منذ أن ظهر التحليل النفسي وهو يتعرض للنقد والتساؤل عن "قيمته العلمية"، وعما إذا استطاعت فرضياته أن تصمد أمام ما عرفه الطب النفسي وعلوم الجهاز العصبي من تطورات. هكذا وصف صاحبه بأنه "عبقري في الدعاية لا في الإثبات العلمي، في البلاغة لا في الأدلة"، وبأنه بعيد عن النظرية العلمية لأنه "لم يكن يقول شيئا قابلا للتكذيب". كما وصف ما سماه "تحليلا نفسيا" بأنه "نظرية تفسر كل شيء، لكن لا تفسر شيئا على نحو علمي"، وبكون صاحبها، حتى إن كان تقدم برؤية عميقة وشاملة وجريئة للإنسان، فإنها رؤية لا تُختبَر، ولا تُكذب، ولا تُقاس.
لو أن التحليل النفسي كان مجرد "علم" بالنفس جديد، لحسم أمره منذ زمان، وربما منذ زمن صاحبه. إلا أنه بالضبط ليس مجرد علم. لكنه ليس كذلك مجرد طريقة للعلاج، ولا هو مجرد فلسفة، أي موقف من الإنسان والوجود، يضاهي مواقف أخرى. إنه كل ذلك، وربما أكثر من ذلك. فهو هزة فكرية من تلك الهزات الكبرى التي عرفها تاريخ الفكر، والتي سماها فرويد نفسه بـ"الجرح"، وقاسها على الجرحين اللذين عرفهما الفكر الغربي على يد كوبرنيكوس وداروين، مثلما سيقيسها فوكو، في ما بعد، على تينك اللتين خلفهما ماركس ونيتشه.
نستطيع أن نثبت أن كثيرا من تنبؤات ماركس لم يصادق عليها التطور التاريخي، إلا أننا لا نستطيع أن ننفي أن المفعول الفلسفي لـ"المادية الجدلية" لا يزال قائما، وأن النظرة إلى الإنسان وإلى التاريخ لم تعد على ما كانت عليه قبل ظهورها. إذا كانت الوضعية الإبستمولوجية لأي فرع من فروع المعرفة تنتهي بأن يُحسم في أمرها، وإذا كانت الفرضيات العلمية تُدحض وتُفند وتكون "قابلة للتكذيب"، فإن "الجروح الفكرية" لا تضمد. هناك مفكرون كانوا علماء بين علماء، وفلاسفة إلى جانب آخرين، إلا أنهم تجاوزوا كل ذلك بأن رسموا منعرجا في تاريخ الفكر، ونقطة انفصال في مساره.
منعرجات كبرى
لا يتعلق الأمر مطلقا بالعودة إلى تفسير التاريخ برده الى تأثير "العباقرة"، بقدر ما يتعلق بالوقوف عند منعرجات كبرى تلتئم عندها أسماء قد تنتمي إلى حقول معرفية متباينة، إلا أنها تلتقي في كونها تعين منعرجا ونقطة "لاعودة"، ليس في صنف من أصناف المعارف بعينه، وإنما في أسس المعرفة ذاتها، بل في طرق التفكير وأدوات التأويل، في إيبيستمي عصر بكامله. تلك كانت حال كوبرنيكوس وداروين حسب فرويد، وهي حال ماركس ونيتشه وفرويد نفسه حسب فوكو.