ينذر اتساع الشرخ بين الولايات المتحدة وأوروبا حول جهود إدارة الرئيس دونالد ترمب لإنهاء الحرب في أوكرانيا بأكبر أزمة قد تضرب التحالف عبر الأطلسي منذ عقود.
لم تعرف العلاقات بين ضفتي الأطلسي توترا بهذا الحجم منذ أزمة السويس عام 1956 حين ضغطت واشنطن لوضع حد للعملية العسكرية المشتركة التي نفذتها المملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل ضد مصر.
ومع تراكم التحديات التي يواجهها التحالف الغربي على جبهات متعددة، فإن أي إشارة إلى تباعد في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة ستُعتبر لدى القوى المنافسة دليلا على أن احتمال صدور رد غربي لم يعد يثير القلق.
ويقف مشروع الرئيس ترمب الطموح لإنهاء النزاع في أوكرانيا في صميم الخلاف الحالي بين أوروبا والولايات المتحدة. ورغم أن تفاصيل مبادرة ترمب للسلام لم تُكشف بعد بشكل كامل، فإن المخاوف بدأت تتصاعد بين القادة الأوروبيين، بمن فيهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بشأن نية ترمب الضغط على كييف للتنازل عن أراضٍ لصالح موسكو ضمن رؤية أوسع لإنهاء القتال.
وبعد ما يقارب أربع سنوات من الصراع الدموي، يرفض زيلينسكي بشكل مبرر الانصياع لمطالب ترمب، مؤكدا أن الدستور الأوكراني يحظر التخلي عن أي جزء من الأراضي لصالح قوة أجنبية. وفوق ذلك، يستند زيلينسكي إلى دعم حلفاء أوروبيين بارزين يرون أن أي اتفاق يُرغم أوكرانيا على التنازل عن أراضٍ لموسكو سيكون بمثابة مكافأة للعدوان العسكري الروسي.
ويرى الأوروبيون أنه في حال اقتنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن حملته العسكرية في أوكرانيا قد نجحت، فإن إنهاء النزاع لن يؤدي إلا إلى تشجيعه على مواصلة أعمال العدوان داخل أوروبا، وهو ما قد يقود في نهاية المطاف إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.
وعلى النقيض من هذا الطرح، يتبنى ترمب رؤية أكثر تفاؤلا تجاه مقترحاته، إذ يؤكد أن صفقته لا تعدو كونها ترجمة للواقع القائم على أرض المعركة. فالقوات الأوكرانية، رغم ما أظهرته من شجاعة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، لا تملك فرصا فعلية لاستعادة الأراضي الواقعة في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، التي سيطرت عليها القوات الروسية وما زالت تحتلها حتى الآن.
ويرى ترمب أن النزاع وصل إلى مرحلة حاسمة أصبحت فيها روسيا الطرف المتفوق عسكريا، حتى لو كانت هذه القراءة محل انتقاد لدى معظم المحللين العسكريين الغربيين.
وقد دفعه هذا الاعتقاد إلى تكثيف الضغوط على زيلينسكي لتقديم تنازلات تضع حدا لاستمرار إراقة الدماء.
مساعي ترمب للضغط على زيلينسكي من أجل التوقيع على اتفاق تواجه رفضا صارما من أوروبا
وقال الرئيس الأميركي في مقابلة مع موقع "بوليتيكو": "على زيلينسكي أن يبدأ بالتحرك وقبول بعض الأمور"، مضيفا: "عندما تكون في موقع الخاسر عليك أن تتنازل... وهو خاسر".
ولفت ترمب إلى صفقات السلام التي يقول إنه لعب دورا في إنجازها في مناطق مختلفة من العالم، محذرا من أن التوصل إلى اتفاق سلام بين أوكرانيا وروسيا أكثر تعقيدا بسبب ما وصفه بالعداء الشخصي العميق بين زيلينسكي وبوتين.
وقال الرئيس ترمب، متحدثا عن بوتين، إن الأخير لم يكن يضمر أي احترام لزيلينسكي ولم يكن يطيقه، مضيفا أن بين الطرفين قدرا كبيرا من العداء. ورأى أن جزءا من المشكلة يكمن في هذا النفور الشديد المتبادل، الأمر الذي يجعل التوصل إلى اتفاق بينهما بالغ الصعوبة، بل أشد تعقيدا من كثير من الحالات الأخرى.
