الفساد و/أو السلام يطيح باليد اليمنى لزيلينسكي؟

ضربة موجعة للرئيس الأوكراني

رويترز
رويترز
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (يمين) ورئيس مكتب الرئاسة الأوكرانية أندريه يرماك (يسار) خلال لقائهما في قصر زارزويلا في مدريد، 18 نوفمبر 2025.

الفساد و/أو السلام يطيح باليد اليمنى لزيلينسكي؟

مع دخول المفاوضات حول مستقبل أوكرانيا مرحلة حساسة، جاءت الاستقالة المفاجئة لأندريه يرماك، رئيس فريق التفاوض في كييف، وأقرب الحلفاء السياسيين للرئيس فولوديمير زيلينسكي، لتشكل انتكاسة أمام الجهود الدبلوماسية الرامية لإنهاء النزاع المستمر منذ زمن طويل.

وقبل تنحيه في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني بسبب فضيحة الفساد المتفاقمة، شغل يرماك، البالغ من العمر 54 عاما، موقعا محوريا في مساعي أوكرانيا لإقناع إدارة ترمب بضرورة حماية مصالحها ضمن أي اتفاق سلام مستقبلي مع روسيا.

قبيل الإعلان المفاجئ عن استقالته من منصبه، ككبير موظفي الرئيس زيلينسكي، كان يرماك يتولى قيادة المساعي الأوكرانية لإقناع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بإعادة النظر في خطة السلام المؤلفة من 28 بندًا، الهادفة إلى إنهاء الصراع في أوكرانيا. وقد تعرّضت هذه الخطة لانتقادات لاذعة، باعتبارها تمنح موسكو تنازلات كبيرة. وكان من المنتظر أن يتوجّه إلى فلوريدا لإجراء مباحثات مع مسؤولين أميركيين بشأن الصيغة المعدّلة للمقترحات، في منتجع "مارالاغو" التابع لترمب.

ولكن بدلا من ذلك، وجد يرماك نفسه مضطرا إلى تقديم استقالته، بعدما داهم محققون في قضايا الفساد منزله ضمن تحقيق يتعلق بفضيحة فساد بقيمة 100 مليون دولار، يقال إنها تطال مسؤولين كبارا في قطاع الطاقة الأوكراني.

وبعد خروجه من إدارة زيلينسكي، أعلن يرماك أنه سيتجه إلى الجبهة للقتال دفاعا عن أوكرانيا. وقال لصحيفة "نيويورك بوست": "لقد لُوّثت سمعتي، وانتُهكت كرامتي. لذلك، لا أريد أن أسبب المتاعب لزيلينسكي، سأذهب إلى الجبهة".

وجاءت إقالة يرماك من منصبه في أعقاب مزاعم أطلقتها وكالات مكافحة الفساد الأوكرانية، تفيد بتورط مسؤولين مقربين من الرئيس زيلينسكي في مخطط لاختلاس نحو 100 مليون دولار من قطاع الطاقة في البلاد. ولم تُوجَّه إلى يرماك أي تهم حتى الآن، وهو الذي كان يُعد ثاني أقوى شخصية في الحكومة الأوكرانية. وكان المستشار السابق، قد أدّى دورا بارزا في توطيد علاقات أوكرانيا مع الحلفاء الغربيين، كما أشرف على المفاوضات مع البيت الأبيض. وعيّن زيلينسكي رستم عمروف خلفا ليرماك، وهو يشغل منصب أمين مجلس الأمن والدفاع القومي الأوكراني.

وفي رسالته التي أعلن فيها عزمه التوجه للقتال دفاعا عن بلاده، عبّر يرماك عن غضبه الشديد قائلا: "أشعر بالاشمئزاز من القذارة التي وُجهت إلي، ويقززني أكثر غياب الدعم من أولئك الذين يعرفون الحقيقة". وأضاف رجل السلطة السابق في ختام رسالته: "ربما نلتقي مجددا. المجد لأوكرانيا".

سقوط يرماك يشكل ضربة موجعة للرئيس الأوكراني، الذي خسر بالفعل وزيرين، واضطر إلى فرض عقوبات على مقربين منه 

وعلى الرغم من المرارة التي رافقت سقوط يرماك، وخروجه من دائرة النفوذ، أشاد زيلينسكي بجهوده في السعي للوصول إلى اتفاق ينهي الحرب. وقال: "أنا ممتن لأندريه لأنه كان دائما يقدم الموقف الأوكراني في مسار التفاوض بالشكل المطلوب. لقد كان دائما موقفا وطنيا".

