العد العكسي لتوسع حرب أوكرانيا... طبول الحرب تدق في أوروبا

يختبئ جنود المشاة من اللواء الميكانيكي المستقل الثامن والعشرين من انفجار قنبلة يدوية أثناء خضوعهم لدورة تدريبية أساسية في مكان غير معلوم في شرق أوكرانيا في 11 أكتوبر 2025.

العد العكسي لتوسع حرب أوكرانيا... طبول الحرب تدق في أوروبا

أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، أنه يتوجب على أوروبا الرد على "الحرب الهجينة" التي تشنها روسيا، قائلة إن "شيئا جديدا وخطيرا" يحدث في سماء أوروبا. ويأتي ذلك بعدما عاشت أوروبا في الأسابيع الأخيرة على وقع الشكوك باختراق الطائرات الروسية المسيّرة للمجالات الجوية في كثير من البلدان بدءا من بولندا ورومانيا وأستونيا والدنمارك.

يُمثل هذا التطور اختبارا من الكرملين لصدقية حلف شمال الأطلسي ووحدته، وكذلك لتماسك الاتحاد الأوروبي. والأدهى أنه يمكن أن يدفع إلى توسيع حرب أوكرانيا وإلى تصاعد التوتر بين روسيا و"الأطلسي" على ضوء فشل محاولة الرئيس دونالد ترمب في إيقاف الحرب الأوكرانية.

التحدي الروسي المنهجي

في موازاة استمرار القضم الروسي للأراضي الأوكرانية (حوالي 20 في المئة)، والتباعد بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين. ترى روسيا الوقت مناسبا لقيامها بمحاولات جس نبض أوروبا والكشف عن الثغرات فيها، والأهم اختبار ردة فعل الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي ازاء التحدي المنهجي عبر حرب المسيرات.

في المقابل، يظهر العجز الأوروبي في مواجهة اختراقات المسيرات "الروسية"، وسبب ذلك الخشية من التصعيد العسكري أو لتجنب إثارة قلق الرأي العام إلى حد عدم الإشارة بوضوح إلى التحركات الروسية. يتقاطع ذلك مع إنكار روسي لأي مسؤولية، وعدم قدرة الأطراف الأوروبية على إثبات تورط موسكو، وهذا حدا بالبعض للشك بخروج المسيرات من على متن أسطول السفن الروسية "الشبح" المعدة لتصدير النفط.

تتفاقم حرب المسيرات ويتصاعد التوتر الروسي-الأطلسي الذي يبقى تحت سقف يمنع المجابهة المباشرة، من دون أن يعني ذلك عدم رغبة روسيا في القيام باختبار قوة مع "الناتو"

يبرز في هذا الإطار صراع على النفوذ بين حلف "الناتو" وروسيا، ويتعلق الأمر بسيادة الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي وخاصة دول الجناح الشرقي لـ"الناتو" ودول البلطيق. ومن هنا جرى تعزير مهمة "الحارس الشرقي" التابعة لـ"الناتو"، والتي تشمل طائرات مقاتلة أوروبية إضافية وسفينة حربية وأنظمة دفاع جوي، بالإضافة إلى مهمة حفظ الأمن الجوي الحالية والدفاعات الأرضية.

يتزامن "التحدي الروسي" مع عدم صمود "الصداقة" بين الرئيسين الأميركي والروسي، تماما كما في ولاية دونالد ترمب الأولى، خاصة بعد فشل قمة ألاسكا والتي أتت بعد اتصالات ولقاءات غير مثمرة حول إيقاف الحرب في أوكرانيا.

أ.ف.ب
قناصة بولنديون يرتدون ملابس تمويه أثناء تدريبات عسكرية لبولندا ودول حلف شمال الأطلسي في أورزيسز، شمال غرب بولندا، في 17 سبتمبر 2025

في التتمة، اعتقدت روسيا أن "الزخم" الذي أعقب اجتماع ترمب وبوتين "قد استُنفد إلى حد كبير". وفي هذا الصدد كان لافتا تصريح نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، الذي أشار إلى أن "الإجراءات الهدّامة، لا سيما من قبل الأوروبيين حالت دون إحراز تقدم في المفاوضات الرامية إلى إيجاد "تفاهم" بشأن حل النزاع في أوكرانيا".

