زهران ممداني…الخروج عن الإجماع السياسي السائد في نيويورك

لحظة محورية في تاريخ الحزب الديمقراطي

يسرا نعيم
يسرا نعيم

زهران ممداني…الخروج عن الإجماع السياسي السائد في نيويورك

تواجه نيويورك احتمالا حقيقيا بانتخاب عمدة مؤيد للفلسطينيين، بعد الفوز المفاجئ الذي حققه زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب العمدة. وقد سطع نجم ممداني، الذي يصف نفسه بأنه اشتراكي، بسرعة حين فاز بترشيح الحزب بعد أن أقر الحاكم السابق أندرو كومو بهزيمته.

ممداني، البالغ من العمر 33 عاما، مسلم من أصول أوغندية، ويُعد وافدا جديدا على الساحة السياسية، حصل على 43.5 في المئة من الأصوات بعد فرز 90 في المئة من بطاقات الاقتراع، وهي نتيجة مذهلة هزّت أركان المؤسسة السياسية.

ويبرز ممداني بين أبرز المدافعين عن القضية الفلسطينية، وهو يحظى بقاعدة جماهيرية واسعة تتجاوز المليون متابع على "إنستغرام"، وبدعم عدد من المشاهير. وقد عُرف بمواقفه الحادة في انتقاد الحرب الإسرائيلية على غزة، ما جعله على خلاف مع الكثير من قيادات الحزب الديمقراطي.

من بين أبرز مؤيديه الممثلة وعارضة الأزياء إميلي راتاجكوفسكي، وراشيل زيغلر، نجمة فيلم "سنو وايت"، المعروفة بمواقفها المؤيدة لفلسطين على وسائل التواصل الاجتماعي، والمغنية لورد، التي كانت ألغت حفلا موسيقياً في تل أبيب عام 2017 استجابة لضغوط من نشطاء مؤيدين للفلسطينيين.

يتجه ممداني الآن إلى الانتخابات العامة في نوفمبر/تشرين الثاني بوصفه المرشح الأوفر حظا في مدينة لم تنتخب عمدة جمهوريا منذ عام 2005، رغم احتمال مواجهته تحديات من مرشحين مستقلين.

ويُنظر إلى فوزه يوم الثلاثاء على نطاق واسع باعتباره لحظة محورية في تاريخ الحزب الديمقراطي، الذي لا يزال يعاني انقساما داخليا منذ فوز دونالد ترمب الكبير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وفي حال فوزه في الانتخابات العامة، سيصبح ممداني أكثر عمدة يساري في تاريخ نيويورك، وأول قائد مسلم للمدينة، وهو إنجاز بارز في مدينة يقطنها نحو مليون مسلم.

أثار فوز ممداني رد فعل عنيفا من الرئيس ترمب، الذي هاجمه عبر منصة "تروث سوشيال" بقوله: "إنه يبدو مروعا، صوته مزعج، وذكاؤه محدود". ولم يكتفِ ترمب بوصفه بـ"المتطرف الشيوعي بنسبة مئة في المئة"، بل امتد هجومه ليشمل أبرز داعمي ممداني من القادة التقدميين، وعلى رأسهم النائبة ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز والسيناتور المخضرم تشاك شومر.

ينحدر ممداني من عائلة مثقفة، فهو ابن المخرجة الهندية الأميركية الحائزة على جوائز عالمية ميرا ناير، وابن الأكاديمي الماركسي محمود ممداني الأوغندي من أصل هندي في جامعة كولومبيا

ينحدر ممداني من عائلة مثقفة مرموقة، فهو ابن المخرجة الهندية الأميركية الحائزة على جوائز عالمية ميرا ناير، وابن الأكاديمي الماركسي محمود ممداني الأستاذ الأوغندي من أصل هندي في قسم الأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا. وقد نجح هذا الشاب الطموح في التغلب على منافس شرس هو حاكم نيويورك السابق أندرو كومو، الذي سعى لاستعادة بريقه السياسي بعد أن أطاحته فضيحة تحرش جنسي مدوية.

وُلد ممداني في العاصمة الأوغندية كمبالا، وقضى طفولته متنقلا بين أوغندا وجنوب أفريقيا حتى سن السابعة، حينما قررت عائلته الهجرة إلى نيويورك. تلقى تعليمه الأولي في المدارس الحكومية، ثم انتقل إلى ثانوية برونكس للعلوم- إحدى أعرق المدارس المتخصصة في العلوم بالمدينة. وأكمل مسيرته الأكاديمية بدراسة التاريخ الأفريقي في كلية بودوين، حيث كان له شأن كبير في تأسيس أول مجموعة طلابية تدعم العدالة لفلسطين داخل الحرم الجامعي.

