هل تُضعف العقوبات الغربية الجديدة صمود روسيا الاقتصادي؟

تشدد في حظر "أسطول الظل" النفطي ومعاقبة كيانات صينية وهندية

المجلة
المجلة

هل تُضعف العقوبات الغربية الجديدة صمود روسيا الاقتصادي؟

قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، خلال مؤتمر صحافي في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته، وقادة كل من الدانمارك وهولندا: "سنتخذ إجراءات لإخراج النفط والغاز الروسيين من السوق العالمية".

شكل هذا الاجتماع، الذي ضم ما يعرف بـ"تحالف الراغبين"، وشارك فيه عدد من القادة الأوروبيين عبر الاتصال المرئي، خطوة حاسمة جديدة ضد موسكو، مدفوعة بحزمة عقوبات أميركية أقرتها الولايات المتحدة قبل وقت قصير.

فما الذي اتفق عليه؟ وما حجم الضغط الذي ستشكله هذه الإجراءات على الكرملين؟

على الرغم من مرور تسعة أشهر على تولي الرئيس الأميركي دونالد ترمب السلطة، كانت هذه هي المرة الأولى التي تؤكد فيها الإدارة الأميركية فرض عقوبات جديدة على روسيا. حتى وقت قريب، بدا أن ترمب يفضل نهج الانخراط المباشر مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في محاولة لدفعه إلى طاولة المفاوضات. وتوج هذا التوجه بلقاء مباشر بين الزعيمين في مدينة أنكوريج في ولاية ألاسكا منتصف أغسطس/آب المنصرم، وهو ما لم يكن واردا في رأي معظم المحللين إبان عهد الرئيس السابق جو بايدن. كما ألمح ترمب إلى إمكان عقد لقاء ثان قريبا، مرجحا أن يجري في العاصمة المجرية بودابست.

تشمل الحزمة الأوروبية الجديدة إجراءات صارمة ضد "أسطول الظل" الروسي للنفط، إذ أضيفت 117 سفينة إلى القائمة السوداء، ليرتفع إجمالي السفن المحظورة من دخول الموانئ الأوروبية أو تلقي الخدمات إلى 557 سفينة

لكن مؤشرات بدأت تظهر على نفاد صبر الرئيس الأميركي إزاء ما وصفه بتقاعس الكرملين عن اتخاذ خطوات نحو السلام أو حتى وقف إطلاق النار. وقال مطلع أكتوبر/تشرين الأول: "في كل مرة أتحدث فيها مع فلاديمير، تكون المحادثات جيدة، لكنها لا تفضي إلى شيء. لا تفضي إلى أي شيء".

تستهدف العقوبات الأميركية الجديدة أكبر شركتين نفطيتين في روسيا، وهما "لوك أويل" و"روسنفت"، وتنص على تجميد أصولهما داخل الولايات المتحدة ومنع الشركات الأميركية من التعامل التجاري معهما.

أوروبا نحو حظر كامل للنفط الروسي

من جهتها، اعتمدت المفوضية الأوروبية الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات ضد روسيا. وشملت، إلى جانب الحظر الكامل على التعاملات المالية مع شركتي "روسنفت" و"غازبروم نفت"، فرض قيود للمرة الأولى على صادرات الغاز الطبيعي المسال الروسي. جاء هذا القرار بعد سنوات من الجدل، إذ استمرت دول الاتحاد الأوروبي في شراء الغاز الروسي المسال منذ بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، بقيمة تقديرية بلغت نحو 73 مليار يورو. مع ذلك، لن يدخل الحظر الكامل على واردات الغاز المسال حيز التنفيذ إلا في الأول من يناير/كانون الثاني 2027، لإتاحة الوقت أمام الدول الأعضاء لتأمين بدائل جديدة.

رويترز
الرئيس دونالد ترمب يتحدث مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي( الناتو) مارك روته عن الحرب في أوكرانيا، في البيت الأبيض 14 يوليو 2025

كما تضمنت الحزمة الأوروبية الجديدة إجراءات صارمة ضد "أسطول الظل" الروسي للنفط، إذ أُضيفت 117 سفينة إلى القائمة السوداء، ليرتفع إجمالي السفن المحظورة من دخول الموانئ الأوروبية أو تلقي الخدمات إلى 557 سفينة. وشملت العقوبات أيضا شركات تقدّم خدمات لهذا الأسطول، من بينها "ليتاسكو" الشرق الأوسط، وشركتان لتجارة النفط في كل من هونغ كونغ والإمارات العربية المتحدة.

