ترمب في المملكة المتحدة... هل يحافظ ستارمر على "العلاقة الخاصة"؟

قد تثير الزيارة الرسمية للرئيس الأميركي احتجاجات قصيرة الأجل وتؤدي إلى تراجع شعبية رئيس الوزراء "العمالي"

المجلة
المجلة

ترمب في المملكة المتحدة... هل يحافظ ستارمر على "العلاقة الخاصة"؟

تأتي زيارة دونالد ترمب إلى المملكة المتحدة في الفترة من 17 إلى 19 سبتمبر/أيلول في وقت حرج بالنسبة لرئيس الوزراء كير ستارمر، الذي تراجعت شعبيته بشكل لافت، فهو يتخلف بنحو عشر نقاط عن حزب "الإصلاح" البريطاني في استطلاعات الرأي، وهو تراجع حاد في عامه الأول في منصبه، وقد تضاءلت شعبيته بسبب سلسلة الفضائح الأخيرة التي أجبرت نائبه والسفير الأميركي على الاستقالة. إن زيارة الرئيس الأميركي الرسمية، التي ستشهد زيارته للملك تشارلز وسط أجواء احتفالية مميزة، قد تزيد الوضع سوءا نظرا لانعدام شعبية ترمب بين عموم الشعب البريطاني. وعلى الرغم من اختلافاتهما الأيديولوجية، تربط ستارمر وترمب علاقة قوية مثيرة للدهشة ويرى فيها الكثير من المراقبين واحدة من النجاحات القليلة التي حققها زعيم حزب "العمال" في منصبه حتى الآن. وعلى الرغم من تعامل ترمب العدائي في معظم الأحيان مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين الآخرين، نجح ستارمر عبر مسار حذر في إبقاء الرئيس الأميركي في صفه. ولكن هل سيبقى الوضع على هذا الحال طويلا؟ وفي مواجهة بيئة دولية ومحلية مليئة بالتحديات، هل يستطيع ستارمر الحفاظ على هذه "العلاقة الخاصة"؟

علاقة "خاصة" بنظر من؟

لطالما كانت "العلاقة الخاصة" بين لندن وواشنطن تعني أكثر للأولى. فمنذ الحرب العالمية الثانية، عندما شدد ونستون تشرشل لأول مرة على هذه العبارة، أبرزت حكومات المملكة المتحدة اللاحقة مدى أهمية العلاقات العابرة للأطلسي مع الولايات المتحدة مؤكدة على أن الرابطة بين الدولتين فريدة من نوعها. في الواقع، بريطانيا ليست سوى واحدة من عدة "علاقات خاصة" حظيت بها الولايات المتحدة تاريخيا، من بينها علاقتها القوية مع إسرائيل، وكانت أهميتها تتأرجح بين مد وجزر. حظي بعض قادة البلدين بعلاقات قوية، مثل رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، وجورج دبليو بوش وتوني بلير، بشكل خاص، لكن كثيرين غيرهم لم يكونوا بهذا القرب. وعلى الرغم من استمرار مستويات واسعة من التعاون مع المؤسسات الأميركية، ولا سيما في مجالي الدفاع والاستخبارات، فإن هذه العلاقة لم تبدُ "خاصة" على الإطلاق منذ استقالة بلير قبل نحو عشرين عاما.

على عكس الكثير من قادة العالم، يبدو أن ستارمر قد وجد، ما وصفته هولي إليات من قناة "CNBC"، بأنه "صيغة سحرية عندما يتعلق الأمر بالفوز بود ترمب

لم تحافظ تلك "العلاقة الخاصة" على أواصرها لجملة من الأسباب، أهمها سعي الرؤساء المتعاقبين، سواء أوباما أم ترمب، إلى تحويل اهتمام الولايات المتحدة نحو المحيط الهادئ، مما قلل من أهمية المملكة المتحدة الاستراتيجية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي حد من نفوذ لندن بين حلفاء واشنطن الأوروبيين. وقد سعت المملكة المتحدة إلى سد هذه الثغرات، من خلال القيام بدور قيادي في حرب أوكرانيا على سبيل المثال والالتزام بوجود عسكري في المحيط الهادئ عبر شراكة "AUKUS". بيد أن عودة ترمب إلى منصبه مع إصراره بمطالبة حلفاء الولايات المتحدة بالمزيد، وضعت ستارمر في موقف صعب لا يحسد عليه.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر خلال اجتماع ثنائي في ملاعب ترمب تيرنبيري للغولف، في تيرنبيري جنوب غرب اسكتلندا في 28 يوليو 2025