نال ممداني الجنسية الأميركية عام 2018، ومارس عمله كمستشار قانوني متخصص في منع حبس الرهن العقاري. وقد شكلت خبرته الميدانية في مساعدة الأسر محدودة الدخل بمنطقة كوينز على تجنب الإخلاء والتمسك بمساكنهم- على حد تعبيره- الحافز الأساسي لخوض غمار المعترك السياسي.

حقّق ممداني إنجازا تاريخيا عام 2020 بانتخابه لعضوية الجمعية التشريعية لولاية نيويورك ممثّلا عن دائرة كوينز، ليُسجّل اسمه كأوّل أميركي من أصول جنوب آسيوية يتولى هذا المنصب، وأوّل مواطن من أصل أوغندي، وثالث مسلم يصل إلى هذه الهيئة التشريعية المرموقة.

بدأ ممداني مسيرته الانتخابية كشخصية شبه مجهولة، إذ لم تتجاوز نسبة شهرته 1 في المئة وفقا لاستطلاعات الرأي الأولية. إلا أن استراتيجية حملته الذكية، مقترنة بالفضيحة الجنسية التي أنهت مسيرة منافسه كومو، مكّنته من تحقيق فوز ساحق. وكان الحاكم السابق يأمل في إعادة بناء سمعته السياسية بعد أن أجبرته نتائج تحقيق النائب العام عام 2021 على الاستقالة، إثر ثبوت تورطه في تحرش جنسي بعدد لا يقل عن إحدى عشرة امرأة.

أقرّ كومو بأنه لم يقصد الإساءة إلى النساء، لكنه اعترف بمخالفته لمعايير السلوك المهني المقبولة. وعلى الرغم من العاصفة الإعلامية التي أحاطت به، ظلّ المرشح البالغ 67 عاما الأكثر حظوة في السباق الانتخابي بفضل خبرته السياسية الممتدة وتأييد كبرى نقابات العمال بالمدينة.

وفي تعليق لافت، وصف الخبير الاستراتيجي تريب يانغ لـ"بي بي سي" فوز ممداني (33 عاما) على كومو بأنه "أعظم مفاجأة تشهدها الانتخابات المحلية في نيويورك خلال العصر الحديث.. يمثل فوز ممداني الكاسح رسالة واضحة من ناخبي نيويورك الديمقراطيين: في عهد ترمب، يطالبون بقادة يخوضون المعارك السياسية بلا تردد وبجرأة نادرة- وهي الصفات التي جسّدها ممداني بامتياز خلال حملته".

بدا أندرو كومو في بداية السباق مرشحا لا يُقهر برغم محاولته إحياء مسيرته السياسية عقب اتهامات الاعتداء الجنسي المثيرة عام 2021. وفي تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز"، لم يستبعد الحاكم السابق خوض الانتخابات كمستقل في نوفمبر/تشرين الثاني، في خطوة قد تعيد رسم خريطة المنافسة.

احتلت أزمة غلاء المعيشة صدارة أولويات برنامج ممداني الانتخابي، إذ شنّ حملة إعلامية مكثفة عبر منصات التواصل عرض خلالها رؤيته الإصلاحية التي تتضمن توفير حافلات مجانية، ودعم رعاية الأطفال، وبناء وحدات سكنية جديدة، ورفع الأجور الدنيا- وهي مشاريع طموحة يعتزم تمويلها عبر إصلاحات ضريبية تستهدف الطبقات الثرية، في خطوة ساهمت في تعزيز شعبيته ودفعت أعداد متابعيه لتتجاوز 1.1 مليون متابع على "إنستغرام" و400 ألف متابع على "تيك توك".

يمثل فوز ممداني الكاسح رسالة واضحة من ناخبي نيويورك الديمقراطيين: في عهد ترمب، يطالبون بقادة يخوضون المعارك السياسية بلا تردد وبجرأة نادرة- وهي الصفات التي جسّدها ممداني بامتياز خلال حملته

شكّلت رؤية ممداني التقدمية لمستقبل نيويورك نقيضا صارخا لخطاب كومو التحذيري، الذي ارتكز على خبرته السياسية وخبرته في مواجهة ترمب، محذرا من مخاطر استمرار تفشي الجريمة وأزمة السكن التي تعاني منها المدينة. وقد مكّن هذا التباين الواضح ممداني من حصد تأييد الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي، على الرغم من الانتقادات التي وجهها كومو حول عدم أهليته بسبب افتقاره للخبرة في إدارة الأزمات الكبرى.

