"المجلة" في شوارع دمشق ومقاهيها... سنة من "إطفاء الحرائق"

عام مضى على سقوط الأسد وحكمه

أ ب
أ ب
طفلان يحملان علما سوريا في ضاحية داريا في 5 ديسمبر قبيل الاحتفالات بالذكرى الاولى لسقوط بشار الاسد

"المجلة" في شوارع دمشق ومقاهيها... سنة من "إطفاء الحرائق"

في دمشق، يُخبرني سائق التاكسي أن المدينة باتت غريبة عليه، اعتاد أن يراها مليئة بالعسكر الذين يُفرغون جيوبه كلما مرّ من نقطة تفتيش، مدينة يظللها الخوف، والفقر، والإذلال المُمنهج من قبل نظام الأسد.

حدّثني عن الحياة التي عادت إلى المدينة، الوجوه الجديدة التي ملأت شوارعها، عن أربعة زبائن أجانب بذل جهدا في التفاهم معهم لمعرفة المكان الذي يريدون الذهاب إليه والتعريفة المتوقعة للرحلة، وعن السوريين الذين يركبون معه، بعضهم يتحدث عن الفرحة بالخلاص من الأسد وحكمه، وآخرون عن السياسة والتغيير وأهمية انفتاح الحكومة أكثر على أصحاب الكفاءات و"عدم التقوقع داخل دائرة من معنا ومن ضدّنا"، وآخرون يشتكون من غلاء الأسعار، والازدحام، وارتفاع سعر الخبز "لحم الكتف" كما يُسميه كثير من السوريين.

وصلت وجهتي، أعطيته النقود، قال لي: "كنت أدفع نصف هذه النقود للحواجز، إن شاء الله ذاهبون للأفضل، لكن يلزم صبرٌ منّا، وحكمة أكبر من أهل القصر".

طوابير الناس كثيرة، لكنّها ليست أمام الأفران أو على أبواب محطات الوقود، تراها في وزارة العدل بحثا عن الخلاص من أحكام الأسد بحقهم، وفي مؤسسات وزارة الداخلية لاسترجاع حقوقهم المسلوبة، وفي وزارة الخارجية لتصديق أوراق تساعد أهلهم في الخارج، وأمام الصرّافات الآلية لسحب النقود. يُخبرني شاب كان في وزارة العدل: "اعتقلت عدّة مرات، آخرها كانت بتهمة الإرهاب، سلبوا أموالي وحقّي في العيش دون شبهات، اليوم أنا أعمل على استعادة صفتي كمواطن سوري عاديّ، لا حكم عليه، ولا أملاك له مصادرة. أقف في الطابور مع العشرات من السوريين. ما زلنا نعاني من تعقيدات الأنظمة التي وضعها الأسد في الوزارة. الحكومة ما زالت في طور التطوير والتعديل، لكنهم يحتاجون إلى كفاءات كثيرة. هي المرّة السادسة التي أقف فيها في الطابور، كلّ مرّة يُطلب مني ورقة أو توقيع"، ويختم حديثه: "لا خيار أمامنا إلا الصبر، ونأمل أن لا تستمر حالة الشلل هذه طويلا".

في المقاهي الدمشقية يتجمّع السوريون، يكفي أن تُنصت قليلاً، لتسمع هموم الناس وآمالهم، الجميع فرح بعام من الحرية دون قيود وبطش الأسد، لكنّهم قلقون من المستقبل، يتحدثون عن غلاء الأسعار، عن الازدحام القاتل، عن مخاوف من عودة المحسوبيات إلى مؤسسات الدولة، عن ضرورة بذل جهود أكبر في ملفات المفقودين، والعدالة الانتقالية، وشفافية أكبر في العلاقات الدولية، غاضبون من انفتاح الحكومة السورية على الروس، لكنهم يتفهمون ضرورة التفاهم مع موسكو التي تمتلك قواعد عسكرية في سوريا، قلقون من حالات الطرد التي طالت كثيرا من السوريين العاملين في القطاع الحكومي، ويقولون إن ذلك ربما يخلق عدواً جديدا في الداخل وليس كل من عمل في مؤسسات الحكومة هو مؤيد للأسد، يقترحون حلولا لمعالجة القضايا العالقة في الداخل وآليات التعامل مع إرث الأسد المُدمّر. يُجمعون على ضرورة نجاح التجربة الجديدة في سوريا وأهمية دعم كل جهود إرساء الأمن والاستقرار في البلاد.

