مع إصرار روسيا على الاستمرار في هجومها العسكري على أوكرانيا من دون أي بادرة للتراجع، يبدو عرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب تقديم ضمانة أمنية "بلاتينية" لكييف في حال تنفيذ وقف إطلاق النار وكأنه أفضل أمل للأوكرانيين لوضع حد لسفك الدماء.
وتجلت بوضوح عزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على المضي في الصراع، بغض النظر عن مبادرة ترمب للسلام، قبيل عطلة عيد الميلاد، حين شنت القوات الروسية هجوما ضخما ومنسقا بالطائرات المسيّرة والصواريخ على عدد من المدن الأوكرانية.
وبحسب مسؤولين أوكرانيين، استخدم الروس أكثر من 600 طائرة مسيّرة و30 صاروخا في الهجوم، الذي أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص في أنحاء البلاد، بينهم طفل في الرابعة من عمره في إقليم جيتومير وسط أوكرانيا.
وحذّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أن جهود ترمب للسلام لم تغير من عزم الرئيس بوتين على القتال، وقال إن بوتين "لا يزال عاجزا عن تقبل فكرة أنه يجب أن يتوقف عن القتل. وهذا يعني أن العالم لا يمارس ما يكفي من الضغط على روسيا".
وعلى الرغم من الخسائر البشرية الفادحة، يبدو أن بوتين مصمم على مواصلة هجومه العسكري، فيما تتواصل محادثات السلام بين مسؤولين أميركيين وأوكرانيين وروس، مع ورود تقارير تفيد بأن روسيا نجحت أخيرا في السيطرة على بلدة سيفيرسك شرقي البلاد. وتعد هذه البلدة هدفا استراتيجيا رئيسا في مسعى موسكو للسيطرة على آخر مدينتين ضمن "حزام التحصينات"، وهما سلوفيانسك وكراماتورسك، اللتان لا تزالان تحت سيطرة أوكرانيا في إقليم دونتسك الصناعي.
وقالت القوات الأوكرانية الثلاثاء إنها تحركت "للحفاظ على حياة جنودنا وقدرة الوحدات القتالية"، مضيفة أن القوات الروسية تمتلك "أفضلية كبيرة في عدد الأفراد".
لطمأنة الأوروبيين وزيلينسكي، قدم المبعوثون الأميركيون العرض غير المسبوق للرئيس الأوكراني خلال محادثات مباشرة في برلين، لكن مسؤولين أميركيين حذروا لاحقا من أن هذا العرض لن يبقى على الطاولة إلى الأبد
وأظهرت أحدث الأرقام الصادرة عن الاستخبارات العسكرية البريطانية أن أكثر من 400 ألف جندي روسي قتلوا أو جرحوا خلال عام 2025، فيما تواصل روسيا اعتماد تكتيكات "المفرمة البشرية" الوحشية، من خلال الزجّ بجنود يفتقرون إلى التجهيزات في معارك ضد أسلحة أوكرانية متفوقة، ضمن خطة بوتين للاستيلاء على أراض في شرق أوكرانيا شبرا بعد شبر.
ومع اقتراب الصراع من دخول عامه الرابع واستمرار نزيفه، جاءت أحدث خطوة من إدارة ترمب عبر عرض ضمانات أمنية لكييف على غرار تلك التي يوفرها حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في محاولة لدفع مسار التسوية.
وطُرح العرض خلال الاجتماع الأخير للقوى الأوروبية في برلين، حين أبدى القادة الأوروبيون قلقهم من استعداد ترمب لتقديم تنازلات إقليمية أحادية لروسيا لإنهاء الحرب. ولطمأنة الأوروبيين وزيلينسكي، قدم المبعوثون الأميركيون العرض غير المسبوق للرئيس الأوكراني خلال محادثات مباشرة في برلين، لكن مسؤولين أميركيين حذروا لاحقا من أن هذا العرض لن يبقى على الطاولة إلى الأبد.