ولا شك أن سقوط يرماك يشكل ضربة موجعة للرئيس الأوكراني، الذي كان قد خسر بالفعل وزيرين، واضطر إلى فرض عقوبات على مقربين منه بعد أن كشفت هيئات مكافحة الفساد عن اختلاس ملايين الدولارات من شركة "إنيرغوأتوم" الحكومية للطاقة النووية.

وكان المحققون قد سجّلوا سرا محادثات بين مسؤولين كبار كشفت عن مخطط لاختلاس ما يقارب 100 مليون جنيه إسترليني من شركة "إنيرغوأتوم." وقبل استقالته، أعاد يرماك التأكيد على موقف كييف الراسخ منذ زمن، وهو رفض التنازل عن أي جزء من أراضيها لصالح روسيا في أي اتفاق سلام محتمل. وقال لمجلة "ذا أتلانتيك": "ما دام زيلينسكي رئيسا، لا يجب أن يعوّل أحد على أننا سنفرط بأراضينا. لن يوقع على أي تنازل عن الأراضي".

رويترز
رئيس المكتب الرئاسي الأوكراني أندريه يرماك يراقب الهجوم الروسي على أوكرانيا، في كييف، أوكرانيا 22 يناير 2024

وكان لاستبعاد يرماك أثر مباشر في واشنطن، إذ أقر ترمب بأن فضيحة الفساد التي تعصف بالحكومة الأوكرانية "لا تخدم" محادثات السلام الجارية. وقال: "تواجه أوكرانيا مشكلات صغيرة صعبة". في إشارة إلى استقالة يرماك.

وفي المقابل، رأى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الفضيحة تثير تساؤلات حول ما إذا كان زيلينسكي ما يزال قادرا على المشاركة في مفاوضات السلام المقبلة.

وبعد أن أمضى أكثر من خمس سنوات في رئاسة مكتب الرئيس زيلينسكي، أي منذ ما قبل الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، شكّلت استقالة يرماك دون شك ضربة موجعة للزعيم الأوكراني.

وُلد يرماك في نوفمبر 1971 في كييف، حين كانت أوكرانيا ما تزال جزءا من الاتحاد السوفياتي. تعرّف والده بوريس إلى والدته ماريا خلال رحلة مدرسية. وبعد أن درس في معهد "العلاقات الدولية" بجامعة "تاراس شيفتشينكو الوطنية" في كييف، حصل على درجة الماجستير في القانون الدولي الخاص.

أنشأ يرماك مكتبا قانونيا خاصا به، ثم اتجه لاحقا إلى العمل في مجال إنتاج الأفلام. تعرّف زيلينسكي إلى يرماك لأول مرة عام 2011، عندما كان يعمل محاميا متخصصا في شؤون الترفيه ومنتجا سينمائيا، وكان الاثنان يعملان في القناة التلفزيونية نفسها.
وفي عام 2020، عيّنه زيلينسكي رئيسا لمكتبه الرئاسي، حيث سرعان ما جعلته مهاراته في التواصل والتفاوض شخصية محورية خلف الكواليس داخل الإدارة.

ومع اندلاع الحرب عام 2022، تولى يرماك دورا رئيسا في إدارة الدولة المنهكة، وساهم في بناء تحالف دولي داعم لأوكرانيا .وقد عمق الغزو الروسي الشامل العلاقة بين الرجلين. ففي الأسابيع الأولى من الحرب، حين كانت كييف شبه محاصرة، ناما على بعد أقدام قليلة من بعضهما في المخبأ الرئاسي، وكانا يعملان جنبا إلى جنب خلال النهار. ويقال إن يرماك بات الحليف الأقرب لزيلينسكي، وموضع ثقته شبه المطلقة.

وعلى الرغم من أنه لم يكن منتخبا، إلا أن يرماك تمكن خلال فترة وجيزة من تركيز قدر كبير من السلطة بين يديه، ورسخ نفوذه عبر إشرافه على ملفات أوكرانيا الداخلية والخارجية على حد سواء.

