الدولة الفلسطينية المرتجاة... نحو اعتراف سياسي غير مشروطhttps://www.majalla.com/node/326650/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%A9-%D9%86%D8%AD%D9%88-%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%81-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B7
قبل نحو سبع وسبعين سنة، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية. وقد شكّل هذا القرار الأساس القانوني لقيام دولة إسرائيل.
وكان من المقرّر أن تعقد الأمم المتحدة، في السابع عشر من يونيو/حزيران 2025، مؤتمرا جديدا للنظر في سبل تنفيذ "حلّ الدولتين"، بمبادرة من المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية. وكان من شأن هذا المؤتمر أن يشكّل محطة مفصلية في المسار الطويل الذي خاضه الشعب الفلسطيني لنيل حقّه غير القابل للتصرف في تقرير المصير، من خلال إقامة دولته المستقلة.
إلا أن المؤتمر لم يُعقد، بسبب الهجوم المباغت الذي شنّته إسرائيل في الثالث عشر من يونيو على إيران، واستهدفت فيه بنيتها التحتية العسكرية، ومنشآتها النووية، وقادتها العسكريين، وعلماءها النوويين، ما أدخل منطقة الشرق الأوسط في واحدة من أخطر الأزمات التي شهدتها منذ سنوات.
وستجد الدول التي لا تزال تتخذ مواقف مبهمة تجاه القضية الفلسطينية- خصوصا في ما يتعلق بممارسات إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023- نفسها مضطرة إلى اتخاذ موقف واضح. فإما أن تواصل إيجاد الذرائع لإسرائيل، رغم الكم الهائل من الأدلة التي تشير إلى أن سياساتها تهدف إلى إنهاء تطلعات الفلسطينيين في إقامة دولة قابلة للحياة، عبر مواصلة احتلال الأراضي الفلسطينية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك التطهير العرقي، بل فعليا الإبادة الجماعية. أو أن تفي بالتزاماتها في الدفاع عن العدالة وحقوق الإنسان وسيادة القانون.
فلا مبرر لتأجيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية بحجة انتظار "الوقت المناسب"، كما لم يعد هناك متسع لتأويل القانون الدولي بما يبرر أفعال إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية. فمحكمة العدل الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، والرأي العام العالمي، جميعهم يجمعون على أن أفعال إسرائيل، في الحد الأدنى، غير قانونية، وعلى الأرجح ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
ويكفي التذكير بأن محكمة العدل الدولية أصدرت آراء استشارية وتدابير مؤقتة في هذا السياق. ففي 19 يوليو/تموز 2024، خلصت المحكمة إلى أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية غير قانوني، وأن عليها إنهاء هذا الاحتلال، والتوقف عن إنشاء مستوطنات جديدة، وإخلاء المستوطنات القائمة. كما أكدت المحكمة على أن على جميع الدول الامتناع عن تقديم أي دعم أو مساعدة تسهم في استمرار الوضع الذي أحدثته إسرائيل من خلال وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبالتالي، فإن أي دعم مالي يُقدَّم إلى كيانات تُسهّل ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك تمويل بناء المستوطنات، يُعدّ مساعدة محظورة تُشكل تواطؤا في احتلال غير قانوني مستمر.
محكمة العدل الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، والرأي العام العالمي، جميعهم يجمعون على أن أفعال إسرائيل، في الحد الأدنى، غير قانونية، وعلى الأرجح ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية
وفي ضوء أن المحكمة وجدت أن هناك أساسا معقولا للنظر في الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة انتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، فإن قرار المحكمة السابق في قضية البوسنة وصربيا يوفر سابقة قضائية ذات صلة. فقد أكدت المحكمة، في حكمها، أن "على الدول واجبا في التأثير بشكل فعّال على عمل الأشخاص الذين يُحتمل أن يرتكبوا، أو يرتكبون بالفعل، إبادة جماعية". وينطبق ذلك على الدول التي توفّر الدعم المالي أو الاستخباراتي أو العسكري للحملة الوحشية التي تشنها إسرائيل في غزة.
علاوة على ذلك، فقد قامت منظمات حقوق الإنسان الحكومية وغير الحكومية الدولية، بما في ذلك منظمة العفو الدولية، و"هيومان رايتس ووتش"، ومكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بتوثيق وإدانة الكثير من الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية.