هكذا تتفاقم حرب المسيرات ويتصاعد التوتر الروسي-الأطلسي الذي يبقى تحت سقف يمنع المجابهة المباشرة، من دون أن يعني ذلك عدم رغبة روسيا في القيام باختبار قوة مع "الناتو" وإثبات محدودية قدرته على رد التحدي.

يكشف الأمر أيضا عن وجوب قيام "تحالف الراغبين" و"الاتحاد الأوروبي" بملء أي فراغ في الدور الأميركي وإيجاد نوع من "توازن القوى" مع روسيا. لذا تختبر موسكو مدى الانخراط الأوروبي بعد إرهاصات تغيير في موقف ترمب.

مخاطر توسع حرب أوكرانيا

في السياق نفسه، لم تكن مصادفة في أوائل سبتمبر/أيلول الماضي، أن تنفرد صحيفة "لوكانار أونشينيه" الفرنسية بكشف النقاب عن تعليمات وجهتها وزارة الصحة الفرنسية إلى مديري الهيئات الصحية الإقليمية في 18 يوليو/تموز كي تستعد بحلول مارس/آذار 2026، لـ"اشتباك كبير" محتمل وتجهيز المستشفيات. وفي الوقت نفسه، تحت إشراف الأمانة العامة للدفاع والأمن الوطني، التابعة لرئيس الوزراء، تدرس وزارة الصحة "إنشاء مراكز طبية لاستقبال المرضى العائدين من مناطق القتال".

يبين ذلك الخشية من أن يؤدي التكتيك الروسي والضعف البنيوي الأوروبي إلى "تحويل حرب أوكرانيا إلى حريق هائل في أوروبا بأكملها"، حسب المقاربة الحذرة لتطور حرب أوكرانيا منذ 2022 حتى هذه الحقبة.

تشن روسيا حربا هجينة ضد خصومها الأوروبيين في موازاة حربها العسكرية في أوكرانيا، ويشمل ذلك الحرب الإلكترونية والتدخل السياسي خصوصا من خلال بعض أحزاب اليمين المتطرف

وبينما تكسر روسيا الخطوط الحمراء تصدر عن واشنطن إشارات مماثلة مثل احتمال تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك" البعيدة المدى، علما أنه سبق لترمب القول إنه ‏"يريد أن يعرف أولا في أي مكان سيستخدمونها وإلى أي جهة يرسلونها". وحينها حذر بوتين بأن "استخدام صواريخ توماهوك دون مشاركة مباشرة من ضباط أميركيين أمر مستحيل... وإرسالها لأوكرانيا سيضر بالعلاقات الروسية-الأميركية". لكن مهما تدهورت الصلة الأميركية لن يتعزز الالتزام الأميركي الذي سيبقى على شكل إسناد للأوروبيين الذين سيتحملون الأعباء المادية والعسكرية (إلى حد دفع ثمن العتاد الأميركي المرسل إلى أوكرانيا).

تضع روسيا إذن الأوروبيين أمام خيار التسليم بالأمر الواقع أو الدفاع عن أنفسهم وعن الحلفاء وعن " منظومة قيم أوروبا" في آن واحد.

ويجزم أكثر من مصدر أوروبي بأنه في حال استمرار تعثر جهود ترمب من جهة ومواصلة اندفاع بوتين من جهة ثانية، "لن تتوقف حرب موسكو عند حدود أوكرانيا. وأوروبا بأكملها مهددة".