وقد جعل صعوده السريع إلى موقع القرار منه شخصية مثيرة للجدل في أوكرانيا، إذ وُجهت إليه اتهامات بتركيز السلطة في يد الرئيس، وتقويض مؤسسات الدولة الديمقراطية. وكان يتولى مسؤولية اختيار رئيس الوزراء، والوزراء ورؤساء الهيئات الحكومية، إضافة إلى إحكام السيطرة على قطاعات من أجهزة إنفاذ القانون. وقد أثار ذلك اتهامات من خصومه بتهميش البرلمان لصالح تركيز السلطة داخل الجهاز التنفيذي.
وبحلول عام 2024، أدى نفوذه الواسع في إدارة شؤون الدولة إلى إدراج اسمه ضمن قائمة مجلة "تايم" السنوية لأكثر مئة شخصية مؤثرة في العالم، فيما لم يظهر اسم زيلينسكي في تلك القائمة.

وتعود أسباب سقوط يرماك إلى احتجاجات الصيف الماضي ضد الفساد، التي اندلعت في كييف ومدن أوكرانية أخرى اعتراضا على محاولة زيلينسكي المتسرعة تمرير قانون يحد من صلاحيات أهم هيئتين لمكافحة الفساد في البلاد: المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا ومكتب الادعاء الخاص لمكافحة الفساد .

وقد قوبلت هذه الخطوة بإدانة من الحلفاء الغربيين، وأطلقت موجة واسعة من الاحتجاجات المناهضة للحكومة في مختلف أنحاء البلاد، حيث هتف المتظاهرون في كييف: "أقيلوا يرماك! أقيلوا يرماك!"
ومع تصاعد الاحتجاجات، إضافة إلى الإدانة الدولية الكبيرة، اضطر زيلينسكي إلى التراجع وإعادة الاستقلال لتلك الهيئات.

وتعززت مخاوف الرأي العام من تفشي الفساد في أوكرانيا في أوائل نوفمبر، حين أعلن المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا أن مجموعة من كبار المسؤولين الأوكرانيين المقربين من زيلينسكي اختلست مبلغ 100 مليون دولار من قطاع الطاقة في البلاد.

وبالإضافة إلى تلقي عمولات كبيرة من عقود حكومية في قطاع الطاقة، اتهمت هذه المجموعة أيضا بإضعاف التحصينات الدفاعية لشبكة الكهرباء الوطنية، الأمر الذي أتاح لروسيا إغراق البلاد في ظلام طويل عبر استهداف البنية التحتية الوطنية لأوكرانيا.

ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في سقوط يرماك تنامي المخاوف من أن الاتهامات المرتبطة بفضيحة الفساد، قد تلحق ضررا كبيرا بجهود كييف للتوصل إلى اتفاق مع إدارة ترمب لإنهاء الحرب.

نظرا إلى الدور المحوري الذي اضطلع به يرماك داخل فريق التفاوض التابع لزيلينسكي، بدأت تتبلور قناعة متزايدة بأن استمراره لم يعد مكسبا

يرى كثيرون في أوكرانيا أن استعداد ترمب لتقديم تنازلات واسعة لروسيا، بما في ذلك التخلي عن أراضٍ أوكرانية لصالح موسكو، يعكس قناعة لدى إدارته بأن كييف ليست في موقع يؤهلها لفرض شروطها. ونظرا إلى الدور المحوري الذي اضطلع به يرماك داخل فريق التفاوض التابع لزيلينسكي، بدأت تتبلور قناعة متزايدة بأن استمراره لم يعد مكسبا، بل تحوّل إلى عبء يعرقل المساعي الرامية إلى التوصل إلى تسوية مقبولة تنهي النزاع.

أ ف ب
يتحدث رئيس مكتب الرئيس الأوكراني أندريه يرماك ووزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى وسائل الإعلام بعد محادثات مغلقة في البعثة الأميركية في جنيف، سويسرا، 23 نوفمبر 2025

ومن العوامل الأخرى التي لم يكن بوسع زيلينسكي التغاضي عنها، أن أي اتفاق قد يتوصل إليه يرماك سيكون من الصعب تمريره أمام الرأي العام الأوكراني، بعدما تزعزعت الثقة بقدرته على صياغة تسوية، تعكس مصالح البلاد بصورة حقيقية في أعقاب فضيحة الفساد التي طاولته.

وفي ظل هذه الظروف، ورغم أن استبعاد يرماك من منصبه يشكل انتكاسة كبيرة لزيلينسكي، فإن هذه الخطوة قد تمنحه على المدى البعيد، فرصة أوسع لحشد التأييد الشعبي لأي اتفاق سلام محتمل مع روسيا في المستقبل.

font change

مقالات ذات صلة