رأي عام عالمي سلبي تجاه إسرائيل
كما بدأ الرأي العام العالمي يتجه بشكل متزايد نحو معاداة إسرائيل. فقد أظهر آخر استطلاع نشره مركز "بيو" للأبحاث في 3 يونيو أن غالبية الأشخاص في 20 دولة شملها الاستطلاع عبّروا عن رأي سلبي تجاه إسرائيل. واللافت أن هذا التحول شمل اثنتين من أكثر الدول دعما لها. ففي الولايات المتحدة، عبّر 53 في المئة من المشاركين عن نظرة سلبية تجاه إسرائيل، بزيادة قدرها 11 نقطة مئوية منذ عام 2022، فيما ارتفعت هذه النسبة في المملكة المتحدة من 44 في المئة عام 2013 إلى 61 في المئة اليوم.
غير أن الانتقادات المتصاعدة لا تقتصر على الحكومات والمنظمات الدولية والرأي العام العالمي، بل تشمل أيضا قطاعا واسعا من المجتمع الإسرائيلي نفسه، حيث تبدي غالبية ملحوظة رفضها لسياسات حكومة نتنياهو. ففي مقال نُشر مؤخرا بصحيفة "الغارديان" بتاريخ 30 مايو/أيار، وجّه رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت انتقادات لاذعة للحكومة، قائلا: "ما نقوم به الآن في غزة هو حرب تدمير: قتل إجراميّ للمدنيين بطريقة عشوائية ووحشية لا حدود لها... أعتقد أن حكومة إسرائيل باتت الآن العدو الداخلي للدولة... لقد أعلنت (إسرائيل) الحرب على الدولة وسكانها... الإسرائيليون يرتكبون جرائم حرب".
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، في باريس، 9 يونيو 2025
وفي مقابلة مع الصحيفة نفسها بتاريخ 13 يوليو، وصف أولمرت خطة وزير الدفاع الإسرائيلي لإنشاء "مدينة إنسانية" في رفح بأنها شكل من أشكال التطهير العرقي، وهو ما أقرّ به رئيس الأركان الأسبق موشيه يعلون حين أعلن أن إسرائيل تمارس فعلا سياسة تطهير عرقي. كما أقرّ رئيس الأركان السابق موشيه يعلون بأن إسرائيل تنفذ عملية تطهير عرقي.
وبحسب الاستطلاع نفسه الصادر عن مركز "بيو"، ورغم أن غالبية الإسرائيليين لا يزالون يشككون في إمكانية تحقيق السلام مع الفلسطينيين، فإن 53 في المئة منهم يبدون موقفا سلبيا تجاه نتنياهو، ويرتبط ذلك بشكل أساسي بسياساته المتبعة في غزة.
كما بدأ الرأي العام العالمي يتجه بشكل متزايد نحو معاداة إسرائيل، فقد أظهر آخر استطلاع نشره مركز "بيو" للأبحاث في 3 يونيو أن غالبية الأشخاص في 20 دولة شملها الاستطلاع عبّروا عن رأي سلبي تجاه إسرائيل
ومع ذلك، لا تزال مواقف الدول الأوروبية الكبرى أقل بكثير مما تقتضيه اللحظة التاريخية. فعلى الرغم من إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في رسالة وجّهها إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أن "فرنسا ستعترف بالكامل بالدولة الفلسطينية عندما أتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول"، فإن هذا الإعلان، برغم رمزيته، يبرز ترددا سياسيا واضحا. إذ إن ربط الاعتراف بتوقيت لاحق، مشروط أو مؤجل، إنما هو مناورة دبلوماسية محسوبة أكثر منه التزاما حاسما. إنه في ظاهر الأمور خطوة إلى الأمام، لكنه في الجوهر يتيح المزيد من الوقت للمماطلة، ويفتح الباب أمام الضغوط والتراجعات، فيرتد بذلك خطوة أخرى إلى الوراء.
يصعب تفسير الموقف الفرنسي، لكن النتيجة المباشرة واضحة، فقد أتاح تأجيل الاعتراف الفرصة لثلاث دول أوروبية كبرى– هي المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا– للتمسك بمواقفها المشروطة والمبنية على ذرائع واهية، تفتقر إلى الحد الأدنى من المصداقية السياسية. كما وفّر التأجيل لإسرائيل فرصة لمهاجمة فرنسا، واتهامها بـ"مكافأة الإرهاب"، في محاولة مكشوفة لتقويض أي تحرّك دولي نحو الاعتراف الجماعي بالدولة الفلسطينية.