سحر ستارمر

مع ذلك، وعلى عكس الكثير من قادة العالم، يبدو أن ستارمر قد وجد، ما وصفته هولي إليات من قناة "CNBC"، بأنه "صيغة سحرية عندما يتعلق الأمر بالفوز بود ترمب". فخلال اجتماعهما الرسمي الأول في البيت الأبيض في فبراير/شباط، استغل رئيس الوزراء حب ترمب للملكية البريطانية وسلمه رسالة من الملك تشارلز يدعوه فيها إلى زيارة دولة رسمية ثانية، وهي خطوة غير مسبوقة نظرا لأن معظم القادة لا يُمنحون سوى دعوة لزيارة رسمية واحدة. وبناء على هذه الخطوة الذكية، نجح ستارمر، الذي لا يُعرف عنه أنه ودود ومحب للعلاقات الشخصية، في إقامة علاقة شخصية وثيقة مع ترمب. وفي قمة مجموعة السبع في كندا في يونيو/حزيران، بدا الزعيمان مقربين للغاية، وقال ترمب عنه: "أتفق معه بشكل جيد. أنا معجب به كثيرا"، وفي وقت لاحق قال: "العلاقة التي تربطنا رائعة". بل وذهب أبعد من ذلك ووصف ستارمر بالصديق، قائلا: "لقد أصبحنا أصدقاء في فترة قصيرة من الزمن"، وقال مازحا بشأن اختلافاتهما الأيديولوجية الحادة: "إنه أكثر ليبرالية مني بقليل".

يتداعى موقف ستارمر. وعلى الرغم من فوزه بأغلبية برلمانية ساحقة في يوليو 2024، فقد انحدرت شعبيته إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق

من المؤكد أن ستارمر استفاد من حب ترمب الفطري لإنكلترا وإعجابه الشديد بكل ما يتعلق بها. وفي إشارة لافتة لهذه المشاعر قال جيه دي فانس إن "الرئيس يحب المملكة المتحدة حقا"، ولطالما أبدى ترمب اهتماما وشغفا بتراثه الاسكتلندي. يملك ترمب أيضا مصالح تجارية ممتدة في المملكة المتحدة، ما يعني أنه على دراية جيدة بالبلاد وثقافتها. لكن ستارمر لعب بأوراقه السياسية بشكل جيد أيضا. وتماشيا مع مطالب ترمب لأعضاء حلف "الناتو"، التزم ستارمر بزيادة الإنفاق الدفاعي في المملكة المتحدة إلى 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ويهدف إلى زيادته إلى 3 في المئة في المستقبل. كما أنه لم ينتقد البيت الأبيض لفرضه رسوما جمركية في أبريل/نيسان، على عكس بعض الدول الأوروبية. وساهمت هذه الخطوات في إحراز ستارمر نجاحا كبيرا، حيث أصبح أول زعيم يوقع اتفاقية تجارية مع ترمب في مايو/أيار، وهو الأمر الذي يضمن حصول بريطانيا على معدلات رسوم جمركية وتعريفات على السيارات والصلب والصادرات أقل من بقية الحلفاء الأوروبيين. وربما ساهمت العلاقة الوثيقة أيضا في إقناع ستارمر الرئيس الأميركي، إلى جانب حلفاء آخرين من أوروبا وحلف "الناتو"، بالالتزام بضمانات الأمن الأوكرانية في أغسطس/آب، بعد أيام من رفض ترمب القيام بذلك في اجتماع مع فلاديمير بوتين في ألاسكا.

أ.ف.ب
ترمب وستارمر أثناء حديثهما لوسائل الإعلام في قمة قادة مجموعة السبع في 16 يونيو 2025 في كاناناسكيس، كندا.

