ما زالت الفجوة واسعة بين الموقفين الروسي والأوكراني رغم الجهود الدبلوماسية المبذولة منذ قمة ألاسكا في 15 أغسطس/آب الماضي، وقمة واشنطن في 18 من الشهر نفسه. حركت القمتان مياهًا كانت راكدة في الحرب المستمرة منذ أكثر من 42 شهرًا، وفتحتا الطريق أمام تسوية سلمية تفيد المعطيات بأن إنجازها يتطلب استمرار الجهود الدبلوماسية لوقتٍ قد لا يكون قصيرًا بسبب حجم الفجوة بين موقفي الدولتين المتحاربتين. فهما موقفان حديان لا يمكن لأي منهما أن يكون أساسًا لتسوية سلمية. كما يصعب في الوقت نفسه تحريكهما لمسافات متساوية للالتقاء في منتصف الطريق على أساس حل وسط يقبله كل منهما.
موقف موسكو أقوى على الأرض بفعل اختلال ميزان القوى العسكرية لمصلحتها، ونتيجة سيطرة القوات الروسية على خمس مقاطعات أوكرانية بدرجات متفاوتة. تسيطر هذه القوات على مقاطعتين بشكل كامل، وعلى نحو ثلاثة أرباع مقاطعة ثالثة، وعلى حوالي نصفي مقاطعتين، علاوةً على جيوب صغيرة في ثلاث مقاطعات أخرى. تريد روسيا اعترافًا بسيطرتها على هذه المقاطعات، وإجراء تبادل أراضٍ محدود بين بعضها. ويُفهم من المعلومات الشحيحة المتوافرة حول مسألة تبادل الأراضي هذه أن روسيا مستعدة لسحب قواتها المحدودة الموجودة في جيوب صغيرة في مقاطعتي خاركيف وسومي في مقابل حصولها على الجزء الذي لم تستطع السيطرة عليه في مقاطعة دونيتسك. فلهذه المقاطعة أهمية خاصة جدًا بالنسبة إلى موسكو لأسباب أهمها أن نسبة كبيرة من سكانها البالغ عددهم نحو مليون نسمة يتحدثون اللغة الروسية. كما أنها غنية بمواردها الطبيعية.
إذا كان الحل العادل بعيدًا ومستبعدًا، وهو كذلك فعلاً، ربما تستطيع أوكرانيا تقليل عدم عدالة الحل الواقعي أو الممكن
وتريد روسيا أيضًا التفاهم على ترتيبات أمنية جديدة في شرق أوروبا. وأهم ما تسعى إليه في هذا المجال هو غلق القواعد العسكرية التابعة لحلف "الناتو" في الدول التي انضمت إليه منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، وعدم وضع أي قوات أو أسلحة لهذا الحلف في مواقع قريبة من حدودها، ومنع أوكرانيا من الانضمام إليه في أي وقت في المستقبل.
لا تقبل موسكو حتى الآن الانسحاب من الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها وتدعي أنها جزء لا يتجزأ من روسيا التاريخية، ولكنها مستعدة للتفاوض حول الترتيبات الأمنية التي تريدها في شرق أوروبا. وربما تشترط أن يكون إقرار هذه الترتيبات بصيغة تقبلها في مقابل موافقتها على الضمانات الأمنية الأوروبية-الأميركية لأوكرانيا. ولذا تعد مسألة المقاطعات الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا هي معضلة المعضلات التي تواجه الجهود الدبلوماسية لأنها تجعل الوصول إلى حل وسط بالغ الصعوبة. فهذا الحل، الذي يُطلق عليه عادةً الحل العادل، يتطلب تنازلات متبادلة بشأن مختلف قضايا الصراع وليس بعضها فقط. ولذا يصعب تصور أن يكون الحل الذي يمكن التوصل إليه عادلاً بالنسبة إلى أوكرانيا. ولكنها قد تكون مضطرة إليه لتجنب احتلال القوات الروسية المزيد من أراضيها في حالة فشل الجهود الدبلوماسية واستمرار الحرب لشهور وربما سنوات مقبلة.