وربما الأخطر من كل ذلك، أن هذا التأجيل فتح الباب أمام تصعيد الضغوط الأميركية الرامية إلى إفراغ مؤتمر الأمم المتحدة من مضمونه، ومنع تحقق أهم نتائجه المحتملة: أي توسيع دائرة الدول الأوروبية التي تعترف رسميا بفلسطين كدولة مستقلة.
وحتى اليوم، اعترفت أكثر من 140 دولة من مختلف القارات– باستثناء أميركا الشمالية وأستراليا– بالدولة الفلسطينية. وتبقى أوروبا، رغم صِلاتها الوثيقة بالشرق الأوسط، القارة الأكثر تردّدًا وانقسامًا. والغالبية العظمى من الحكومات الأوروبية المتحفّظة تتّخذ مواقف تتناقض بوضوح مع الرأي العام في بلدانها.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الفلسطيني محمود عباس في قصر الإليزيه الرئاسي في باريس في 20 يوليو 2022
ففي بريطانيا، على سبيل المثال، وقبل أيام فقط، وجّه أكثر من 220 نائبا في البرلمان– من مختلف الأحزاب– دعوة صريحة لرئيس الوزراء كير ستارمر للاعتراف بدولة فلسطين قبل انعقاد المؤتمر الأممي. ومع ذلك، اختار ستارمر الحذر، معلنًا أن الاعتراف يجب أن يكون جزءا من "خطة عملية أوسع" تهدف إلى تحقيق حل الدولتين من خلال التفاوض، وكأن الفلسطينيين لم يُنتظروا سبعة عقود من الوعود والمراوغات.
أما بشأن كيفية المضي قدما في المؤتمر، فمن المتوقع أن يصدر إعلان ختامي تجري المصادقة عليه من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ورغم أن قرارات الجمعية العامة تُعد في الأساس توصيات غير ملزِمة، ويمكن، للأسف، أن تختار الدول الأعضاء تجاهلها، فإن اعتمادها بشكل متكرر وبأغلبية ساحقة– كما هو الحال في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية– يجعل منها مؤشرا بالغ الدقة على توجهات الرأي العام الدولي.
ربط الاعتراف بتوقيت لاحق، مشروط أو مؤجل، إنما هو مناورة دبلوماسية محسوبة أكثر منه التزاما حاسما
لدي اقتراح محدد للمؤتمر، ولكن قبل طرحه، من الضروري توضيح الأسس التي يستند إليها:
أولا: يجب أن يكون الاعتراف بالدولة الفلسطينية غير مشروط. فلا يجوز ربطه بأي متطلبات مسبقة، إذ لا يوجد أي شكل من أشكال التكافؤ– لا أخلاقيا ولا سياسيا ولا واقعيا– بين إسرائيل بوصفها قوة احتلال، والدولة الفلسطينية التي لا تزال في طور التشكّل وتخضع أراضيها للاحتلال.
ثانيا: يحتاج الشعب الفلسطيني إلى حماية فورية، في حين تبدي إسرائيل هواجس أمنية. غير أن معالجة هذه الهواجس لا يجوز أن تجري على حساب الحقوق الأساسية للفلسطينيين. فالقضية في جوهرها إقليمية، ويجب التعامل معها ضمن هذا الإطار الشامل.
ثالثا: تُجمع المؤشرات على أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ماضية في عرقلة تنفيذ حل الدولتين، ما يستدعي اتخاذ إجراءات حازمة تُرغمها على التراجع عن سياساتها. وفي المقابل، ينبغي ضمان حماية الفلسطينيين على أراضيهم، سواء في غزة أو الضفة الغربية. باختصار، لا يجوز الاستمرار في التعامل مع إسرائيل وكأن شيئا لم يحدث. يجب أن لا يُسمح لها بتجاهل قرارات الجمعية العامة دون تبعات. فلا بد من وجود عواقب حقيقية.
رابعا: يجب أن يستند البيان الختامي للمؤتمر إلى أحكام القانون الدولي، التي تدين بوضوح لا لبس فيه استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والاستخفاف الممنهج بالقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان. وينبغي أن يستند البيان تحديدا إلى قرارات محكمة العدل الدولية، التي تلتزم الدول الأعضاء باحترامها وتنفيذها وفقا لميثاق الأمم المتحدة.
