ترمب و"بي بي سي"... مواجهة لا مفر منها

المؤشرات الأولى تُظهر أن الحكومة البريطانية تعتزم دعم "الهيئة" في نزاعها مع ترمب

ترمب و"بي بي سي"... مواجهة لا مفر منها

استمع إلى المقال دقيقة

رغم أن قدرا كبيرا من نجاح ترمب السياسي ارتبط بالصورة الإعلامية الواسعة التي بناها عندما قدم البرنامج التلفزيوني الأميركي شديد النجاح "ذا أبرنتس"، فإنه اتخذ، في المقابل، موقفا صارما من تغطية وسائل الإعلام لمسيرته السياسية.

وكثيرا ما اتهم ترمب محطات الأخبار السائدة بترويج ما يسميه "الأخبار الزائفة"، وتبنى نهجا أكثر صدامية في تعامله مع صناعة الأخبار، ولا سيما منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي.

واتسمت الأشهر القليلة الأولى من ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض برفعه عددا من الدعاوى القضائية البارزة ضد مالكي اثنتين من أكثر الشبكات الإخبارية نفوذا في الولايات المتحدة، وهما "إيه بي سي" (ABC)، و"سي بي إس" (CBS).

وجاءت الدعوى ضد "CBS" ردا على إعراب ترمب عن مخاوف تتعلق بقرارات تحريرية اتخذت خلال إعداد مقابلة أجرتها الشبكة مع المرشحة الرئاسية الديمقراطية كامالا هاريس في عام 2024.

وأفضت التسوية بين شركة "باراماونت"، الشركة الأم لشبكة "CBS"، والفريق القانوني لترمب، إلى موافقة مالكي الشبكة على دفع 16 مليون دولار لمكتبة دونالد ترمب المزمع إنشاؤها، وشمل هذا المبلغ الرسوم القانونية لترمب، مقابل إنهاء الدعوى.

وشكل عاملا محوريا في إغلاق الملف أن لجنة الاتصالات الفيدرالية الجديدة، بعد استعادة ترمب السلطة وتشكيل إدارته الجديدة، وبرئاسة جمهورية عينت حديثا، لم تكن ملزمة قانونا بنقل تراخيص البث الخاصة بمحطات "CBS" التلفزيونية المملوكة والمدارة من الشبكة إلى ملكية جديدة، وهو ما كان يمكن أن يلحق ضررا تجاريا شديدا بعملياتها.

يستخدم ترمب التهديد باللجوء إلى القضاء لإسكات منتقديه، مما قد يدفع أقسام الأخبار في الشبكات الأميركية إلى ممارسة رقابة ذاتية عند تغطية القضايا المثيرة للجدل المرتبطة به

وجاء قرار "باراماونت" بالتسوية في الدعوى عقب تسوية مماثلة توصل إليها الرئيس مع شركة "ديزني"، مالكة "ABC News"، التي لاحقها ترمب قضائيا بعدما ادعى مذيعها النجم جورج ستيفانوبولس على نحو غير صحيح أن ترمب "ثبتت مسؤوليته عن الاغتصاب". وردد ستيفانوبولوس تلك العبارات مرارا خلال مناظرته لنائبة في الكونغرس بشأن دعمها لترمب.
ووافقت "ديزني" على إنهاء الخلاف مقابل تبرع قدره 15 مليون دولار لمكتبة ترمب المزمع إنشاؤها كذلك. وإضافة إلى ذلك، وافقت "ABC" على نشر ملاحظة تحريرية تعرب فيها عن "أسفها" عن تصريحات ستيفانوبولوس.
وأثارت هذه التسويات مخاوف داخل أوساط الإعلام الأميركي من أن ترمب يستخدم عمدا التهديد باللجوء إلى القضاء لإسكات منتقديه، وأن ذلك قد يدفع أقسام الأخبار في الشبكات الأميركية إلى ممارسة رقابة ذاتية عند تغطية القضايا المثيرة للجدل المرتبطة به. ويجري، في هذا المناخ، تشجيع الصحافيين في الشبكات على موازنة مخاطر التسبب بدعاوى إضافية عند متابعة تحقيقات تتعلق بإدارة ترمب.
لذلك، ينبغي النظر إلى قرار ترمب رفع دعوى بقيمة 10 مليارات دولار ضد "بي بي سي" في سياق حملته الممتدة منذ وقت طويل لمواجهة وسائل الإعلام السائدة، حتى لو بدت قضية الهيئة غير معتادة لأسباب عدة، من بينها أن التقاضي يطال جهة بث أجنبية حضورها في الولايات المتحدة محدود نسبيا.