العقوبات لم تشمل "الأصول الروسية" في أوروبا بعد

تعتبر الهند والصين اليوم من أكبر مستوردي النفط الروسي، ومع ذلك فإن الحزمة الأميركية الأخيرة لم تستهدفهما، على الرغم من التلميحات المتكررة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب في شأن ضرورة تغيير نهج كل من نيودلهي وبكين. وكان ترمب صرح مرارا في الأسابيع الماضية بأن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وافق على وقف شراء النفط الروسي، ولكن الجانب الهندي نفى أي التزام من هذا النوع.

نجح الكرملين في تفادي أزمة كبيرة، إذ لم تتضمن الحزمة الأوروبية الجديدة مصادرة الأصول الروسية المجمدة في أوروبا

في الوقت ذاته، نجح الكرملين في تفادي أزمة كبيرة، إذ لم تتضمن الحزمة الأوروبية الجديدة مصادرة الأصول الروسية المجمدة في أوروبا. وكانت دول الاتحاد الأوروبي تناقش مقترحا يقضي بالاستيلاء على نحو 140 مليار يورو من تلك الأصول وتحويلها إلى أوكرانيا على شكل قرض تعويضي. غير أن رئيس الوزراء البلجيكي بارت دي ويفر عرقل هذا المقترح خلال الاجتماع، مشيرا إلى الحاجة لمزيد من العمل القانوني قبل المضي قدما.

من جهتها، أكدت المفوضة الأوروبية للمساواة والاستعداد وإدارة الأزمات، أن تلك الأصول محمية بموجب القانون الدولي، وأن أي قرار بمصادرتها يجب أن يكون مسؤولية جماعية لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة. وقالت: "تدرك بلجيكا، ومعها دول أخرى، أننا بحاجة إلى التقدم بحذر"، مشيرة إلى إمكان إعادة طرح هذا الملف في ديسمبر/كانون الأول، دون أن يعني ذلك بالضرورة اتخاذ قرار نهائي في ذلك الوقت.

رويترز
من اليمين الرئيس الصيني شي جينغ بينغ يتحدث مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس الروسي فلادمير بوتين، على هامش قمة شنغهاي، في مدينة تيانجين، الصين 1 سبتمبر 2025

وعلى الرغم من أن تصريح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في لندن عن "إخراج النفط والغاز الروسيين من السوق" بدا حازما، فإن الواقع يشير إلى أن الحزمة الأوروبية الأخيرة لم تشمل بعد الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب أو النفط الخام.

الحزمة الجديد للعقوبات تستهدف كيانات صينية

من جهتها، سارعت روسيا إلى التأكيد أن الأمور تسير بشكل اعتيادي، وأن الحزمة الجديدة من العقوبات لم تربك حساباتها. وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، إن اللقاء المزمع بين الرئيسين ترمب وبوتين في المجر قد أرجئ ولم يلغ، مشيرا إلى أن العملية معقدة، لكنه وصف العقوبات الأميركية الأخيرة بأنها خطوة غير ودية.

استهدفت العقوبات الأوروبية الأخيرة مصفاتي نفط صينيتين وشركة لتجارة النفط، فيما تنص العقوبات الأميركية التي أُعلنت في 22 أكتوبر/تشرين الأول على منع الكيانات الصينية المتعاملة في النفط الروسي من تنفيذ عمليات بالدولار الأميركي. ويبدو أن تحولا فعليا بدأ يطرأ على نمط شراء النفط الروسي.

بلغت قيمة مشتريات الصين من النفط الروسي ومشتقاته منذ بدء الغزو الشامل في فبراير/شباط 2022 أكثر من 150 مليار دولار أميركي

فبحسب وكالة "رويترز"، علقت شركات "بتروتشاينا" و"سينوبك" و"سي. إن. أو. أو. سي." و"زنهو أويل" عمليات شراء النفط الروسي المنقول بحرا، على الرغم من أن هذا الإجراء قد يكون موقتا.