الحل العادل، إذن، ليس ممكنًا في ضوء المعطيات الراهنة. فالمستطاع وفق هذه المعطيات هو ما يمكن أن نعتبره حلاً واقعيًا تستعيض كييف عبره عن معظم الأراضي التي تسيطر عليها روسيا بضمانات أمنية مناسبة لها، وكذلك بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والاستفادة من مميزات العضوية فيه، وخاصةً أنها في أشد الحاجة إلى دعم اقتصادي ومالي كبير وخطة إعمار متكاملة في حالة التوصل إلى اتفاق وإنجاز التسوية السلمية.
وهكذا يبدو أن تبادل أراضٍ أوكرانية والاتفاق على ضمانات أمنية تريدها كييف وأخرى تطالب بها موسكو هما المفتاح الذي لا بديل عنه للولوج إلى التسوية السلمية الواقعية أو الممكنة في ضوء الظروف والمعطيات الراهنة ووفق ميزان القوى الحالي. غير أنه يتعذر التقدم صوب هذه التسوية دون مرونة روسية تتيح التخلي عن بعض الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها. فإذا وافقت أوكرانيا على التخلي عن الأراضي التي ما زالت تسيطر عليها في مقاطعة دونيتسك، وتبلغ نحو ربع مساحتها، سيكون في إمكانها المطالبة باستعادة أراضٍ أخرى فقدتها وتحتلها القوات الروسية الآن. وربما تستطيع الحصول على أكثر مما تبدو روسيا مستعدة للانسحاب منه.
وإذا كان الحل العادل بعيدًا ومستبعدًا، وهو كذلك فعلاً، ربما تستطيع أوكرانيا تقليل عدم عدالة الحل الواقعي أو الممكن عن طريق استغلال حاجة روسيا الشديدة جدًا للأراضي التي لم تستطع احتلالها في مقاطعة دونيتسك بحيث تصبح سيطرتها على هذه المقاطعة كاملة. وعندها ربما تقبل روسيا استبدال مساحة من الأراضي الأوكرانية الأخرى بها. وقد يكون في إمكان كييف أن تطلب انسحاب القوات الروسية من الأراضي التي تسيطر عليها في خيرسون وزاباروجيا ، وهى أكبر من تلك التي تقبل موسكو الآن التخلي عنها في مقاطعتي خاركيف وسومي.
إذا دعمت إدارة الرئيس ترمب الموقف الأوكراني، يجوز أن تحصل روسيا على مقاطعتي شبه جزيرة القرم ولوغانسك، وهما تحت سيطرتها بشكل تام الآن
وإذا حدث ذلك، وهو ممكن إذا دعمت إدارة الرئيس ترمب الموقف الأوكراني، يجوز أن تحصل روسيا على مقاطعتي شبه جزيرة القرم ولوغانسك، وهما تحت سيطرتها بشكل تام الآن، ومعهما دونيتسك حال تخلي كييف عن الجزء الذي لا تزال تسيطر عليه فيها، وبذلك تستعيد أوكرانيا الأراضي التي فقدتها في مقاطعات خيرسون وزاباروجيا وخاركيف وسومي.
وإذا مضت الأمور في هذا الاتجاه ستبقى معضلة صياغة هذه التسوية الواقعية في اتفاق سلام، إذ يُتوقع أن ترفض كييف صيغة تفيد اعترافها بضم ثلاث مقاطعات إلى روسيا، أو يمكن تفسيرها على هذا النحو. ولهذا ستكون مهمة الدبلوماسيين البارعين في الصياغات التوافقية هي إيجاد صيغة يقبلها الطرفان بشأن الحدود الجغرافية الجديدة بين روسيا وأوكرانيا. فيا لها من مهمة دبلوماسية بالغة الصعوبة في السعي إلى تفاهم على تفاصيل التسوية السلمية أولاً، ثم في العمل لصياغتها بطريقة يقبلها الطرفان ثانيًا. ولكن لا بديل عن هذه المهمة إلا استمرار الحرب بدمارها وخرابها وآثارها الإقليمية والدولية الوخيمة إلى أجل غير مسمى.