خامسا: ينبغي أن تُدرج الحوافز المقدّمة لإسرائيل، بما في ذلك تلك المرتبطة بهواجسها الأمنية، ضمن إطار منظومة أمنية إقليمية متكاملة تتضمن أبعادا سياسية واقتصادية وعسكرية. ويمكن الإعلان عن هذه الحوافز كجزء من رؤية شاملة، على أن يُؤجَّل تنفيذها إلى حين التحقق الكامل من أن إسرائيل قد بدأت فعليا بمراجعة سياساتها القائمة.
أما فيما يتعلق باقتراحي، ونظرا لاحتمال تعذّر التوصل إلى إجماع كامل بشأن جميع الإجراءات الرامية إلى محاسبة إسرائيل، فأرى ضرورة تضمين الوثيقة الختامية للمؤتمر حزمة من العقوبات الممكنة. ويمكن تنفيذ هذه العقوبات بصيغة متعددة الأطراف، أو على المستويين الإقليمي والوطني، مع الاستفادة من سوابق قائمة في الأمم المتحدة وهيئات دولية أخرى، مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، واللجنة الأولمبية الدولية، ومسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن). ولكل دولة أو منظمة إقليمية أن تختار ما يتناسب مع إمكاناتها وظروفها الخاصة.
خلال المحاكمة في دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل المقدّمة إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، 17 مايو 2024
ويمكن أن تشمل هذه القائمة، من بين أمور أخرى:
- حظرا شاملا على الأسلحة.
- عقوبات اقتصادية على شكل قيود تجارية وحظر على التبادل التجاري.
- عقوبات مالية مثل تجميد الأصول وفرض غرامات مالية ممنهجة، تُطبَّق على البنوك الإسرائيلية التي تموّل الاستيطان، مثل بنك هبوعليم وبنك لئومي.
- فرض عقوبات على قطاعات محددة، لا سيما على كبار مصنّعي الأسلحة الإسرائيليين، والشركات المرتبطة بالمستوطنات.
- عقوبات ثقافية، تشمل منع إسرائيل من المشاركة في الفعاليات الرياضية العالمية والمسابقات الثقافية الدولية.
- قيود على النقل والشحن، تشمل حظر استخدام الموانئ والمجال الجوي، بالإضافة إلى تفويضات للتفتيش والاعتراض.
- عقوبات تكنولوجية ورقمية، مثل فرض قيود على تصدير التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، وتقييد خدمات البرمجيات.
إضافة إلى ذلك، يمكن دعوة مجلس الأمن إلى إدراج شخصيات وكيانات إسرائيلية ضمن قوائم العقوبات، على غرار ما جرى في حالة سوريا. كما يمكن للمجلس أن يصرّح بتصدير الموارد الإسرائيلية من الغاز الطبيعي تحت رقابة صارمة، مع تحويل العائدات إلى حساب ضمان تُشرف عليه الأمم المتحدة، ويُخصص لتعويض الضحايا وتمويل جهود إعادة الإعمار، على نحو مشابه لبرنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي طُبق في العراق.
غير أن تعزيز فاعلية ومصداقية مثل هذه الإجراءات يتطلب، في رأيي، النظر في تحديد مهلة زمنية نهائية لامتثال إسرائيل لقرارات الجمعية العامة، على أن تُتخذ بعدها خطوات إضافية إن استمر التجاهل. وفي ما يتعلق باختيار تاريخ رمزي لهذه المهلة، فقد اقترح مفكر إسرائيلي معروف بعمق انتمائه الوطني تاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني، لما يحمله من دلالة تاريخية بارزة، إذ صوّتت الجمعية العامة في هذا اليوم قبل سبعة وسبعين عاما على قرار قيام دولة إسرائيل. وبالتالي، سيكون من المناسب للغاية أن تتولى الهيئة ذاتها اتخاذ تدابير حاسمة ضد إسرائيل، ومن أجل تمكين الدولة الفلسطينية من نيل اعترافها وحقوقها.
التأثير في الرأي العام الإسرائيلي
إذا ما واصلت إسرائيل تجاهل قرارات الجمعية العامة حتى ذلك التاريخ، يتعيّن على كل من الجمعية العامة ومجلس الأمن اتخاذ خطوات حاسمة.
لطالما دعوتُ مجلس الأمن إلى تبني قرار يُكرّس المعايير المعترف بها دوليا لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وفي مقدمتها مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة. ويجب أن يتضمن هذا القرار آلية واضحة للتنفيذ، تشمل إنشاء قوة حماية دولية مكلّفة بتوفير الأمن للفلسطينيين. وقد جددتُ هذا الطرح في هذه المجلة خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2023.
