إذا ما رغبت في اكتشاف الفضاء الشعبي لمدينة دمشق، وفحص طبقات القاع عن كثب، فما عليك إلا بزيارة ساحة المرجة. فهنا لا تحتاج إلى مجاز أو استعارات لتوصيف جماليات المكان، ذلك أن شرايين الحياة تصنع يومياتها باللحم الحي، من دون مراوغة، كأنك حيال صورة شعاعية للمدينة تشير إلى أعطاب الجسد المريض. حشود بشرية تتزاحم في الساحة وتفريعاتها صعودا ونزولا، من سوق الحميدية وشارع النصر إلى "سوق الحرامية"، ومبنى سجل النفوس. غرباء، ومرضى، وجنود في إجازة، وسماسرة وقوادون، يتوزعون الفنادق الشعبية والمقاهي والأرصفة وعربات الشواء.
تكمن أهمية هذه الساحة التي كانت في العصر العثماني أول مركز للعاصمة، خارج سور المدينة القديمة، في قيمتها التاريخية، وفي الوقائع المفصلية التي شهدتها، وإذا بها تتحول إلى أرشيف حي لتبدلات المدينة. أرتال طويلة تحتشد أمام مبنى السجل المدني للحصول على قيد نفوس أو بيان عائلي للتحقق من مصير آلاف المغيبين، على أمل أن يكونوا على قيد الحياة، فيما ضمت قوائم منع السفر أسماء ملايين الأشخاص بذرائع أمنية تتعلق بالمشاركة في تظاهرة ضد السلطة البائدة أو إيصال مساعدات طبية وغذائية للمدن المحاصرة أو الانفكاك عن العمل الوظيفي من دون إذن رسمي، أو بتهمة الإرهاب، أو الاتجار بالدولار، لكن هذه التهم العشوائية كما يفيد أحد ضحاياها تقع في باب الإتاوة لضباط وعناصر الفروع الأمنية (تدفع بالدولار أو الليرة الذهبية). ما أن نعبر كتف الساحة نحو شارع الثورة حتى نرتطم بحشود أخرى أمام السجل العقاري "الطابو" لتصحيح وثائق الملكية التي جرى تزويرها في فوضى الحرب بغياب أصحابها الحقيقيين.
غرباء من دون بوصلة
اليوم، لا مرج أخضر للنزهات كما وصفه المؤرخون والرحالة، ولا مجرى لنهر بردى، ولا طمأنينة في العبور بين أزقة المدينة، هناك خشية حقيقية من أن تكون ضحية عملية احتيال أو نشل أو مشاجرة مفتعلة. يصل الغريب إلى دمشق، من دون بوصلة تهديه بدقة إلى فندق في الساحة، يجول في أطرافها تائها، فينتشله سائق تاكسي من حيرته بأن يعيده إلى المكان نفسه بعد دورة التفافية أو دورتين في محيط الساحة معلنا وصوله بالسلامة.




