربية والإسلامية، تعد بمثابة تأسيس لقراءة هذه الثقافة من حساسية قريبة منها، وتعتبر دراسته المعنونة "آلام الحلاج، شهيد الإسلام الصوفي" أبرز أطروحاته.

في كتابه عن ماسينيون، يرى ايلي الربضي أن هذا الباحث بالنسبة الى العرب "ليس مجرد مستشرق منصف محب للعرب والمسلمين، مدافع عنهم مناصر لقضاياهم فحسب، بل هو الصوفي الروحاني"، الذي أخلص لمواضيع بحثه، وأتقن معظم لغات المجتمعات الإسلامية، العربية والفارسية والتركية. وقد أثرت زيارته الأولى الجزائر عام 1901 على علاقته بالثقافة الإسلامية، ليزور بعدها المغرب والعراق. وفي الأخيرة يبدو أنه تعرّف الى قصة الحلاج "الذي عُذّب وصلب وأحرق وذر رماده في دجلة بعد كشفه سر الحب الإلهي". وقد تعرّض ماسينيون للسرقة والنهب في المغرب كما تعرّض للسجن في العراق بعد اتهامه بالجاسوسية والتآمر ضد السلطان عبد الحميد. تواصلت رحلاته بعدها إلى سوريا ومصر وفلسطين لعمل بحوث واضطلاع بمهام إدارية فرنسية.

كان ماسينيون محبا للغة العربية منبهرا بالنحو العربي ويرى فيه "عبقرية جعلته ذا أثر في النحو العبري وغيره"

في كتابه "آلام الحلاج" يتناول نشأة الحلاج بدءا من تربيته العائلية وتعليمه في البيضاء (موالي آراميين للبلحارث اليمنية) حتى واسط والبصرة (مدرسة الحسن للزهاد)، ثم رحيله ومحاولاته في الزهد الفردي، ويعرض لحياة هذا المتصوف ومذهبه وخلوده. أما كتاب ماسينيون "التصوف"، فإنه يعد من "أهم المراجع العلمية في مجال التصوف الإسلامي"، ويدرس فيه أصل كلمة التصوف وأصول التصوف وشأن الصوفية في المجتمع الإسلامي ومعنى الاتحاد وتصوره في تاريخ التصوف وأساس التصوف وما مر به من أدوار.

من كتبه الأخرى، "خطط البصرة وبغداد" و"المتنبي" الذي يقول إنه ولد "في بيئة يمنية شيعية في الكوفة"، وإن شخصيته قد تشكلت "في تلك المدينة وفي الصحراء، في محيط قرمطي تحديدا".

وإذا كان إرنست رينان تحدث عن "عفوية اللغة العربية الرائعة وتراثها الخلاب"، مع إعطاء بعض الملاحظات حولها، فإن ماسينيون كان محبا للغة العربية منبهرا بالنحو العربي ويرى فيه "عبقرية جعلته ذا أثر في النحو العبري وغيره".

ويرى الربضي أن حياة ماسينيون وأعماله تقدم مثالا واضحا في الدعوة إلى العولمة الروحية، حسب المصطلح الجديد، وهو "مشروع صوفي مقترح نحو حل الأزمة الأخلاقية للإنسان المعاصر. ولدى متصوفة المسلمين، كما لدى غيرهم من متصوفة العالم، في ذلك ما يقدمونه إلى البشرية من أجل بناء عالم جديد يقوم على مبدأ السلام الروحي بين الشعوب، والتعايش الأخلاقي العالمي بين الأمم".

رودنسون ودولة الإسلام

كان المستشرق مكسيم رودنسون (1915- 2004) أكثر معاصرة من المستشرقين السابقين، لذا وجدنا له آراء سياسية واضحة يقف من خلالها مع قضايا عربية وإنسانية مهمة، وأبرزها إشكالية الصراع العربي- الإسرائيلي، حيث نجده وهو المولود لعائلة يهودية، يقف مع حقوق الفلسطينيين في الحياة على أرضهم، فيرى "أن لا سبيل إلى أن نخصّ اليهود بحقوق على أرض سكانها، وإنه يمكن العرب أن يطالبوا بإسبانيا وفق النظرية نفسها". ويرى رودنسون "أن تشكيل دولة إسرائيل نتيجة لتطوّر يمكن إدراجه في حركة التوسع الأميركية الأوروبية الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين".

يرى رودنسون "أن تشكيل دولة إسرائيل نتيجة لتطوّر يمكن إدراجه في حركة التوسع الأميركية الأوروبية الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين"

في الكتاب الذي صدر عنه ضمن سلسلة "ألف كتاب وكتاب" من تأليف محمد أحمد طجو، نتعرف أكثر الى حياة هذا المفكر الماركسي وأبحاثه عن الإسلام والتاريخ الإسلامي. ومن ذلك نكتشف أن "موقفه من قضايا الشرق بعامة، والقضية الفلسطينية بخاصة، سببت له كل أنواع الانتقادات والتهديدات".

ودعا رودنسون إلى الحوار بين الشرق والغرب بدلا من المواجهة، وكان درس العربية ولغات قديمة، وزار لبنان وفلسطين والعراق ومصر، وواجه مشكلات في صيدا، حيث عمل، بسبب اليهود المقيمين هناك.

لدى مكسيم رودنسون مجموعة من الكتب تُرجم معظمها إلى العربية، ومن أهمها كتابه عن نبي الإسلام، وفيه "يصف المنطقة الصحراوية او الجزيرة العربية التي يسكنها العرب الذين اتخذوا الخيام مساكن لها، ونمط حياتهم، واعتمادهم على زراعة النخيل والحبوب ورعي المواشي والتجارة. ويتكلم على الغزو والثأر. ويشير إلى غياب الفنون لدى العرب، باستثناء فنون الكلام والبلاغة والشعر، وإلى قلّة اهتمام البدو بالدين، وعبادتهم للأصنام، وإلى مروءتهم. ويتحدث عن اليمن السعيد المختلف من حيث طبيعته وسكانه الذين شيّدوا حضارة جدّ راقية". ثم يعرض بعدها لحياة نبي الإسلام من خلال فرضيات أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الإسلامية والتاريخية. ولكنه يشير إلى ما يسميه "تأسيس دولة حقيقية" مع مجيء الإسلام.

ومن كتبه الأخرى: "الإسلام والرأسمالية" و"جاذبية الإسلام" و"إسرائيل واقع استعماري" و"الإسلام سياسة وعقيدة".

font change