وعلى الرغم من استمرار نشاط عدد من المشترين الصغار في الصين، فإن هذه الشركات الأربع تستحوذ على حصة كبيرة من إجمالي ما يقارب 1,4 مليون برميل يوميا من النفط الروسي المنقول بحرا إلى الصين. وقد بلغت قيمة مشتريات الصين من النفط الروسي ومشتقاته منذ بدء الغزو الشامل في فبراير/شباط 2022 أكثر من 150 مليار دولار أميركي. ويقدر بعض المحللين احتياطي الصين من النفط بنحو 1,25 مليار برميل، مما يعني أن التوقف المؤقت لن يؤثر بشكل كبير على اقتصادها في المدى القصير.

هل تقلص الهند اعتمادها على النفط الروسي؟

أما الهند، فقد بدأت هي الأخرى في مراجعة موقفها، إذ يواجه رئيس الوزراء ناريندرا مودي ضغوطا من الولايات المتحدة، التي فرضت تعرفة جمركية بنسبة 50 في المئة يمكن خفضها إلى النصف إذا قررت الهند تقليص اعتمادها على النفط الروسي. ومنذ فبراير/شباط 2022، استوردت الهند نحو 120 مليار دولار من النفط الروسي ومشتقاته. وقد استفادت الهند اقتصاديا من الأسعار المخفضة، لكن كبار اللاعبين في السوق الهندية بدأوا في تعديل استراتيجياتهم. فقد صرح متحدث باسم مجموعة "ريلاينس"، أكبر مشتر للنفط الخام الروسي في الهند، بأن إعادة ضبط واردات النفط الروسي جارية، وبأن الشركة ستلتزم توجيهات الحكومة. ويبدو أن قرار البيت الأبيض حظر التعاملات بالدولار الأميركي يلعب دورا محوريا، إذ أفادت بعض المصافي الهندية أن مشترياتها قد تنخفض إلى الصفر إذا تعذر إتمام المدفوعات، لأن الأمر كله يعتمد على المصارف.

رويترز
ناقلة نفط روسية تعبر مضيق البسفور بالقرب من إسطنبول، تركيا 6 يوليو 2023

وإن كان في التاريخ عبرة، فإن الهند ستستجيب، ولو جزئيا، لمطالب ترمب، كما فعلت سابقا مع واردات النفط الإيراني والفنزويلي. ويشير محللون هنود إلى أن واردات النفط من العراق قد ارتفعت بالفعل لتغطي نحو 20 في المئة من احتياجات الهند، فيما تسهم السعودية والإمارات بنسبة إضافية تبلغ نحو 22 في المئة.

أميركا مستفيدة ماليا كبديل لتامين الطاقة

إذا دفعت الحزمة الأخيرة من العقوبات الغربية الكرملين إلى إبرام اتفاق، فسيعد ذلك انتصارا واضحا لدونالد ترمب، الذي يعتقد كثر ممن عملوا معه أنه غالبا ما يكون مدفوعا بدافعين اثنين: الاعتداد بالنفس والسعي إلى المكاسب المالية. وبعد مرور تسعة أشهر على توليه السلطة، لم ينجح بعد في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، على الرغم من تعهده المتكرر بذلك، وهو الذي كان أكد أنه سينهيها "خلال أربع وعشرين ساعة" من توليه منصبه. وبعد أن لعب دور "الشرطي الطيب" في الغرب وسعى إلى استمالة فلاديمير بوتين، يبدو أن صبر الرئيس الأميركي بدأ ينفد، لا سيما أن إخفاقه في هذا الملف قد ينظر إليه كعقبة في وجه طموحه في نيل جائزة نوبل للسلام عام 2026.

في المقابل، تستفيد الولايات المتحدة ماليا من هذه العقوبات. فقد بدأت أوروبا بالفعل بالتوجه نحوها كمصدر بديل للطاقة، ويبدو أن الهند ستستورد جزءا من احتياجاتها النفطية من أميركا أيضا. وقد أدت هذه العقوبات إلى ارتفاع أسعار النفط في البداية، قبل أن تبدأ بالاستقرار عقب إعلان منظمة "أوبك" زيادة مخططة في الإنتاج.

في الوقت الراهن، تبدو العقوبات الغربية الأخيرة قد منحت الكرملين ما يستحق التفكير، لكن فلاديمير بوتين وفريقه لم يعتادوا اتخاذ قرارات متسرعة، ومن غير المرجح أن يسارعوا إلى توقيع أي اتفاق في المدى القريب. لا يزال لديهم متسع من الوقت قبل دخول العقوبات حيز التنفيذ، وسيستغلون كل لحظة متاحة لوضع خططهم المقبلة.

font change

مقالات ذات صلة