هكذا يبدو التاريخ أحيانا وكأنه يتسارع. وإذا لم يتم إيجاد مخرج أو تسوية تقود إلى تجميد الوضع الحالي، سيزداد الربط بين الأمن الأوروبي والأمن الأوكراني وتُصبح أوروبا بأسرها في خطر. في مواجهة التمادي الروسي. ولذا سينعكس كل تسويف أو مماطلة في الاستجابة على أوكرانيا وعلى مصداقية أوروبا وأمنها.

وفي حال عدم توقفها واقتراب دخول الحرب عامها الرابع، يبدو من الصعب التعويل على الحلول الجزئية أو المرحلية، وتبقى الأولوية المطلقة هي حماية المدنيين في أوكرانيا والبنية التحتية الحيوية للبلاد، وبلورة الأوروبيين ردا متناسبا مع تكثيف الضربات الروسية.

تجد أوروبا نفسها منغمسة لكنها إزاء المخاطر الجمة، تمتلك القارة العتيقة الوسائل التقنية والعسكرية والمالية، وأكثر ما تحتاجه وحدة الموقف الأوروبي (المخترق من المجر وسلوفاكيا وتشيكيا) وكذلك الإرادة السياسية.

"أحصنة طروادة" داخل أوروبا

تشن روسيا حربا هجينة ضد خصومها الأوروبيين في موازاة حربها العسكرية في أوكرانيا، ويشمل ذلك الحرب الإلكترونية والتدخل السياسي خصوصا من خلال بعض أحزاب اليمين المتطرف. وبالفعل هناك عدم توازن في المعادلة، إذ إن النظام الروسي أوتوقراطي والقرار فيه أحادي ولا يوجد تداول حكم، على عكس ديمقراطيات أوروبية هشة في طريقة صناعة القرار وتنفيذه، ويمكن لاختراقات أجنبية أن تحصل تحت غطاء قوى سياسية.

الاتحاد الأوروبي يُمثل ما يقرب من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنة بأقل من 2 في المئة لروسيا

بالرغم من الانطباع بأن غالبية اليمين المتطرف الصاعد في أوروبا (كما حصل أخيرا في تشيكيا وقبلها في الكثير من الدول المؤثرة) تؤيد بوتين ولا تريد دعم أوكرانيا، والأصح أنه إزاء حرب أوكرانيا، يواجه اليمين المتطرف الفرنسي والأوروبي إحراجا كبيرا. وغالبا ما يعلن زعماء هذا التيار أنهم يدعمون الأوكرانيين، لكنهم يرفضون أي رد أوروبي على الصراع. وهكذا يتمظهر موقف مُحرج يتبناه اليمين المتطرف الأوروبي، المُمزّق بين إثبات "وطنيته" أو "انتمائة الأطلسي" (كرئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني) ودعمه أوكرانيا من على رؤوس الشفاه، وعلاقاته مع روسيا في الخفاء، وانبهاره بدونالد ترمب في الوقت نفسه.

بيد أنه يوجد قاسم مشترك برفض هذا التيار، أي الانخراط الأوروبي المباشر في الحرب من دون التنبه للإشارات "العدائية الروسية".

أ.ف.ب
جنود من اللواء الميكانيكي المستقل الثامن والعشرين يحمون أنفسهم ضد هجوم بطائرة بدون طيار وهم يخضعون لدورة تدريبية أساسية في موقع غير معلن في شرق أوكرانيا في 11 أكتوبر 2025

وفيما يتعدى نقاط الضعف، يلاحظ المراقب أن درجة الإقدام عند أوروبا لا تتناسب مع عناصر قوتها. وتبدو المفارقة صارخة: فالاتحاد الأوروبي يُمثل ما يقرب من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنة بأقل من 2 في المئة لروسيا. وزيادة على أرقام الاقتصاد يأتي الثقل الجيوسياسي وقوة القرار السياسي، وهذا غير متوافر لدى أوروبا التي تبقى قطبا اقتصاديا ولم تتحول إلى قطب جيوسياسي.

وقد تدفع أوروبا ثمن التردد الأوروبي والأطلسي في مواجهة النزعات التوسعية الروسية، أو أنصاف التسويات وفق أسلوب ترمب.

font change