تجول الطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء المنطقة. تُطلق صواريخ وقنابل تُدمر وتقتل وتغتال، وتمزق قواعد القانون الدولي كما لم يحدث منذ أن وُجد هذا القانون. قصفت القوات الإسرائيلية بأشكال ودرجات مختلفة في الفترة الماضية خمسة بلدان عربية. فلسطين طبعا في البدء، ولبنان وسوريا واليمن وقطر. وإذا أضفنا إلى ذلك إيران يصبح العدد ستة في منطقة الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه أصبح الحديث عن "إسرائيل الكبرى" متداولا تلوكه ألسنة أركان الحكومة الإسرائيلية وغيرهم.
يعتقد البعض أن هذا دليل على أن إسرائيل باتت تُهيمن على المنطقة. يذهب بعض هؤلاء إلى مدى أبعد فيتحدثون أو يكتبون عما يسمونه أو يظنون أنه عصر الهيمنة الإسرائيلية. وهذا اعتقاد في غير محله. فمن يُهيمن لا يحتاج لأن يفعل هذا كله، ويُعرّض نفسه لعُزلة دولية ويدمر بقواته وأسلحته صورة اجتهد في رسمها على مدى عقود طويلة. القوة المُهيمِنة على غيرها تستطيع أن تحصل على ما تريد دون اللجوء إلى كل هذه الاعتداءات. وهذا هو المقصود من مفهوم الهيمنة الذي يعني مزيجا من القيادة والنفوذ والسطوة التي تدفع الآخرين إلى أن يحسبوا حساب خطواتهم عندما تتعلق بالطرف المهيمن. كما ينطوي مفهوم الهيمنة على نوع من التسليم أو القبول من جانب المُهيمَن عليهم بانتظار معطيات جديدة تغير الأوضاع التي تضطرهم إلى ذلك. وتُترجم الهيمنة في اتفاقات شراكة يكون الطرف المُهيمِن هو الشريك الأكبر فيها، بينما المُهيمَن عليهم شركاء صغار.
إسرائيل تحاول تحقيق هذه الهيمنة باستخدام القوة الخشنة العارية من غطاء قانوني أو أخلاقي، بعد أن فشلت محاولات سابقة لتحقيقها بواسطة القوة الناعمة
لا تحتاج القوة المهيمنة إلى الضرب طول الوقت لكي تحقق مصالحها. فالمُهيمَن عليهم يأخذون هذه المصالح في الحسبان، أو يراعونها من تلقاء أنفسهم. ولا يحدث مثل هذا في الشرق الأوسط الآن، وليس هناك ما يدل على أنه سيحصل، فالهيمنة الإسرائيلية ليست مقبولة من جانب الدول العربية كما هو واضح في مواقفها التي كانت القمة العربية-الإسلامية الأخيرة في الدوحة تعبيرا واضحا عنها.
غاية القول إن إسرائيل تحاول تحقيق هذه الهيمنة باستخدام القوة الخشنة العارية من غطاء قانوني أو أخلاقي، بعد أن فشلت محاولات سابقة لتحقيقها بواسطة القوة الناعمة ومشاريع التعاون الإقليمى عقب توقيع "اتفاق أوسلو" 1993.
فقد قام شيمون بيريز وزير خارجية إسرائيل حينذاك بجهود كبيرة سعيا إلى تحقيق هذه الهيمنة من خلال مقاربات سلمية وتعاونية. وحاول تنفيذ ما طرحه فى كتابه الذي أصدره عام 1994 تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد". يقدم بيريز في هذا الكتاب تصورا شاملا لدمج إسرائيل في المنطقة بطريقة تُحقّق لها الهيمنة عبر مقاربة سلمية تقوم على بناء شراكات ومشاريع تكاملية مع الدول العربية. وكان مشروعه متكاملا يضع إسرائيل في قلب منطقة الشرق الأوسط محرِكا وموجِها على كل صعيد من ضمان الأمن والاستقرار الإقليمي إلى التعاون في مجالات عدة حدد أهمها في الفصول من الثامن إلى الحادي عشر مثل المياه والسياحة والصناعة والزراعة والموانئ.
فقد تصور بيريز، ومعه كثير من الإسرائيليين، أن الوضع بات مواتيا لمشروع الهيمنة السلمية بعد توقيع اتفاقي سلام خلال عام واحد. فقبل أن يجف مداد "اتفاق أوسلو" الفلسطيني-الإسرائيلي في سبتمبر/أيلول 1993 وُقع اتفاق وادي عربة بين إسرائيل والأردن في أكتوبر/تشرين الأول 1994. وتوسع نطاق التفاعلات الإسرائيلية الرسمية مع دول المنطقة. كما عُقدت لقاءات غير رسمية بين عدد قليل جدا من المثقفين العرب ونظرائهم الإسرائيليين سعيا إلى خلق شبكات لتطبيع العلاقات على المستوى الشعبي.
لكن تلك التفاعلات لم تحقق تقدما، وربما لم تغادر نقطة البدء التي انطلقت منها بسبب عدم قبول الدول العربية هيمنة إسرائيلية ناعمة، والنفور الشعبي الواسع الذي عرقل محاولات التطبيع. ووُضع المثقفون الذين انخرطوا فيها في موضع المتهمين الذين حُكم على سلوكهم هذا بالإدانة. وقد أوضح السيد عمرو موسى وزير خارجية مصر حينذاك، في الجزء الأول من مذكراته المعنونة "كتابِيَه"، كيف قاومت القاهرة تحركات إسرائيل في المنطقة. يروي مثلا أن بيريز اتصل به في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1994 بعد أيام من توقيع اتفاق وادي عربة لإبلاغه بأنه تم الاتفاق على عقد اجتماع لدول المنطقة والولايات المتحدة. وندع موسى يروي: "سألته: من اتفق مع من على الاجتماع؟ وما الموضوع المطروح بالضبط؟ قال بيريز إن الاجتماع سيضم إسرائيل ومصر والأردن وتركيا وتونس والمغرب وربما دول عربية أخرى، ومعها الولايات المتحدة. سألته: هل وافقت مصر على عقد هذا الاجتماع؟ قال: لهذا السبب أتصل بك الآن لإجراء الترتيبات. سألته: ما الهدف من الاجتماع؟ فقال إنه الأمن في المنطقة. قلت له إنني أجده أمرا خطيرا جدا أن أُبلغ عن اجتماع يُعقد غدا بشأن موضوع مهم مثل الأمن قبل أن تحدث مشاورات حوله، وبالتالي أنا لا أوافق عليه، ولكن بالنظر إلى خطورة الموقف والاقتراح سأعرض الأمر على الرئيس حسني مبارك".
ويكمل موسى موضحا أنه اتصل بمبارك ونقل إليه ما دار مع بيريز، ويضيف أن "مبارك فكر في حديثي لأقل من دقيقة واحدة ثم قال لي: معك حق. أنا موافق على موقفك، وطلب مني التصرف على هذا الأساس. وقال لي في نهاية المكالمة كلمة ما زلت أذكرها، وأذكر رنة صوته وهو يقولها. وكانت تلك الكلمة (بَوَّظ) الاجتماع".
وهذا مثال واضح على مقاومة الدول العربية مشروع الهيمنة الإسرائيلية الناعمة قبل ثلاثة عقود. ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن تقاوم هذه الدول المشروع الجديد للهيمنة الخشنة، وأن يفشل مشروع نتنياهو الإقليمي مثلما أخفق مشروع بيريز الذي كانت فرص نجاحه أكبر ربما بكثير.