ولا ينبغي أن يشكل ن أنأاعتراض الولايات المتحدة المتوقع باستخدامها حق النقض (الفيتو) لمنع صدور مثل هذا القرار، أي عائق. فالقرار في نهاية المطاف يعود إليها، وهي وحدها من يحدد الجانب الذي ترغب في الوقوف معه.
أما الجمعية العامة، فهي تملك صلاحية تعليق مشاركة إسرائيل في أنشطتها، ويُستشهد في هذا السياق بسابقة جنوب أفريقيا. ففي عام 1974، اعتمدت الجمعية القرار رقم 3181 الذي علّق مشاركة جنوب أفريقيا بسبب سياسات الفصل العنصري التي انتهجتها، والتي شكّلت انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وسياستها في كل من ناميبيا وروديسيا، والتي أسهمت في زعزعة استقرار الإقليم.
وقد أسفر ذلك القرار فعليا عن حرمان جنوب أفريقيا من ممارسة عضويتها في الجمعية العامة. ويمكن تطبيق إجراء مماثل بحق إسرائيل، التي ارتكبت انتهاكات واسعة النطاق لأحكام القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، وأسهمت بشكل مباشر في زعزعة استقرار المنطقة.
وينبغي، تبعا لذلك، تعليق مشاركة إسرائيل في أنشطة الجمعية العامة إلى حين امتثالها لقرارات الأمم المتحدة. فإذا كانت جنوب أفريقيا قد علّقت عضويتها في عام 1974 للأسباب ذاتها، فلماذا يظل المجتمع الدولي مكتوف الأيدي أمام ارتكاب إسرائيل لنفس الانتهاكات، بل على نطاق أوسع؟ علما بأن جنوب أفريقيا لم يُسمح لها باستئناف مشاركتها إلا في عام 1994، بعد انتهاء نظام الفصل العنصري.
قرارات الجمعية العامة تحمل قيمة سياسية كبيرة، فإنها لا تكفي وحدها لإحداث التغيير المطلوب. لذلك، يتعين على الدول الأعضاء اتخاذ تدابير موازية تستهدف التأثير في الرأي العام الإسرائيلي
ورغم أن قرارات الجمعية العامة تحمل قيمة سياسية كبيرة، فإنها لا تكفي وحدها لإحداث التغيير المطلوب. لذلك، يتعين على الدول الأعضاء اتخاذ تدابير موازية تستهدف التأثير في الرأي العام الإسرائيلي، لإفهامه أن السياسات التي تنتهجها الحكومة الحالية لا تقود إلا إلى تعميق عزلة إسرائيل على الساحة الدولية. والهدف من ذلك هو تمهيد الطريق أمام نشوء حكومة إسرائيلية تتوافق مع متطلبات حل الدولتين.
لقد خسرت إسرائيل بالفعل في محكمة الرأي العام العالمي. فبمواصلتها احتلال الأراضي الفلسطينية، وتهجير السكان، وفرض العقاب الجماعي والتجويع، تكون قد انتهكت بشكل ممنهج أحكام القانون الدولي، والقانون الإنساني، وقانون حقوق الإنسان.
دخان كثيف يتصاعد خلال الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة في 27 يوليو 2025
ومن هنا، يجب أن يخرج المؤتمر، بأغلبية ساحقة، بقرار يحمّل إسرائيل المسؤولية، على أمل أن يدفعها ذلك إلى مراجعة سياساتها الراهنة إزاء الفلسطينيين، والعمل بجدية على تنفيذ حل الدولتين.
ولا يكفي الاكتفاء بترديد أن "التاريخ سيحاسب" الدول التي تسعى لإفشال المؤتمر، سواء عبر ربط الاعتراف بالدولة الفلسطينية بشروط تعجيزية، أو من خلال تبرير المواقف التي تعيق مساءلة إسرائيل على المستوى الدولي. لا بد أن يكون هناك ثمن واضح لمثل هذه المواقف.
وفي الأثناء، ينبغي على المجتمع الدولي أن يواصل الضغط من أجل التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين دون انقطاع، إضافة إلى ضمان انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، والتراجع عن جميع الإجراءات التي اتخذتها في الضفة الغربية، وفي مقدمتها الأنشطة الاستيطانية.