أب
رفع الاعلام السورية في وسط دمشق في 5 ديسمبر استعدادا للذكرى الاولى لسقوط بشار الاسد

في قهوة صغيرة قرب حمص، يجلس بعض الشباب، يتحدثون عن التوتر الكبير بين أهالي حمص، يحاولون البحث في كيفية تخفيف هذا التوتر، يقترح أحدهم أن يكون الشباب الأصدقاء في الأحياء هم زناد الأمان في أحياء العلويين والمسيحيين والسنّة، أن يكون الحرّاس دون سلاح، يجلسون ويتناوبون على مداخل الأحياء، يلقون التحية ويبتسمون للمشاة والأهالي. يُعقب آخر على الفكرة بالقول "نحتاج من الحكومة أن تدعم خطواتنا بتسهيل جلسات دورية مع الأهالي ليتحدثوا عن مخاوفهم، ويُفرغوا توترهم، ويقترحوا حلولا لبناء وتمكين الثقة فيما بينهم، علينا أن نعمل بحذر فإرث الأسد الشيطاني عميق ويحتاج وقتا لتغييره". يجول المرء شوارع حمص وقراها، يستشعر الخوف الذي يتملّك الناس، ويستشعر الأمل أيضا في أعينهم، وكأنهم جميعا يسألون عن الخلاص وسط الظلمة الممتدة لعقود مضت.

ملفات عديدة ما زالت تُعيق جهود الدولة، ملف الساحل المرتبك بين إرث الماضي وتعقيدات العلاقة مع الحكم الجديد، خوف في كل مكان هناك، وقلق بين مكونات الساحل، يبحث الأهالي عن ممكنات لتخفيف التوتر، وتبحث الحكومة عن ممكنات لبسط الأمن في المنطقة، يتحدّث عنصر من الأمن الداخلي في اللاذقية عن التعليمات الصارمة من قبل وزارة الداخلية، لا اعتقال دون سبب ودليل، أي مظاهرة محمية مهما كانت شعاراتها، وضرورة أن يكون الأمن الداخلي مصدر الأمان لا مصدر الخوف، الجميع لديهم تعليمات، ما حصل في مارس/آذار الماضي لا يمكن أن يتكرر، وكلّ مسؤول عن سلوكه أمام قيادة الأمن العام. يتحدّث عن خطر فلول النظام وخلايا "داعش"، ويتساءل عن غايات "داعش" من محاولة الوصول إلى الدرباسية والساحل السوري.

عام مضى على سقوط الأسد وحكمه، المدن السورية لم تتغير من ناحية الشكل وحجم الخراب، فلا المال الدولي والاستثمارات بدأت تظهر بشكل واضح، ولا الانفتاح السوري على العالم شكّل فارقا على حياة المواطن

الجنوب السوري هو الآخر مرتبك، وأهله يعيشون على "حافة الخراب" على حدّ قولهم، فإسرائيل تهدد أمنهم من خلال تدخلاتها، والخلاف بين الحكومة السورية وفصائل السويداء يؤرق تصوراتهم عن المستقبل، كثير من الأهالي يُمسكون على مدخراتهم، فلا يعلمون مصير الجنوب السوري في ظلّ التعقيدات الأمنية الداخلية والإقليمية. يؤكد كثير منهم استعدادهم للمساعدة في حلحلة الإشكاليات الحالية، وضرورة وضع حدّ لإيران وميليشياتها ومنعهم من التمدد من جديد، وجوهرية التوصل إلى حلول مع التدخلات الإسرائيلية، وحلّ الخلاف بين دمشق وفصائل السويداء. يقول محام من درعا: "علينا أن نتكاتف جميعا، لا يمكن الاستمرار في ظلّ هذا الواقع، حلّ مشاكل الجنوب ضرورة وخطوة جوهرية في طريق بناء مستقبل آمن ومستقر في سوريا".

الحديث عن شرق الفرات لا يغيب عن طاولات السوريين، الجميع يسأل عن مستقبل الملف، هل سيتحقق الاتفاق بين الحكومة و"قوات سوريا الديمقراطية"، أم إن الحرب قادمة؟ يخفضون صوتهم عند الحديث عن ممكنات الحرب، وكأنهم يريدون أن لا يسمع أحد عنه، كي لا يُصبح خيارا، فالحرب في شرق الفرات ستكون مكلفة. يتذكرون كوارث الساحل السوري شهر مارس الماضي، والسويداء في يونيو/حزيران الماضي. أهل الشرق السوري يتوقون لانضمام مناطقهم إلى الجغرافيا السورية بشكل كامل، لكن دون تكلفة بشرية. أبو محمد، رجل من مدينة الرقة في الثمانينات من العمر، يقول: "السلم سيّد الحلول، نأمل أن تكون الرقة والشرق السوري أصدقاء دمشق دون دماء".  

