في خضم الضغوط غير المسبوقة التي يتعرض لها النظام الإيراني على جبهات متعددة، تُسهم موجة الجفاف الأسوأ في تاريخ البلاد الحديث في تعميق حالة الارتباك والقلق داخل دوائر النظام.
إذ أدت موجة الجفاف الاستثنائية والطويلة إلى خفض احتياطي المياه في البلاد إلى مستويات لا تكاد تكفي لتلبية احتياجات المدن الكبرى.
وفي العاصمة طهران وصل الوضع إلى مستوى خطير دفع الرئيس مسعود بزشكيان إلى التحذير من احتمال إصدار أوامر بإخلاء المدينة التي يقدّر عدد سكانها بنحو عشرة ملايين نسمة إذا لم تهطل الأمطار خلال الفترة المقبلة.
وناشد بزشكيان سكان طهران ضرورة ترشيد استهلاك المياه والالتزام الصارم بنظام التقنين الذي فرضته السلطات، محذرا من أن إجراءات أكثر تشددا قد تُتخذ قريبا. وقال الرئيس الإيراني إن فشل التقنين "قد يفرض على الحكومة اللجوء إلى خيار إخلاء طهران".
أثارت هذه التصريحات موجة من الانتقادات في الصحف الإيرانية وعلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث وصف رئيس بلدية طهران السابق، غلام حسين كرباسجي، الفكرة بأنها "مزحة" مشيرا إلى أن "إخلاء طهران لا معنى له إطلاقا".
ويزيد هذا التحدي البيئي من حجم الضغوط الواقعة على حكومة بزشكيان في ظل أزمة اقتصادية خانقة تسببت بها العقوبات الدولية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي المثير للجدل. وفي الوقت نفسه تواصل السلطات التعامل مع تداعيات الحرب التي جرت في الصيف الماضي مع إسرائيل، والتي أدت إلى تدمير أجزاء مهمة من البنية العسكرية في البلاد.
وفي موازاة ذلك يواصل النظام تقييم الأضرار التي لحقت ببرنامجه النووي بعد أن تعرضت عدة منشآت أساسية لقصف أميركي.
يزيد الجفاف بدوره من تراكم الأزمات التي تثقل كاهل الحكومة، ما يرفع احتمال اندلاع احتجاجات شعبية واسعة إذا لم يُعالج الوضع قريبا. وتدرك السلطات الإيرانية حساسية هذه الأزمة جيدا، مستعيدة ما حدث في عام 2021 حين أدت أزمة نقص المياه إلى احتجاجات عنيفة في محافظة خوزستان جنوب البلاد. وكانت البلاد قد شهدت أيضا مظاهرات متفرقة في عام 2018 خصوصا من جانب المزارعين الذين اتهموا الحكومة بالتقصير وسوء إدارة الموارد المائية.
ورغم غياب مؤشرات واضحة على اندلاع احتجاجات واسعة بسبب أزمة المياه الحالية، تبقى حالة الاحتقان الشعبي ملموسة في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة التي ترهق الإيرانيين. ويثير هذا الواقع مخاوف من احتمال تدهور سريع في الأوضاع إذا استمر الجفاف.
وبدأت بعض مظاهر التوتر تبرز داخل المجتمع، إذ نفذ طلاب جامعة الزهراء في طهران احتجاجا بعد أن فرضت الجامعة قيودا على استهلاك المياه. وتزامن ذلك مع بدء تطبيق نظام تقنين محدود في عدد من المساكن الجامعية.
وكان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قد حمّل الإدارات السابقة مسؤولية ما وصفه بسوء إدارة البنية التحتية للمياه. وأشار في تصريح خلال شهر أغسطس/آب الماضي إلى أن الأزمة الخطيرة وغير المتصورة التي تواجهها البلاد لا ترتبط فقط بانخفاض معدل الأمطار بما يقارب أربعين في المئة.
وفي الأثناء امتلأت القنوات التلفزيونية الإيرانية بخبراء ومحللين يشرحون كيف ساهمت عقود من سوء الإدارة، من الإفراط في بناء السدود وصولا إلى حفر الآبار غير القانونية والممارسات الزراعية غير الفعالة، في استنزاف احتياطيات البلاد المائية.
ومع استمرار هذا التدهور أصبح واضحا أن أزمة المياه تشكل واحدا من أخطر التحديات الداخلية التي يواجهها النظام منذ الثورة عام 1979.