وفي شكوى من 33 صفحة، طلب محامو ترمب من محكمة اتحادية في ميامي عقد محاكمة أمام هيئة محلفين، وادعوا أن فيلما وثائقيا بثته "هيئة الإذاعة البريطانية" قبل أسبوع من انتخابات الرئاسة لعام 2024 كان "محاولة سافرة للتدخل في نتيجة الانتخابات والتأثير فيها بما يضر الرئيس ترمب".
وزعم محامو ترمب أن الهيئة جمعت بصورة خبيثة مقاطع من خطابه أمام أنصاره في منطقة "الإليبسي" بواشنطن، بما في ذلك مقطع في أول الخطاب حثهم فيه على التوجه سيرا إلى مبنى الكابيتول، ومقطع آخر بعد نحو 55 دقيقة قال لهم فيه "قاتلوا بشراسة".
وأصدرت "الهيئة" اعتذارا رسميا لترمب، لكنها قالت إن ادعاء ترمب لا يوفر أساسا لرفع دعوى تشهير. وظهرت المخاوف الأولى بشأن كيفية تحرير الخطاب في مذكرة داخلية مسربة داخل "الهيئة". وقادت التطورات إلى استقالة المدير العام لـ"الهيئة" تيم ديفي، ورئيسة الأخبار فيها ديبورا تيرنس، إذ حمّلا نفسيهما مسؤولية طريقة تعامل المؤسسة مع القضية.
وقال ممثلو "الهيئة" إن الاستقالات والاعتذار يكفيان، ولا سيما أن الوثائقي المعني لم يبث في الولايات المتحدة، وبالتالي يصعب أن يكون قد أثر في فرص إعادة انتخاب ترمب. وأشاروا أيضا إلى أن فوزه الكاسح في الانتخابات الرئاسية يظهر أن الوثائقي لم يؤثر في حظوظه.
وفي بيان مقتضب، قالت "الهيئة" إنها ستواجه الدعوى، وهو ما قد يؤدي إلى نزاع قانوني بشأن ما إذا كان تحرير الخطاب أضرّ بسمعة الرئيس.

أصدرت "بي بي سي" اعتذارا رسميا لترمب، لكنها قالت إن ادعاء ترمب لا يوفر أساسا لرفع دعوى تشهير

وقالت متحدثة باسم "الهيئة"، بحسب وكالة "رويترز" للأنباء: "كما أوضحنا من قبل، سندافع عن هذه القضية. ولن ندلي بمزيد من التعليق على الإجراءات القانونية الجارية".
لكن الدعوى قد تفضي إلى توتر في العلاقات بين لندن وواشنطن، لأن الهيئة منظمة ممولة من المال العام. وهذا يعني أن أي تسوية قد تبرمها مع ترمب سيدفع ثمنها دافعو الضرائب البريطانيون.
وواجه رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر بالفعل قدرا من الضغط الداخلي لحثه على إثارة قضية التشهير مباشرة مع الرئيس الأميركي.
وتشير المؤشرات الأولى إلى أن الحكومة البريطانية تعتزم دعم "الهيئة" في نزاعها القانوني مع ترمب، إذ شدد ستيفن كينوك- وهو وزير بارز في إدارة ستارمر- على أن المؤسسة عليها أن تقف بثبات في مواجهة دعوى التشهير التي رفعها ترمب.
وقال كينوك لشبكة "سكاي نيوز": "أعتقد أنهم اعتذروا عن خطأ أو اثنين وقعا في برنامج "بانوراما"، لكنهم كانوا واضحين جدا أيضا في أنه لا توجد قضية تستوجب الرد عندما يتعلق الأمر باتهامات السيد ترمب في النقطة الأوسع المتعلقة بالقذف أو التشهير".
وعلى خلاف دعاوى ترمب ضد جهات البث السائدة في الولايات المتحدة، فإن قراره بمقاضاة "هيئة الإذاعة البريطانية" يمكن أن يتسبب بشرخ دبلوماسي كبير في العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

font change