في دمشق، يُخبرني سائق التاكسي أن المدينة باتت غريبة عليه، اعتاد أن يراها مليئة بالعسكر الذين يُفرغون جيوبه كلما مرّ من نقطة تفتيش، مدينة يظللها الخوف، والفقر، والإذلال المُمنهج من قبل نظام الأسد.
حدّثني عن الحياة التي عادت إلى المدينة، الوجوه الجديدة التي ملأت شوارعها، عن أربعة زبائن أجانب بذل جهدا في التفاهم معهم لمعرفة المكان الذي يريدون الذهاب إليه والتعريفة المتوقعة للرحلة، وعن السوريين الذين يركبون معه، بعضهم يتحدث عن الفرحة بالخلاص من الأسد وحكمه، وآخرون عن السياسة والتغيير وأهمية انفتاح الحكومة أكثر على أصحاب الكفاءات و"عدم التقوقع داخل دائرة من معنا ومن ضدّنا"، وآخرون يشتكون من غلاء الأسعار، والازدحام، وارتفاع سعر الخبز "لحم الكتف" كما يُسميه كثير من السوريين.
وصلت وجهتي، أعطيته النقود، قال لي: "كنت أدفع نصف هذه النقود للحواجز، إن شاء الله ذاهبون للأفضل، لكن يلزم صبرٌ منّا، وحكمة أكبر من أهل القصر".
طوابير الناس كثيرة، لكنّها ليست أمام الأفران أو على أبواب محطات الوقود، تراها في وزارة العدل بحثا عن الخلاص من أحكام الأسد بحقهم، وفي مؤسسات وزارة الداخلية لاسترجاع حقوقهم المسلوبة، وفي وزارة الخارجية لتصديق أوراق تساعد أهلهم في الخارج، وأمام الصرّافات الآلية لسحب النقود. يُخبرني شاب كان في وزارة العدل: "اعتقلت عدّة مرات، آخرها كانت بتهمة الإرهاب، سلبوا أموالي وحقّي في العيش دون شبهات، اليوم أنا أعمل على استعادة صفتي كمواطن سوري عاديّ، لا حكم عليه، ولا أملاك له مصادرة. أقف في الطابور مع العشرات من السوريين. ما زلنا نعاني من تعقيدات الأنظمة التي وضعها الأسد في الوزارة. الحكومة ما زالت في طور التطوير والتعديل، لكنهم يحتاجون إلى كفاءات كثيرة. هي المرّة السادسة التي أقف فيها في الطابور، كلّ مرّة يُطلب مني ورقة أو توقيع"، ويختم حديثه: "لا خيار أمامنا إلا الصبر، ونأمل أن لا تستمر حالة الشلل هذه طويلا".
في المقاهي الدمشقية يتجمّع السوريون، يكفي أن تُنصت قليلاً، لتسمع هموم الناس وآمالهم، الجميع فرح بعام من الحرية دون قيود وبطش الأسد، لكنّهم قلقون من المستقبل، يتحدثون عن غلاء الأسعار، عن الازدحام القاتل، عن مخاوف من عودة المحسوبيات إلى مؤسسات الدولة، عن ضرورة بذل جهود أكبر في ملفات المفقودين، والعدالة الانتقالية، وشفافية أكبر في العلاقات الدولية، غاضبون من انفتاح الحكومة السورية على الروس، لكنهم يتفهمون ضرورة التفاهم مع موسكو التي تمتلك قواعد عسكرية في سوريا، قلقون من حالات الطرد التي طالت كثيرا من السوريين العاملين في القطاع الحكومي، ويقولون إن ذلك ربما يخلق عدواً جديدا في الداخل وليس كل من عمل في مؤسسات الحكومة هو مؤيد للأسد، يقترحون حلولا لمعالجة القضايا العالقة في الداخل وآليات التعامل مع إرث الأسد المُدمّر. يُجمعون على ضرورة نجاح التجربة الجديدة في سوريا وأهمية دعم كل جهود إرساء الأمن والاستقرار في البلاد.

في قهوة صغيرة قرب حمص، يجلس بعض الشباب، يتحدثون عن التوتر الكبير بين أهالي حمص، يحاولون البحث في كيفية تخفيف هذا التوتر، يقترح أحدهم أن يكون الشباب الأصدقاء في الأحياء هم زناد الأمان في أحياء العلويين والمسيحيين والسنّة، أن يكون الحرّاس دون سلاح، يجلسون ويتناوبون على مداخل الأحياء، يلقون التحية ويبتسمون للمشاة والأهالي. يُعقب آخر على الفكرة بالقول "نحتاج من الحكومة أن تدعم خطواتنا بتسهيل جلسات دورية مع الأهالي ليتحدثوا عن مخاوفهم، ويُفرغوا توترهم، ويقترحوا حلولا لبناء وتمكين الثقة فيما بينهم، علينا أن نعمل بحذر فإرث الأسد الشيطاني عميق ويحتاج وقتا لتغييره". يجول المرء شوارع حمص وقراها، يستشعر الخوف الذي يتملّك الناس، ويستشعر الأمل أيضا في أعينهم، وكأنهم جميعا يسألون عن الخلاص وسط الظلمة الممتدة لعقود مضت.
ملفات عديدة ما زالت تُعيق جهود الدولة، ملف الساحل المرتبك بين إرث الماضي وتعقيدات العلاقة مع الحكم الجديد، خوف في كل مكان هناك، وقلق بين مكونات الساحل، يبحث الأهالي عن ممكنات لتخفيف التوتر، وتبحث الحكومة عن ممكنات لبسط الأمن في المنطقة، يتحدّث عنصر من الأمن الداخلي في اللاذقية عن التعليمات الصارمة من قبل وزارة الداخلية، لا اعتقال دون سبب ودليل، أي مظاهرة محمية مهما كانت شعاراتها، وضرورة أن يكون الأمن الداخلي مصدر الأمان لا مصدر الخوف، الجميع لديهم تعليمات، ما حصل في مارس/آذار الماضي لا يمكن أن يتكرر، وكلّ مسؤول عن سلوكه أمام قيادة الأمن العام. يتحدّث عن خطر فلول النظام وخلايا "داعش"، ويتساءل عن غايات "داعش" من محاولة الوصول إلى الدرباسية والساحل السوري.
