بعد سيل الإشادات التي نالها الرئيس الأميركي دونالد ترمب لدوره في وقف إطلاق النار في غزة وتنسيق عملية تبادل الرهائن الإسرائيليين بالأسرى الفلسطينيين، تلوح في الأفق مرحلة أكثر تعقيدا، تتمثل في تنفيذ البنود المتبقية من خطة السلام المؤلفة من 20 بندا، والرامية إلى ترسيخ سلام دائم في الشرق الأوسط.
ورغم الأهمية البالغة للإجراءات التي أُنجزت حتى الآن، فإنها لا تمثل سوى خطوة أولى ضمن خطة أشمل، كانت إدارة ترمب قد أسهمت في بلورتها إثر جولات التفاوض الأخيرة التي استضافها منتجع شرم الشيخ المصري.
وخلال زيارته لكل من إسرائيل ومصر لتوقيع الاتفاق، لم يتردد ترمب في التغني بجدوى ما تحقق، مدعيا أن الاتفاق يمثل نهاية الحرب بين إسرائيل و"حماس". غير أن المعطيات على الأرض تشير إلى أن الطريق لا يزال طويلا قبل تثبيت وقف إطلاق نار دائم في غزة، وهو شرط أساسي للتقدم في القضايا الأخرى التي تضمنتها الخطة.
ولا شك في أن طموح ترمب كبير حين يتعلق الأمر بإحلال سلام شامل في المنطقة.
ففي كلمته أمام الكنيست بالقدس، ثم في تصريحاته التي تلت ذلك في شرم الشيخ، عرض الرئيس الأميركي رؤية متكاملة لإنهاء النزاعات الكبرى، بدءا من القضية الفلسطينية وصولا إلى التهدئة مع إيران.
وفي كلمة ألقاها أثناء التوقيع على إعلان مشترك بصفته ضامنا لاتفاق وقف إطلاق النار، وبحضور وسطاء من مصر وقطر وتركيا، قال ترمب: "لقد أنجزنا معا ما اعتُبر مستحيلا. أخيرا، لدينا سلام في الشرق الأوسط".
وأضاف: "إنه يوم عظيم للعالم، ويوم عظيم للشرق الأوسط... أخيرا، لدينا سلام في الشرق الأوسط".
ويُحسب لترمب أنه كان المحرك الرئيس للانفراجة الأولى في المحادثات بين "حماس" وإسرائيل، والتي أفضت إلى إفراج الحركة عن آخر 20 رهينة إسرائيليا ظلوا محتجزين وأحياء لعامين في غزة. وفي المقابل، أفرجت إسرائيل عن 1968 أسيرا، غالبيتهم من الفلسطينيين، كانوا في سجونها.
ومع أن هذه المرحلة مضت دون عراقيل تُذكر، فإن العقبات لم تلبث أن ظهرت، خاصة بعدما أخفقت "حماس" في تسليم جثامين 28 إسرائيليا، وهو بند أساسي آخر ضمن المبادرة.
وأوضح مسؤولون في "حماس" أن سبب التأخير يعود إلى عدم تمكنهم من تحديد مواقع جميع الجثث، لافتين إلى وجود صعوبات في انتشالها من تحت أنقاض مبانٍ مدمرة.
لكن التفسير لم يرض الجانب الإسرائيلي، إذ اعتبر كثيرون في تل أبيب أن الحركة لم تلتزم بالاتفاق بعدم تسليم كافة الجثث في الوقت المحدد. وسارعت إدارة ترمب إلى التقليل من أهمية التأخير، مؤكدة ثقتها في استمرار التزام "حماس" بتنفيذ الاتفاق.
وقد بدت ثقة ترمب في تقدم الاتفاق نحو مراحله التالية واضحة خلال ظهوره المشترك مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إذ صرّح بأن النقاشات حول الخطوات التالية في الخطة "قد بدأت، بالنسبة لنا".