مشاكل في الأفق؟

لكن ثمة مشاكل محتملة قادمة. ففي الداخل البريطاني، يتداعى موقف ستارمر. وعلى الرغم من فوزه بأغلبية برلمانية ساحقة في يوليو/تموز 2024، فقد انحدرت شعبيته إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق كرئيس للوزراء بعد عام واحد من توليه المنصب. ومع 22 في المئة فقط من البريطانيين لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه ترمب، و63 في المئة يكرهونه، وفقا لاستطلاع أجرته شركة "إبسوس" في يناير/كانون الثاني، فإن صور ستارمر وهو يعانق الرئيس الأميركي قد تؤثر على شعبيته بشكل أكبر، خاصة إذا بدا وكأنه يبالغ في التودد. وكان زعيم الحزب الثالث في بريطانيا، إد ديفي من الديمقراطيين الليبراليين، أعلن مؤخرا أنه سيقاطع مأدبة الدولة مع ترمب احتجاجا على تقاعسه في غزة، مما يفرض ضغوطا إضافية على رئيس الوزراء لاتخاذ موقف أكثر حزما تجاه السياسات الأميركية التي لا تحظى بشعبية أصلا.

قد تثير الزيارة الرسمية للرئيس الأميركي احتجاجات قصيرة الأجل وتؤدي إلى تراجع شعبية ستارمر المتدهورة أصلا، ومع ذلك قد يعتقد أن الأمر يستحق محاولة الصمود في وجه موجة الرفض الشعبي

أما على الصعيد الدولي، فثمة مصادر رئيسة ثلاثة للتوتر قد تهدد العلاقة بين ترمب وستارمر. تأتي في مقدمتها أوكرانيا. فرغم أن المملكة المتحدة ودولا أخرى في حلف "الناتو" أقنعت ترمب بالبقاء ملتزما في الوقت الحالي بأمن أوكرانيا، فإن الرئيس لا يزال غير قابل للتنبؤ، وأي تخلّ مفاجئ قد يتسبب في صدع كبير عبر الأطلسي. ثانيا، هناك قضية غزة. فمع استمرار الحرب، اتخذت المملكة المتحدة مسارا مغايرا عن موقف الولايات المتحدة تدريجيا، ومن المتوقع أن تعترف لندن بفلسطين في تحدّ لرغبات الولايات المتحدة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في وقت لاحق من هذا الشهر. ورغم حرص ستارمر على عدم انتقاد إسرائيل، واضعا نصب عينيه علاقته بالبيت الأبيض، ثمة استحالة متزايدة في الحفاظ على هذا الموقف محليا، وكلما طال أمد الحرب، زادت صعوبة الموازنة بين هذين الموقفين. وتأتي الصين أخيرا، على الرغم من أن ترمب يصف بكين بأنها تهديد كبير، إلا أن "التدقيق في الصين" الأخير الذي أجرته لندن قدم وجهة نظر أكثر دقة، مما يشير إلى أنها ستسعى إلى إدارة المقايضات بين الأمن القومي والفرص الاقتصادية. ففي ظل تعثر الاقتصاد البريطاني، ومراهنة ستارمر على النمو الاقتصادي خلال عهده كرئيس للوزراء، تشعر لندن بأنها لا تستطيع تحمل تبعات رفض التجارة والاستثمار القادمين من الصين، وهو ما قد يؤدي إلى خلافات مع واشنطن في المستقبل.

غيتي
رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مع الرئيس الأميركي جورج بوش في مؤتمر صحفي بكامب ديفيد قبل مناقشات الوضع في العراق في 7 سبتمبر 2007

الثبات على الموقف

في الوقت الحالي، من غير المرجح أن يغير ستارمر موقفه. قد تثير الزيارة الرسمية للرئيس الأميركي احتجاجات قصيرة الأجل وتؤدي إلى تراجع شعبية ستارمر المتدهورة أصلا، ومع ذلك قد يعتقد أن الأمر يستحق محاولة الصمود في وجه موجة الرفض الشعبي لإبقاء ترمب قريبا قدر الإمكان بشكل واقعي. غير أن المخاوف الحقيقية تكمن في ساحات الخلاف الدولي المحتملة مع الولايات المتحدة، والتي لا يملك ستارمر سوى سيطرة محدودة عليها. حتى الآن، لعب دورا محدودا إلى حد ما في بناء "علاقة خاصة" مع ترمب قد لا تكون على نفس مستوى العلاقة بين بوش الابن وبلير، ولكنها تبدو أقوى من علاقات ترمب بالكثير من زعماء العالم الآخرين. ويأمل رئيس الوزراء أن يلعب هذا الأمر مع النوايا الحسنة التي بنتها مناسبات عدة مثل الزيارة الرسمية دورا في المساعدة على حماية المملكة المتحدة من أي خلافات محتملة لاحقا.

font change

مقالات ذات صلة