وفي المقابل، قال زيلينسكي إنه سيطلب من الولايات المتحدة فرض عقوبات إضافية على روسيا وتزويد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة، بما فيها الأسلحة بعيدة المدى، إذا رفضت موسكو المقترحات التي يجري بحثها بين كييف وواشنطن والقادة الأوروبيين. وأضاف: "أعتقد أن أميركا ستفرض ضغطا بالعقوبات وتمنحنا المزيد من الأسلحة إذا رفض [بوتين] كل شيء". وأوضح أن كييف تدعم فكرة وقف إطلاق النار، ولا سيما ما يتعلق بوقف الضربات على منشآت الطاقة خلال فترة عيد الميلاد.
وقال ترمب بعد محادثاته مع القادة الأوروبيين في قمة برلين: "إننا نحاول إنجاز الأمر. أجرينا محادثات عديدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأعتقد أننا أقرب الآن مما كنا في أي وقت مضى. سنرى ما يمكننا فعله".
أعقبت اجتماع برلين محادثات رفيعة المستوى في ميامي بين مسؤولين أميركيين وأوكرانيين، وصفها الأميركيون بأنها "مثمرة وبناءة". وبعد ثلاثة أيام من النقاشات بمشاركة ممثلين أوروبيين، أصدر المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف وكبير المفاوضين الأوكرانيين رستم أوميروف بيانا مشتركا قالا فيه إن المحادثات ركزت على مواءمة المواقف بشأن خطة من عشرين نقطة، وإطار "ضمانات أمنية متعددة الأطراف"، وإطار "ضمانات أمنية أميركية لأوكرانيا"، إلى جانب "خطة للتعافي الاقتصادي والازدهار"، مؤكدين أن الأولوية المشتركة هي "وقف القتل، وضمان الأمن، وتهيئة الظروف لتعافي أوكرانيا واستقرارها وازدهارها على المدى الطويل".
وجرت في ميامي أيضا محادثات منفصلة بين مسؤولين أميركيين والمبعوث الروسي كيريل ديميترييف.
وتلوح مؤشرات أولية إلى أن هذا الحراك الدبلوماسي الأخير برعاية واشنطن قد يحقق النتيجة المرجوة بإنهاء القتال. أما زيلينسكي فقدم تقييما متفائلا لمحادثات ميامي، مشيرا إلى أنها قد تفتح في نهاية المطاف الطريق أمام إقامة مناطق منزوعة السلاح في شرق أوكرانيا.
وقال زيلينسكي: "في مناطق دونتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون، يُعترف بخط انتشار القوات، اعتبارا من تاريخ هذا الاتفاق، بوصفه الخط الفعلي لانتشار القوات".
ووصف المقترح بأنه "الإطار الرئيس لإنهاء الحرب"، موضحا أنه يتضمن ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وحلف "الناتو" والشركاء الأوروبيين، وينص على رد عسكري منسق إذا ما غزت روسيا أوكرانيا مجددا. وفيما يتعلق بالقضية المحورية في شرق دونباس، أضاف أن خيار "منطقة اقتصادية حرة" مطروح ضمن البدائل قيد البحث.
وأوضح زيلينسكي فكرته للصحافيين قائلا إن أوكرانيا ترفض أي انسحاب، ولذلك فإن المفاوضين الأميركيين يدرسون إما إنشاء منطقة منزوعة السلاح وإما إقامة منطقة اقتصادية حرة. وأضاف: "هناك خياران، إما أن تستمر الحرب، وإما يجب اتخاذ قرار بشأن جميع المناطق الاقتصادية المحتملة".
ومع تقارب كييف وواشنطن حول عدد من أكثر عناصر خطة ترمب ذات العشرين بندا إثارة للجدل، أشار زيلينسكي إلى أن الكرة الآن باتت في ملعب بوتين، وتساءل إن كان الأخير سيبدي اهتماما حقيقيا بتسوية تفاوضية، أم إنه يعتزم متابعة أهدافه بالقوة. فإذا اختار الخيار الثاني، فإن الاحتمال الأكبر هو أن تصعد إدارة ترمب، بالتعاون مع حلفائها الأوروبيين، الضغط الاقتصادي على موسكو عبر العقوبات وغيرها من الإجراءات، إلى مستوى يضع الكرملين أمام خيارين: القبول بوقف إطلاق النار أو مواجهة أضرار جسيمة للاقتصاد الروسي.