في مفارقة لا تخلو من الدهشة، لم يكن أشد التحذيرات من مصير الذكاء الاصطناعي صادرا عن السياسيين، ولا عن فلاسفة الأخلاق، ولا عن الناشطين المناهضين للتكنولوجيا، بل جاءت من الرجل الذي شارك في صنع هذه اللحظة بالذات. خرج جيفري هينتون الذي يلقب عالميا بـ"عراب الذكاء الاصطناعي" ليكسر صمته ويقف أمام العالم كاشفا أن البشرية تمضي نحو مستقبل لا تملك مفاتيح السيطرة عليه. وكأن الرجل الذي أضرم نار الثورة الرقمية بات اليوم يحذر من شرارة أخرى قد لا تنطفئ إن اندلعت.
هينتون الذي أمضى نصف قرن في تعليم الآلات كيف تتعلم، وكيف تتعرف، وكيف تستنتج، وجد نفسه فجأة أمام سؤال وجودي فماذا لو أصبحت الآلة قادرة على التفكير بمعزل عن الإنسان؟ وماذا لو أصبحت قادرة على مواجهة الإنسان؟ في حواره الأخير، ظهرت تلك النبرة التي يحملها العالم عندما يدرك أنه صنع ما يفوق حدود العلم نفسه. قال بصراحة صادمة إن النماذج المتقدمة قد تصل إلى نقطة تتفوق فيها على البشر فكريا، وتقاوم إيقافها، وتتبنى أهدافا فرعية تحافظ بها على بقائها حتى على حساب من صنعها. هنا يتجاوز النقاش حدود البرمجة والهندسة، ليدخل منطقة الفلسفة فمن سيملك الإرادة في العالم القادم العقل البشري أم العقل الاصطناعي؟
ولم تتوقف التحذيرات عند مستوى الخيال العلمي. تحدث هينتون بواقعية مرة عن عالم قد تستبدل فيه العمالة البشرية بالكامل بآلات لا تنام ولا تطالب بزيادة الأجور ولا تعتمد على شراء السلع التي يقوم عليها الاقتصاد. بطالة جماعية، وتفاوت طبقي غير مسبوق، وانهيار في نماذج الإنتاج والاستهلاك التي بني عليها العالم منذ قرون. ثم تأتي الحرب- ذلك المشهد الأبدي في تاريخ الإنسان- لتدخل هي الأخرى دائرة التحول، في صورة دول تملك جيوشا من الروبوتات وطائرات دون طيار ذاتية القرار، فتغدو الحرب أقل كلفة ماديا وسياسيا، وأكثر إغراء لمن يمتلك هذه القوة. وهنا تسقط المعادلة القديمة التي كانت تردع البشر عن القتال بثمن الدم.


