يشكل اختراق روسيا للمجال الجوي البولندي، والذي أسفر عن إسقاط قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) لعدد من الطائرات المسيّرة فوق الأراضي البولندية، تصعيدا خطيرا في التوترات المستمرة بين موسكو والغرب على خلفية النزاع في أوكرانيا.
ومنذ أن أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما سماه "العملية العسكرية الخاصة" للسيطرة على أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، انصبّ تركيز الدول الـ32 الأعضاء في حلف شمال الأطلسي على دعم كييف في مواجهة العدوان الروسي، مع الحرص في الوقت نفسه على تفادي الانخراط المباشر في القتال.
ولهذا السبب، حرصت دول الحلف على تزويد أوكرانيا بمجموعة متنوعة من الأسلحة، بدءا من الصواريخ بعيدة المدى وصولا إلى الطائرات الحربية المتطورة، من دون الانخراط في مواجهة مباشرة مع القوات الروسية. غير أن الانتهاك الأخير للمجال الجوي البولندي يهدد هذا التوازن الدقيق، إذ يبحث الحلف في سبل الرد على الحادث الذي يمثل أول احتكاك مباشر بين القوات الروسية وقوات "الناتو" منذ اندلاع الحرب قبل نحو ثلاث سنوات ونصف السنة.
وأعلن رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك أن 19 طائرة مسيّرة روسية اخترقت الأجواء البولندية، عقب إطلاق موسكو موجة جديدة من الصواريخ والطائرات المسيّرة على أوكرانيا. وقد أُسقطت أربع منها بعدما أقلعت مقاتلات تابعة لـ"الناتو" من قواعدها في بولندا لاعتراضها، فيما أفادت السلطات البولندية بأن حطام 16 مسيّرة عُثر عليه متناثرا في الأرياف، بعد أن اصطدمت بمنازل وألحقت أضرارا بالسيارات.
وتُعد هذه الحادثة الأولى من نوعها التي يجري فيها اعتراض طائرات مسيّرة روسية فوق أراضي دولة عضو في "الناتو" منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي بيان لاحق، نفى الكرملين وجود خطط لاستهداف منشآت داخل بولندا، عندما شنّت روسيا هجومها الأخير على أهداف عسكرية-صناعية في غرب أوكرانيا.
وفي مسعى لاحتواء التوتر، أعلن مسؤولون روس استعدادهم لإجراء محادثات مع الجانب البولندي بشأن الحادث.
تُعد هذه الحادثة الأولى من نوعها التي يجري فيها اعتراض طائرات مسيّرة روسية فوق أراضي دولة عضو في "الناتو" منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا
ورغم هذه التصريحات، أثار الحادث ردود فعل غاضبة من القادة الغربيين، وسط تزايد الشكوك بأن موسكو تتعمد اختبار فعالية أنظمة الدفاع الجوي التابعة لـ"الناتو" في المنطقة.
وردّ توسك على الحادثة محذرا من أن بلاده لم تكن منذ الحرب العالمية الثانية أقرب إلى خطر الانزلاق في نزاع مسلح كما هي اليوم.
وقال رئيس الوزراء البولندي أمام البرلمان: "لا أرى أننا على حافة حرب، غير أن خطا أحمر قد جرى تجاوزه، والوضع أصبح أخطر بكثير مما كان في السابق". وأضاف: "الوضع الراهن يجعلنا أقرب إلى اندلاع صراع مفتوح مما كنا عليه في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية".
وأثارت التصرفات الروسية موجة حادة من الإدانات من حلفاء وارسو الغربيين. حيث وصف رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، الحادث بأنه "هجوم همجي على أوكرانيا وانتهاك صارخ وغير مسبوق للمجالين البولندي والأطلسي من قبل الطائرات المسيّرة الروسية". أما الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فعبر عن دهشته إزاء الحادث في منشور على منصته "تروث سوشيال"، متسائلا: "ما الذي دفع روسيا لانتهاك المجال الجوي البولندي بطائرات مسيرة؟ ها نحن ذا!".
ورغم أن بولندا شهدت سابقا اختراقات روسية محدودة خلال النزاع، فإن الحادث الأخير يُعد الأخطر حتى الآن، ما يفرض على "الناتو" والمجتمع الدولي التعامل بجدية مع تداعيات هذا التصعيد الروسي. وإلى جانب دعوته لتفعيل المادة الرابعة من معاهدة "الناتو"، ناشد رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك المجتمع الدولي تقييم تبعات الحادث.
رغم أن بولندا شهدت سابقا اختراقات روسية محدودة خلال النزاع، فإن الحادث الأخير يُعد الأخطر حتى الآن
وبموجب المادة الرابعة، يحق للدول الأعضاء في "الناتو" إجراء مشاورات فيما بينها متى رأت أن أمنها أو أراضيها أو استقلالها السياسي مهدد. وبموجب المادة نفسها، يمكن أن تفضي هذه المشاورات، في إطار مجلس شمال الأطلسي- الهيئة الرئيسة لصنع القرار السياسي في الحلف- إلى اتخاذ قرارات أو خطوات مشتركة.
ومنذ تأسيس "الناتو" عام 1949، فُعّلت المادة الرابعة سبع مرات، كان آخرها في شباط/فبراير 2022، عندما طلبت ثماني دول، وهي بلغاريا، جمهورية التشيك، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، رومانيا، وسلوفاكيا، عقد مشاورات على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا.
كما طلبت بولندا عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي لبحث حوادث اختراق الطائرات المسيّرة. وأكدت بعثة كوريا الجنوبية لدى الأمم المتحدة، التي تترأس المجلس هذا الشهر، أن هناك مشاورات تجري لتحديد موعد الاجتماع. ووفقا لوكالة "رويترز"، فإن أربع دول أخرى من أعضاء المجلس، إلى جانب بولندا، قدّمت طلبا رسميا لعقد الاجتماع.
وفي الحد الأدنى، يُرجَّح أن يدفع الحادث "الناتو" إلى إطلاق عملية تحديث شاملة لدفاعاته الجوية، لا في بولندا وحدها بل في جميع الدول الأعضاء الواقعة على الخطوط الأمامية مع روسيا. وقد يشمل ذلك نشر مزيد من الطائرات الحربية وأنظمة الدفاع الجوي والتقنيات المتطورة المضادة للمسيّرات. ويبدو أن الحلف مستعد للمضي في هذا الاتجاه. ويرى كثيرون في الغرب أن الهدف الروسي من هذا الاختراق كان اختبار قدرات الحلف الدفاعية، غير أن موسكو، بدلا من كشف ضعف "الناتو"، ساهمت في تعزيز عزيمته على الدفاع عن مصالحه.