لكن حتى مع التوصل إلى الترتيبات النهائية لإعادة جثامين جميع الإسرائيليين المتبقين، لا تزال عقبات جسيمة تحول دون تنفيذ وقف إطلاق نار دائم في غزة، وعلى رأسها رفض "حماس" نزع سلاحها، وفشل إسرائيل في الالتزام بالانسحاب الكامل من المناطق المدمرة.
ورغم أن مؤشرات عدة ظهرت على استعداد "حماس" للتخلي عن سيطرتها على غزة، فإن التخلي عن السلاح يمثل تحديا مختلفا تماما. فمن أولى الخطوات التي اتخذتها الحركة بعد الاتفاق، إحكام قبضتها على مناطق انسحبت منها القوات الإسرائيلية داخل القطاع. وفي مشهد يجسد تمسكها بالهيمنة على هذا الجيب الخارج عن السيطرة، أظهرت لقطات بثتها وسائل إعلام مقاتلي "حماس" وهم ينفذون عمليات إعدام ميدانية لفلسطينيين اتُهِموا بالتعاون مع إسرائيل.
ومن الخطوات التي يُعوَّل عليها لتسريع استقرار الوضع الأمني في غزة، اقتراح تشكيل قوة أمنية دولية تتولى إدارة القطاع مؤقتا خلال فترة التفاوض على مستقبله.
وبحسب المقترحات الواردة في خطة ترمب للسلام، سيتم إنشاء "قوة الاستقرار الدولية" (ISF) التي ستتولى مهمة حفظ الأمن في غزة مع انسحاب الجيش الإسرائيلي تدريجيا.
وأشارت تقارير إلى إجراء محادثات مع عدد من الدول للمشاركة في هذه القوة، من بينها إندونيسيا، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، وأذربيجان. أما الولايات المتحدة، فقد تعهدت بإرسال ما يصل إلى 200 جندي لتقديم الدعم اللوجستي، دون أن يُنشر أي منهم داخل القطاع.
لا تزال عقبات جسيمة تحول دون تنفيذ وقف إطلاق نار دائم في غزة، وعلى رأسها رفض "حماس" نزع سلاحها، وفشل إسرائيل في الالتزام بالانسحاب الكامل من المناطق المدمرة
وخلال هذه المرحلة الانتقالية، يُنتظر من "حماس" تسليم السلطة إلى إدارة فلسطينية مؤقتة من التكنوقراط، تكون خاضعة لإشراف دونالد ترمب.
لكن تشكيل هذه القوة قد يستغرق عدة أشهر قبل أن تصبح جاهزة للانتشار، وهو تأخير قد يُعقّد المشهد إذا واصلت "حماس" سيطرتها على غزة.
وفي هذا السياق، حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي شدد على أن هدفه هو تحقيق "نصر كامل" على "حماس"، من أن الحركة يجب أن تنزع سلاحها، سواء بالوسائل السلمية أو "بالطريقة الصعبة".
وفي خطاب متلفز أعقب الإفراج عن الرهائن الأحياء، أكد نتنياهو أن الاتفاق ما كان ليرى النور لولا الضغط العسكري الذي مارسته إسرائيل على "حماس"، معربا عن توقعه الكامل لنزع سلاح الحركة وتجريد غزة من الأسلحة.
وقال: "بهذه الطريقة، نُطبق الطوق على (حماس) من كل الجهات تمهيدا للمراحل التالية من الخطة، والتي ستشهد نزع سلاح (حماس) وتجريد غزة من الأسلحة". وأضاف: "إذا تم ذلك بالطريقة السهلة، فذلك جيد، وإن لم يكن، فسيُنجز بالطريقة الصعبة".
ولا ريب في أن موقف نتنياهو المتشدد يشكل تحديا كبيرا أمام ترمب، الذي يسعى إلى احتوائه من خلال إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن بلاده قد بلغت "الحد الأقصى الممكن" مما يمكن إحرازه بالقوة العسكرية.
وسيشكل مدى نجاح ترمب في تهدئة الخطاب الإسرائيلي، والحؤول دون استئناف القتال في غزة، وضمان نزع سلاح "حماس"، عاملا حاسما في تقرير ما إذا كان عهد جديد من السلام سيترسخ فعلا في الشرق الأوسط.