وأضاف قائلا: "لقد أنهيت الكثير من الحروب، وأنا فخور بذلك. أنا أفعل ذلك بشكل روتيني وبشيء من السهولة. الأمر ليس عسيرا علي، لأن عقد الصفقات مهنتي". ثم تابع موضحا أن هذه الصفقة تحديدا شديدة التعقيد، وأن من بين أسباب ذلك "حجم العداء الهائل بين بوتين وزيلينسكي".
غير أن مساعي ترمب للضغط على زيلينسكي من أجل التوقيع على اتفاق تواجه رفضا صارما من أوروبا.
فقد شارك قادة من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا في اجتماع عُقد هذا الأسبوع في مقر رئاسة الوزراء البريطانية في داونينغ ستريت، بدعوة من رئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر، لتجديد تأكيد دعمهم لزيلينسكي، الذي حضر هو الآخر اللقاء.
وتركزت المحادثات بصورة أساسية على إعلان الدعم الأوروبي لأوكرانيا من جانب مجموعة من الدول المعروفة باسم "تحالف الراغبين"، حيث جدد ستارمر تأكيده على أهمية الوقوف إلى جانب أوكرانيا.
كما أعرب قادة المملكة المتحدة وفرنسا عن قلقهم بشأن ضرورة توفير ضمانات أمنية قوية لأوكرانيا في حال التوصل إلى اتفاق سلام، في حين أبدى المستشار الألماني قدرا من التشكيك في التفاصيل التي طرحها الجانب الأميركي.
وكتب زيلينسكي على منصة "إكس" بعد "قمة داونينغ ستريت" أن أوكرانيا وأوروبا تعملان بنشاط على "جميع عناصر الخطوات المحتملة لإنهاء الحرب"، لافتا إلى أن العناصر الأوكرانية والأوروبية ضمن الخطة باتت الآن أكثر نضجا. وكان ترمب قد اتهم زيلينسكي، قبل انعقاد الاجتماع، بعدم الاطلاع على المقترح الأخير.
وقد بدا واضحا أن ترمب انزعج من التدخل الأوروبي في مساعيه للتوسط في اتفاق بشأن أوكرانيا، خاصة بعدما أعقب قادة المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا قمتهم بمكالمة هاتفية جماعية معه لعرض مخاوفهم.
وبعد المكالمة، عبّر ترمب عن تبرمه من مواقف الحلفاء الأوروبيين، مشيرا إلى أن مشاركة الولايات المتحدة في أي جولة محادثات لاحقة باتت موضع شك، مضيفا أنهم في نظره يجازفون بتضييع الوقت.
وقال الرئيس الأميركي: "لقد كان نقاشنا حول أوكرانيا محتدما إلى حد ما"، وذلك ردا على سؤال بشأن المكالمة الهاتفية التي جمعته في وقت سابق برئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس.
وبيّن ترمب أن الأوروبيين يرغبون في عقد جولة جديدة من المحادثات في نهاية الأسبوع، لكنه حذّر من أنهم يخاطرون بـ"تضييع الوقت".
وعندما سُئل عمّا إذا كانت أوروبا قادرة على الإسهام في إنهاء الحرب، قال ترمب: "إنهم يتحدثون كثيرا لكنهم لا يفعلون شيئا، والحرب تمضي بلا نهاية".
ولم يكتف بذلك، بل وجّه انتقادا لاذعا لعجز أوروبا عن الدفاع عن نفسها دون الدعم الأميركي، وذلك عقب صدور النسخة الأحدث من استراتيجية الأمن القومي الأميركية، التي أثارت بدورها تساؤلات حول ما إذا كانت دول مثل المملكة المتحدة وفرنسا لا تزالان تُعدان حليفتين يمكن لواشنطن الاعتماد عليهما.
وفي مقابلة مع موقع "بوليتيكو"، صعّد ترمب لهجته، فوصف القادة الأوروبيين بالضعف، وطرح احتمال تقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا. واتهم الدول الأوروبية "المتهالكة" بأنها عجزت عن ضبط الهجرة أو اتخاذ خطوات حاسمة لإنهاء الحرب، مضيفا أنها تترك كييف "تقاتل حتى تنهار".
ومع تشدد ترمب المتزايد تجاه أوروبا، لم تعد أوكرانيا وحدها في مرمى الضغوط التي يمارسها الرئيس الأميركي.