أ.ف.ب
يحيي مرشح منصب عمدة مدينة نيويورك، زهران ممداني، أنصاره في حي لونغ آيلاند سيتي في كوينز، مدينة نيويورك، في 24 يونيو

في عام 2021، أعلن ممداني انتماءه الفكري لليسار المناهض للصهيونية، مؤكدا: "القضية الفلسطينية كانت شعلة الوعي السياسي لدي، وسأبقى مدافعا عن حقوق الفلسطينيين بلا هوادة". وخلال حملته الانتخابية، تصاعد خطابه النقدي تجاه إسرائيل، إذ دان عملياتها العسكرية في غزة واصفا إياها بـ"ممارسات إبادة جماعية"، مع تأكيده على دعمه الكامل لاستراتيجيات المقاطعة الدولية (BDS). بل ذهب إلى حد التهديد باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في حال زيارته لنيويورك، مستندا إلى مذكرة الاعتقال الصادرة ضده من المحكمة الجنائية الدولية عام 2023.

ممداني: "القضية الفلسطينية كانت شعلة الوعي السياسي لدي، وسأبقى مدافعا عن حقوق الفلسطينيين بلا هوادة"

خلال إحدى المناظرات الحديثة، وعند استفساره عن موقفه من شرعية إسرائيل كدولة يهودية، رد ممداني: "أؤيد حق إسرائيل في الوجود كدولة تضمن المساواة الكاملة لجميع مواطنيها بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية". وتابع في تصريح لاحق هذا الشهر: "أرفض مبدئيا أي نظام يُرسّخ التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو عرقي. فالمساواة المطلقة- كما نطبقها في أميركا- يجب أن تكون معيارا عالميا. هذا المبدأ راسخ في قناعتي السياسية والأخلاقية".

أثار ممداني جدلا واسعا الأسبوع الماضي حين وصف شعار "عولمة الانتفاضة" بأنه "تعبير شرعي عن التضامن مع الشعب الفلسطيني"، وهو الموقف الذي استدعى إدانة سريعة من "متحف الهولوكوست" الأميركي الذي وصف التصريح بأنه "تمجيد للعنف".

أبرز ممداني هويته الإسلامية كعنصر أساسي في هويته السياسية، فحرص على توثيق زياراته المنتظمة للمساجد، وأطلق حملة تواصلية بلغة الأوردو تستهدف الجالية المسلمة، إذ ناقش خلالها تحديات غلاء المعيشة، كما خاطب الناخبين مباشرة خلال شهر رمضان في إطار استراتيجيته للتواصل مع القاعدة الانتخابية المسلمة.

تميّز موقف ممداني المناصر للفلسطينيين ونقده اللاذع لإسرائيل بخروجه عن الإجماع السائد داخل الحزب الديمقراطي. إذ تقدّم بمشروع قانون جريء يهدف إلى سحب الإعفاءات الضريبية عن المنظمات الخيرية الداعمة للمستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية وفقا للقانون الدولي. وفي الوقت ذاته، أكّد رفضه القاطع لأي مظاهر لمعاداة السامية، واعدا بتعزيز ميزانيات مكافحة جرائم الكراهية في حال فوزه.

أ.ف.ب
زهران ممداني، يستقبل الناخبين في جنوب برونكس في مدينة نيويورك، في 24 يونيو

يُعتبر فوز ممداني- من منظور أنصاره- لحظة فارقة في المشهد السياسي الأميركي، إذ يثبت إمكانية ترجمة السياسات التقدمية والدعوة لحقوق الفلسطينيين إلى نجاح انتخابي ملموس. وتُظهِر المعطيات الانتخابية تفوقا ساحقا للحزب الديمقراطي في نيويورك، التي يشكل فيها المرشح الجمهوري كورتيس سليوا (المتقدم سابقا لانتخابات 2021) منافسا ضعيفا، وهو الأمر الذي يضع ممداني في موقع المرشح الأوفر حظا لانتزاع منصب العمدة في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

font change