فعلى سبيل المثال قال مدير سد لتيان، الذي يعد أحد المصادر الرئيسة لتزويد طهران بالمياه، إن السد لم يعد يحتفظ بأكثر من عشرة في المئة من طاقته الاستيعابية. ويواجه سد كرج القريب، الذي يغذي محافظتي طهران وألبرز بمياه الشرب، وضعا كارثيا مماثلا.
ونقل التلفزيون الرسمي عن أحد السكان المحليين المسنين قوله إنه "لم يشهد السد بهذا القدر من الجفاف طوال حياته". وفي السياق نفسه أوضح محمد علي معلم مدير سد كرج أن معدلات الأمطار تراجعت بشكل حاد، لافتا إلى أنهم سجلوا انخفاضا بنسبة اثنتين وتسعين في المئة مقارنة بالعام الماضي. وأضاف أن الخزان لا يحتفظ إلا بثمانية في المئة من مياهه، ومعظمها غير صالح للاستخدام وتعد مياها ميتة.
ولا تقتصر حدة الأزمة على طهران، إذ تشهد مدينة مشهد شمال شرقي البلاد، وهي ثاني أكبر المدن الإيرانية، تراجعا حادا في احتياطي المياه الذي انخفض إلى أقل من ثلاثة في المئة. كما حذرت وزارة الطاقة من أن تسعة عشر سدا رئيسا في البلاد باتت على وشك الوصول إلى مرحلة الجفاف الكامل.
وقد وصف كاوه مدني، نائب رئيس هيئة البيئة الإيرانية سابقا، الوضع في حديث لصحيفة "التلغراف" هذا الأسبوع بأنه "تجاوز مرحلة الأزمة". وأوضح أن "الحساب الجاري" المتمثل في خزانات الجبال الممتلئة بالأمطار، و"الحساب الادخاري"، المتمثل في المياه الجوفية التي اعتمدت عليها البلاد في سنوات الجفاف، قد نضبا بالكامل.
محاولات الحكومة تحميل جهات أخرى مسؤولية الأزمة لم تنجح في كبح سيل التعليقات والانتقادات المتواصلة التي تبثها القنوات التلفزيونية الإيرانية وتنشرها افتتاحيات الصحف
وقد زادت الحرب الإسرائيلية التي استمرت اثني عشر يوما، وتحديدا القصف الجوي الإسرائيلي الذي استهدف حي تجريش شمال طهران في 15 يونيو/حزيران، من هشاشة الوضع، إذ أظهرت مقاطع فيديو تداولها الإيرانيون بعد الضربة حدوث فيضانات شديدة في المنطقة. وفي اليوم التالي أعلن الجيش الإسرائيلي أنه قصف مراكز قيادة عسكرية إيرانية.
وقد أثارت هذه التطورات مزيدا من الشكوك حول نوايا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إذ رأى كثيرون أنه يحاول استثمار أزمة الجفاف لتكثيف الضغط على النظام الإيراني. وزادت هذه القناعة بعد أن لجأ مرتين خلال الصيف إلى إثارة قضية المياه في حملاته السياسية، متعهدا بتوفير تكنولوجيا إعادة تدوير المياه الإسرائيلية للإيرانيين "بمجرد أن تتحرر بلادكم"، في إشارة واضحة إلى تغيير النظام.
ومع ذلك فإن محاولات الحكومة تحميل جهات أخرى مسؤولية الأزمة لم تنجح في كبح سيل التعليقات والانتقادات المتواصلة التي تبثها القنوات التلفزيونية الإيرانية وتنشرها افتتاحيات الصحف.
ففي افتتاحية لصحيفة "جهان صنعت" اليومية الصادرة في طهران، كتبت الصحيفة: "بدلا من تقديم حلول هيكلية، حمّلت الحكومة الناس مسؤولية إدارة الأزمة". وأضافت: "إن المشكلة تكمن في سوء إدارة الموارد، وفي إدارة تجاهلت العلم والتحذيرات لسنوات. وها نحن اليوم أمام نتائج تلك السياسات: مدينة مضطرة إلى الصلاة من أجل المطر كي تواصل الحياة."
لقد اعتاد النظام الإيراني خلال الأزمات السابقة الاتكال على أجهزته الأمنية القوية للبقاء في السلطة. أما اليوم، فلا يملك سوى الأمل والدعاء بأن تمطر السماء في القريب العاجل.