أوروبا و"جدار الطائرات المسيّرة"

أوروبا و"جدار الطائرات المسيّرة"

استمع إلى المقال دقيقة

تصاعد القلق الأوروبي إزاء تقارير تفيد بأن روسيا تتعمد انتهاك الأجواء الأوروبية، ما دفع قادة الاتحاد الأوروبي إلى بحث سبل تعميق التعاون لتطوير قدرات دفاعية أكثر فاعلية. وتتصدر الأولويات خطة إنشاء ما يعرف بـ"جدار الطائرات المسيّرة" لحماية الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي من أي تهديد محتمل قد يفرضه الكرملين على أمن الحلف.

في الأسابيع الأخيرة، وُجهت إلى موسكو اتهامات متكررة بانتهاك الأجواء الأوروبية، كان أحدثها تعطيل حركة الطيران في الدنمارك بعد رصد طائرات مسيّرة مجهولة الهوية تحلق فوق عدد من مطاراتها. وفي أخطر هذه الحوادث، اضطرت السلطات الأمنية إلى إغلاق مطار كوبنهاغن مؤقتا، فيما شهدت مطارات أصغر اضطرابات شديدة.

وأشارت السلطات الدنماركية إلى تورط "جهة محترفة" في تلك الحادثة، وإن امتنعت عن توجيه اتهام مباشر إلى روسيا، بينما وصفت السفارة الروسية في كوبنهاغن تلك المزاعم بأنها "تكهنات عبثية". من جانبه، أوضح وزير الدفاع الدنماركي ترويلس لوند بولسن في مؤتمر صحافي أن ما جرى كان "هجوما هجينا" في إطار "عملية منهجية"، لافتا إلى أن الأجهزة أُطلقت من داخل الأراضي الدنماركية. ويُقصد بالهجوم الهجين استخدام مزيج من الوسائل العسكرية وغير العسكرية لتعطيل البنى التحتية أو المؤسسات الوطنية.

ودفع هذا التصعيد قادة الاتحاد الأوروبي إلى اجتماع طارئ في كوبنهاغن لبحث سبل تعزيز الأمن في البلاد. وسارعت المملكة المتحدة إلى إرسال تقنيات مضادة للطائرات المسيّرة إلى الدنمارك، فيما اعتلت قوات فرنسية متن ناقلة نفط مدرجة ضمن "أسطول الظل" الروسي لتفتيشها، ويشتبه في استخدام الناقلة كمنصة لإطلاق الطائرات التي عطلت حركة الطيران.

وفي ميناء بريست الفرنسي، قال المدعي العام ستيفان كيلينبيرغر لوكالة الصحافة الفرنسية إن القوات الفرنسية احتجزت اثنين من أفراد طاقم السفينة، قدما نفسيهما بصفتهما القبطان ومساعده الأول، موضحا أن التحقيق جار بسبب "عدم تقديم ما يثبت جنسية السفينة" و"رفض التعاون". وأضاف "لا شك أننا نواجه نمطا من الأعمال العدائية غير المباشرة، يختبر قدراتنا كما يختبر قدرات دول أخرى".

اتفق وزراء الدفاع في عشر دول أوروبية على المضي في إنشاء ما أسموه "جدار الطائرات المسيّرة" لتعزيز قدرات الرصد والتصدي

وتواجه روسيا اتهامات متزايدة بانتهاك الأجواء الأوروبية عبر الطائرات المسيّرة والمقاتلات، ما دفع عددا من الدول إلى رفع حالة التأهب. فقد طلبت إستونيا وبولندا الشهر الماضي مشاورات مع أعضاء "الناتو"، بعدما اخترقت نحو عشرين طائرة مسيّرة روسية الأجواء البولندية، ودخلت مقاتلات روسية من طراز "ميغ-31" المجال الجوي الإستوني في حادث منفصل. وأعلنت رومانيا أيضا أن طائرة مسيّرة روسية اخترقت أجواءها.
وردا على هذه التطورات، اتفق وزراء الدفاع في عشر دول أوروبية على المضي في إنشاء ما أسموه "جدار الطائرات المسيّرة" لتعزيز قدرات الرصد والتصدي. وأكدت قيادة "الناتو" أنها رفعت مستوى "اليقظة" في منطقة البلطيق تحسبا لأي اختراقات إضافية.
وقالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن: "يجب أن تكون أوروبا قادرة على الدفاع عن نفسها. علينا تعزيز إنتاج الطائرات المسيّرة، وتطوير قدرات التصدي لها، بما في ذلك بناء شبكة أوروبية من الإجراءات المضادة يمكنها الحماية والتصدي لأي اختراق خارجي". وأضافت: "آمل أن يدرك الجميع أننا في خضم حرب هجينة؛ فاليوم بولندا، وغدا الدنمارك، وربما الأسبوع المقبل سيتعرض بلد آخر للتخريب أو لتحليق الطائرات المسيّرة".
وقد جعل تزايد هذه الحوادث الجوية من روسيا تهديدا مباشرا لأمن القارة، لاسيما بعد غزوها أوكرانيا عام 2022، ما دفع قادة الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز تعاونهم لتطوير قدرات دفاعية أكثر فاعلية. ومن بين المقترحات المطروحة إعداد "خريطة طريق للجاهزية الدفاعية" تتضمن إنشاء "جدار الطائرات المسيّرة"، وهو شبكة من أنظمة الرصد والاعتراض لتمكين الدول الأعضاء من التصدي لأي اختراقات مستقبلية.

وتقود رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين الدعوات للإسراع في إنشاء هذا الجدار، مؤكدة أن "على أوروبا أن تقدم ردا قويا وموحدا على اختراقات الطائرات المسيّرة الروسية عند حدودنا، ولهذا سنقترح اتخاذ إجراءات فورية للشروع في التنفيذ".
من جانبها، شددت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على أن التركيز على الجبهة الشرقية لأوروبا لا يجب أن يعني إغفال الحدود الجنوبية للقارة، فيما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تبني مقاربة شاملة لمواجهة التهديد. أما الأمين العام لـ"الناتو" مارك روته فأعرب عن دعمه للمشروع واصفا إياه بأنه "ضروري وفي وقته المناسب".
في المقابل، انتقد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الفكرة قائلا: "كما علمنا التاريخ، فإن بناء الجدران كان دائما فكرة سيئة".
ورغم التوافق على المبدأ، برزت خلافات بين بعض القادة الأوروبيين بشأن كيفية المضي في التنفيذ. فقد حذر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس من أن إنجاز المشروع قد يستغرق ثلاث أو أربع سنوات. ودعا ماكرون إلى الحذر لكي لا يؤدي ذلك إلى رد فعل عدائي من موسكو، وأوضح: "نحن في زمن مواجهة تهيمن عليها الأساليب الهجينة. علينا أن نكون أقوياء لردع أي عدوان، لكن يجب أن نظل حذرين ونتجنب التصعيد". ومثل ذلك، حذرت ميلوني من المبالغة في الرد، مشددة على أن "علينا أن نفكر بهدوء، وأن لا نرد على الاستفزازات، لكن في الوقت نفسه يجب أن نجهز أنفسنا".
وعلى الرغم من هذه التحفظات، يبدو أن الاتحاد الأوروبي ماض في استثمار واسع النطاق لتعزيز أمن أجوائه، في خطوة مرشحة لمفاقمة التوتر المتصاعد بين روسيا والغرب.

font change