عام مضى على سقوط الأسد وحكمه، المدن السورية لم تتغير من ناحية الشكل وحجم الخراب، فلا المال الدولي والاستثمارات بدأت تظهر بشكل واضح، ولا الانفتاح السوري على العالم شكّل فارقا على حياة المواطن، فحرائق الأسد كثيرة، حرائق الجغرافيا الإقليمية التي سببتها سياسة الأسد في تفخيخ سوريا بالميليشيات الإيرانية والمخدرات، ومنح روسيا قواعد عسكرية لمساعدته في قمع المواطن السوري واستخدامها كورقة في مواجهة الغرب ونفوذه في الشرق الأوسط والمياه الدافئة، حرائق الجغرافيا تلك جعلت سوريا عامل تخريب في تركيا، لبنان، اليمن، العراق، أوكرانيا، وأفريقيا. والمخدرات السورية أرّقت دول الإقليم، الخليج العربي، والدول الأوروبية. يُضاف إليهم تنظيم "داعش" الذي سهّل له نظام الأسد عوامل الظهور، هذا الكابوس الذي ابتلع الأسد وكل السوريين، وحوّل سوريا إلى قبلة لكل المتطرفين في العالم.

الفرحة لا تُخفي نفسها باقتراب ذكرى انتصار الثورة السورية، العلم السوري يرفرف في كل الشوارع والمقاهي، ومع كل ابتسامة وحديث عن معركة "ردع العدوان" ترى الألسن تلعن زمن الأسد

عام مضى على سقوط الأسد وحكمه، وما زال السوريون يعيشون تداعيات عقود من سياسات التفكيك المجتمعي والتحشيد الطائفي المتعدد الذي انتهجه نظامي الأسد الأب والابن ورجالهما، فخخوا الشعب السوري، يخلقون الفوضى في مكان ما، ويمسكون المؤقت في مكان آخر، فككوا نفوذ العشائر، أججوا صراعات البدو والدروز، حكّموا جماعة الأسد (وليس الطائفة العلوية) في الساحل، فخخوا المجتمع الكردي وسلبوا حقّه، وغيّروا ديمغرافيا مدن كثيرة ليتمكنوا من حكم السوريين وقمعهم. تداعيات سياسات الأسدين يعيشها السوريون، من ناحية الثقة المتأرجحة ببعضهم البعض، وربط بعض الأحدث بالبعد الطائفي، والخوف من التغيير. 

أ ب
سوريون يحتفلون بالذكرى الاولى لسقوط بشار الاسد في دمشق في 6 ديسمبر

عام مضى، الحكومة السورية ورئيسها أحمد الشرع يعملون في إخماد الحرائق، وتعبيد الطرق الإنسانية والاقتصادية والسياسية عبر بناء تحالفات جديدة تُخرج سوريا من عزلتها وتفتح الأبواب أمام مستقبل سوري لا يعرف الاصطفاف، ولا يتدخل في علائق الإشكاليات الدولية، يريدون أن تبرد مخاوف العالم من سوريا، وتزداد ثقة الدول في الخطوات السورية الجديدة، تمهيدا لدخول الاستثمارات الدولية، وعودة رجال الأعمال السوريين لبناء وطنهم والاستثمار فيه، فالقبول الدولي والثقة السورية بالحكومة عوامل أساسية لبناء سوريا وترسيخ استقرارها وبسط الأمن فيها. 

الفرحة لا تُخفي نفسها باقتراب ذكرى انتصار الثورة السورية، العلم السوري يرفرف في كل الشوارع والمقاهي، ومع كل ابتسامة وحديث عن معركة "ردع العدوان" ترى الألسن تلعن زمن الأسد، تحضيرات كثيرة في ساحة الأمويين بدمشق، في المطاعم والمقاهي، في حمص، حلب، إدلب، الجنوب، دير الزور، والساحل السوري، الجميع يحتفلون ويستعدون لعام جديد، يأملون أن تكون جهودهم وجهود حكومتهم في إخماد الحرائق أقل، وأن يكون سعيهم لبناء البلاد هو الهدف الرئيس، لا أن تضيع طاقات وجهود الحكومة والشعب في تفكيك ألغام الأسد الاجتماعية والعسكرية.

عقود حكم آل الأسد حوّلت سوريا إلى قنبلة مؤقتة والسوريون جميعا يحاولون إبطالها منذ 8 ديسمبر الماضي.

font change

مقالات ذات صلة