يعكس قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض عقوبات قاسية على شركات النفط الروسية الكبرى عمق استيائه من فشل الكرملين في التعاطي بجدية مع مقترحاته المتعلقة بوقف إطلاق النار.
فبعد نجاحه في التوسط لإطلاق سراح رهائن إسرائيليين مقابل الإفراج عن أسرى فلسطينيين مطلع هذا الشهر، عبّر ترمب عن رغبته في توظيف مهاراته في صنع السلام لإنهاء النزاع المستمر في أوكرانيا.
وفي محاولة لتجاوز الجمود الذي عطّل مساعيه السابقة للتوصل إلى هدنة في أوكرانيا، وافق ترمب على إجراء مكالمة هاتفية مطوّلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف استئناف المفاوضات وكسر حالة الجمود.
ورغم أن المؤشرات الأولية للمكالمة التي امتدت ساعتين مع الزعيم الروسي بدت مبشّرة بإمكانية إحراز تقدم نحو وقف إطلاق النار، سرعان ما اتضح أن لهجة بوتين المشجعة لم تكن سوى غطاء يخفي تمسك موسكو بمواقفها المتصلبة إزاء شروط الهدنة.
وخلال المداولات اللاحقة بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف، تبيّن بوضوح شديد أن الكرملين يرفض تقديم أي تنازل في القضايا الجوهرية، وفي مقدمتها معادلة "الأرض مقابل السلام" المعقدة التي تشكّل محور مقترحات ترمب للهدنة.
وأكّد لافروف خلال تلك المحادثات أن موسكو لا تنوي التراجع عن مواقفها الحاسمة بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا. وفي مؤتمر صحافي عقده في موسكو، أفاد بأنه أبلغ روبيو بأن موقف روسيا، الذي يشترط التوصل إلى اتفاق سلام قبل الشروع في وقف إطلاق النار، لا يزال على حاله.
ووفقا لتقارير إعلامية أميركية، بدا أن لافروف "فقد أعصابه" خلال المكالمة مع روبيو، ولم يُبد أي تجاوب يُذكر مع الخطط التي تطرحها إدارة ترمب لإنهاء القتال.
أدى فشل المحادثات بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ونظيره الروسي سيرغي لافروف إلى إلغاء ترمب للقمة المنتظرة بينه وبين بوتين، والتي كان من المزمع عقدها في بودابست الشهر المقبل عقب المكالمة الهاتفية بينهما.
وعلّق ترمب على قرار الإلغاء بقوله: "لا أريد عقد اجتماع بلا فائدة، لا أريد تضييع الوقت"، متجنبا الخوض في تفاصيل فشل المحادثات، ومكتفيا بالإشارة إلى أنه "سينتظر ليرى ما ستؤول إليه الأمور".
وبدلا من عقد القمة، وبهدف تصعيد الضغط على بوتين لحمله على التعامل بجدية مع المقترحات الأميركية لوقف إطلاق النار، أعلن ترمب فرض حزمة "هائلة" من العقوبات على اثنتين من أكبر شركات النفط الروسية، متهماً إياهما بتمويل آلة الحرب التي يقودها الكرملين.
وفي مؤتمر صحافي عقده في البيت الأبيض، مساء الأربعاء، صرّح ترمب بأن "الوقت قد حان" لفرض مزيد من العقوبات على روسيا، معبرا عن استيائه من تعنّت بوتين ورفضه إنهاء الحرب.
وقال: "بصراحة، في كل مرة أتحدث فيها مع فلاديمير، أجري محادثات جيدة، لكنها لا تسفر عن أي نتيجة. لقد طال انتظارنا".
وأكّد ترمب أنه قرر "إلغاء" الاجتماع المقترح مع بوتين في بودابست لأنه "لم يكن مناسبا"، مشيرا إلى أن القمة قد تُعقد في وقت لاحق.
وأوضح أن الغاية من العقوبات الجديدة هي دفع بوتين إلى التوصل لاتفاق مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإنهاء الحرب المستمرة منذ سنوات.
وقال: "نأمل أن تشكل هذه العقوبات دافعا، نأمل أن يتصرّف (بوتين) بعقلانية، ونأمل أن يتحلى زيلينسكي بالحكمة أيضا. فكما يُقال، يد واحدة لا تصفق".
في المقابل، قللت موسكو من أهمية العقوبات الجديدة، مدعية أنها "محصّنة" ضد آثارها. واعتبر ديمتري ميدفيديف، والذي تولى سابقا منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، أن هذه العقوبات تُعد "عملا من أعمال الحرب".
وكتب ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، على منصة "تليغرام" قائلا "إن الولايات المتحدة هي عدونا، و(صانع السلام) الثرثار لديهم بدأ الآن السير بالكامل في طريق الحرب مع روسيا". وأضاف: "القرارات المتخذة تُعد عملا حربيا ضد روسيا، وترمب أصبح في انسجام تام مع أوروبا المجنونة".
مع تصاعد الضغوط على الاقتصاد الروسي وتراجع وتيرة التقدم العسكري، يبقى احتمال أن تُحدث الإجراءات الجديدة التي اتخذها ترمب تأثيرا ملموسا في مجريات الحرب قائما بقوة
وتواجه روسيا اختبارا حقيقيا لقدرتها على الصمود أمام جولة جديدة من العقوبات، بعدما أعلن الاتحاد الأوروبي يوم الخميس عن فرض حزمة جديدة تستهدف منتجي الغاز الروس، وهي الحزمة التاسعة عشرة منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
وقالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، إن الإجراءات تهدف إلى "حرمان روسيا من الوسائل التي تموّل بها هذه الحرب". وأضافت: "نحن سعداء للغاية بالإشارات الواردة من الولايات المتحدة بشأن العقوبات المفروضة على روسيا، وأرى فيها دليلا واضحا على قوة التنسيق والتكامل القائم بيننا".
وفي موازاة تصعيد العقوبات، تصاعدت التكهّنات بأن ترمب يدرس بجدية تزويد كييف بصواريخ "توماهوك" بعيدة المدى، في خطوة قد تُحدث تحولا جذريا في قدرة أوكرانيا على استهداف مواقع داخل العمق الروسي.
ففي الأشهر الأخيرة، كثّفت أوكرانيا هجماتها على البنية التحتية الحيوية داخل روسيا، مستهدفة منشآت حساسة مثل مصافي النفط، ما تسبب في طوابير طويلة للحصول على الوقود في عدد من المدن الروسية، في ظل تصاعد التحديات التي تواجهها الحكومة لضمان استمرارية الإمدادات.
وإذا ما حصلت أوكرانيا على صواريخ "توماهوك" بعيدة المدى، فقد تتمكن قواتها من استهداف مواقع أعمق داخل الأراضي الروسية، وهو ما ينذر بتفاقم إضافي في الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
ومع تصاعد الضغوط على الاقتصاد الروسي وتراجع وتيرة التقدم العسكري، يبقى احتمال أن تُحدث الإجراءات الجديدة التي اتخذها ترمب تأثيرا ملموسا في مجريات الحرب قائما بقوة، رغم نفي موسكو المتكرر لهذا السيناريو.
وإذا ما تحققت هذه التوقعات، فلن يكون أمام بوتين سوى خيار واحد: القبول بشروط ترمب لإنهاء الحرب في أوكرانيا.